بحث

عثمان بن عفان1 قدوة في الإيمان والسخاء

عثمان بن عفان1 قدوة في الإيمان والسخاء

بسم الله الرحمن الرحيم

     هذا الصحابي الجليل كان من السابقين إلى الإسلام، ولقد كان سيدنا عثمان غنيًّا، لكن العجيب أن هناك صحابيًّا غنيًّا وآخر فقيرًا، وفيهم صحابي متقدِّم في السن، وآخر شاب ، وصحابي صبي، وصحابي طفل، وهناك صحابي ألمعي، وآخر بسيط، فتنوُّع الصحابة يعطيك تنوُّع النماذج البشرية . فكل واحد منكم بوضعه، بإمكاناته، بثقافته، بانتماءاته، بحرفته يمكن أن يحقق أعلى درجات البطولة، هذه البطولة أبوابها مفتَّحةٌ لكلِّ مؤمن، ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾ .

     والنبي عليه الصلاة والسلام وصف هذا الصحابي الجليل بأوصاف رائعة جداً، وانتبهوا إلى هذا الكلام، فهو عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى، بينما أيُّ إنسان آخر يمكن أن ينطق عن الحق، وعن الهوى، أما النبي عليه الصلاة والسلام لا في غضبه, ولا في رضائه، ولا في شدَّته, ولا في بحبوحته ينطق عن الهوى, قال تعالى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾، فإذا وصف النبي صحابياً جليلاً بصفاتٍ رائعةٍ، فهذا الوصف حق وصدق، لا شكَّ فيه أبداً.  

     فسيدنا عثمان بن عفان كان شخصًا أخلاقيًّا، فلما سمع بدعوة النبي عليه الصلاة والسلام سارع إلى تصديقها والإيمان بها، فكان خامس صحابي من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام دخل الإسلام, كان محمد صلى الله عليه وسلَّم قبل أن يكون رسولاً يملأ الأفئدة الذَّكية الصافية روعةً وتأثيرا، وكان لعثمان فؤادٌ من هذا الطراز، يحمل لمحمد صلَّى الله عليه وسلَّم أروع الصور وأبهاها. هذا الصحابي الجليل سارع إلى الإيمان برسول الله عليه الصلاة والسلام، لا لأنه سمع منه الكثير، وناقشه كثيراً، فالقضية أقوى من ذلك، فأخلاق النبي العالية، وسماته العظيمة، وسمعته الطيبة، وكماله هي التي جذبتْ أصحابه إليه. 

     الإنسان إنْ آمن بالله عزَّ وجل فلا بد أنْ يُمتحن، وليس مِن إنسان يؤمن بالله عزَّ وجل إلا وله معارضة، هناك من يسخر منه، هناك من يضغط عليه، فسيدنا عثمان يروى أن الحكم بن أبي العاص أوثقه بالحبال وبالسلاسل، وصرخ في وجهه : أترغب عن ملة آبائك إلى دينٍ محدث، والله لا أُحل وثاقك أبداً حتى تدع ما أنت عليه من هذا الدين، فيجيب عثمان بن عفان الذي عرف طريق الله عزَّ وجل بكلامٍ ثابت الجنان: والله لا أدع دين الله أبداً, ولا أُفارقه، ويوالي الحكمُ تعذيبَ عثمان وهو عمّه، ويوالي عثمان إصراره على دين الله. من أجل أن ترتفع الدرجات، قال تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا﴾.النبي عليه الصلاة والسلام من شدة رحمته بأمته رأى أن أصحابه لا قِبل لهم بهذا التعذيب، فأمرهم بالهجرة إلى الحبشة، وكان هذا الصحابي الجليل عثمان بن عفان وزوجته بنت رسول الله عليه الصلاة والسلام، التي زوَّجه إيَّاها بعد الإسلام، أوَّل من هاجر إلى الحبشة، لذلك وقف النبي عليه الصلاة والسلام يودِّعه هو وابنته، ويقول: "إن عثمان لأول من هاجر إلى الله بأهله بعد لوط " .

     سيدنا عثمان من السابقين، والسابق له فضلُه الكبير، سيدنا عثمان له مكانة اجتماعية كبيرة جداً في قومه، بدليل أن النبي عليه الصلاة والسلام عندما نشبَ سوءُ تفاهم بينه وبين قريش أرسل أحبَّهم إلى قريش، وهو سيدنا عثمان، وهو يتمتع بحكمة ومكانة اجتماعية وبعلوِّ قدر. 

     كان هذا الصحابي الجليل سخياً إلى درجة تأخذ بالألباب، كان سخياً إلى درجة لا تصدَّق، ففي بعض مواقف سخائه أمام النبي عليه الصلاة والسلام، قال عليه الصلاة والسلام: "ما ضرَّ عثمان ما صنع بعد اليوم ، الَّلهم ارض عن عثمان ، فإني عنه راضٍهل توجد مرتبة أعلى من هذه المرتبة .

     عندما هاجر النبي صلَّى الله عليه وسلَّم إلى المدينة لم يستقرّ بها حتى فاجأته مشكلة المياه في المدينة، فالمياه كانت قليلة جداً، وكان بالمدينة عين تفيض بماءٍ عذبٍ طيِّب المذاق، تدعى بئر رومة، ويملكها رجل يهودي، يبيع ملء القربة بمدٍ من قمحٍ أو شعير، فالماء ثمين جداً، وتمنّى النبي عليه الصلاة والسلام لو يجد بين أصحابه من يشتري البئر حتى يفيض ماؤها على المسلمين بغير ثمن، وسارع عثمان رضي الله عنه إلى تحقيق رغبة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فعرض على اليهودي صاحب البئر أن يبيعها له فأبى، فساومه عثمان على نصفها، واشترى النصف باثني عشر ألف درهم، وهو مبلغ ضخم، على أن تكون لليهودي يوماً ولعثمان يوماً، فكان المسلمون يستسقون في يوم عثمان ما يكفيهم يومين، وهكذا رأى اليهودي نفسه، وقد خسر زبائنه وسوقه التي كانت رائجة، عندئذٍ عاد يعرض على عثمان أن يشتري النصف الثاني، فاشتراه، وأصبحت بئر رومة كلُّها للمسلمين يشربون منها الماء العذب بقدر ما يحتاجون بلا ثمن، وهذا أول عمل قام به سيدنا عثمان، فاشترى هذه البئر، وجعلها للمسلمين، يشربون بغير حساب، معنى ذلك أنه دفع ثمنها البالغ أربعة وعشرين ألف.  

     لما كثر المسلمون الداخلون في دين الله بالمدينة صار المسجد يضيق بهم، فتمنّى النبي عليه الصلاة والسلام لو يجد من بين أصحابه من يشتري الرُقعة المجاورة كي تُضَمَّ إلى المسجد، أي كما يحدث في كل زمان، قام هذا الصحابي الجليل واشترى بيتًا إلى جوار المسجد، وضمَّه إلى المسجد، فتم توسيع المسجد . 

     حينما فتح الله مكة للنبي عليه الصلاة والسلام، وعاد إليها ظافراً كريماً، رأى أن يوسِّع البيت الحرام، فعرض على أصحاب بيتٍ ملاصقٍ للمسجد أن يتبرعوا لتوسعته، فاعتذروا بأنهم لا يملكون غيره، وليس لهم مالٌ يشترون به سواه، ومرة ثالثة كان عثمان الذي لم يَكَد يبلغ مسامِعَه النبأُ حتى سارع إلى صاحب الدار الواسعة العريضة، واشتراها منه بعشرة آلاف دينار، فتمَّ توسيع الحرم النبوي، والحرم المكي كذلك، ووفَّر الماءَ بلا مقابل للمسلمين بالمدينة، وهذه كلها أعماله الطيبة . 

     وفي العام التاسع الهجري ولَّى هِرقل الإمبراطور الروماني وجهه صوب الجزيرة العربية، متوجهاً برغبةٍ شريرة في العدوان عليها، والتهامها، وكان الدين الجديد برسوله العظيم، ورجاله الشجعان البواسل قد ملؤوا حياته وحياة بيزنطة كلها قلقاً وخوفاً، أي أن المؤمنين أصبحوا مصدر قلق للرومان، فهذا الإمبراطور بعد أن انتصر على بلاد فارس قرر أن يسير إلى الجزيرة العربية، ليستولي عليها، فأمر قوَّاته بالاستعداد وانتظار أمره بالزحف، وترامت الأنباء إلى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، فنادى أصحابه للتهيّؤ للجهاد، وكان الصيف حاراً يصهر الجبال، وكانت البلاد تعاني من الجدب والعسر فيما تعاني، فإذا قاوم المسلمون بإيمانهم وطأة الحر القاتل، وخرجوا إلى الجهاد عبْرَ الصحراء الملتهبة، فمِن أين لهم العتاد والنفقات الباهظة التي يحتاجها القتال؟. فالقضية خطيــرة جداً, فرأى النبي عليه الصلاة والسلام أنّه لا بدَّ أن يذهب لملاقاتهم وإلا يستضعفونه، وقال: من يجهِّز هؤلاء، ويغفر الله له ؟”. هذا اسمه جيش العسرة، وما كاد عثمان يسمع نداء النبي صلَّى الله عليه وسلَّم حتى سارع إلى مغفرة الله ورضوانه، وهكذا وجدت العُسرة الضاغطة عثمانَها المعطاء، وقام رضي الله عنه بتجهيز الجيش كلِّه، حتى لم يتركه بحاجةٍ إلى خطام بعيرٍ أو عِقال فرسٍ، " قدَّم عثمان لجيش العسرة في غزوة تبوك تسعمئةٍ وأربعين بعيراً، وستين فرساً أتمَّ بها الألف"، وبالتعبير الحديث ألف مدرَّعة. ويقول حذيفة: جاء عثمان إلى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم لتجهيز جيش العُسرة بعشرة آلاف دينار، صبَّها بين يدي النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، فجعل النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يقلِّبها بيده ، ويقول: "غفر الله لك يا عثمان ما أسررت، وما أعلنت، وما هو كائنٌ إلى يوم القيامة" . 



المصدر: الخلفاء الراشدين : سيدنا عثمان بن عفان 1 - من فضائله سخائه في الإنفاق