بحث

عثمان بن عفان2الغني الذي باع الدنيا

عثمان بن عفان2الغني الذي باع الدنيا

بسم الله الرحمن الرحيم

     فهذا الصحابي الجليل كان من أغنياء الصحابة, ولا تنسوا أن الإنسان كما يمتحن بالفقر ، يمتحن بالغنى, قد ينجح الغني في غناه، وقد يرسب الفقير في فقره، والله سبحانه وتعالى, يقول: ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾.

     النبي صلى الله عليه وسلَّم زوَّجه ابنته رُقية، ولما توفاها الله إليه زوجه ابنته الثانية أم كلثوم، ولما انتقلت هذه الزوجة الثانية إلى الرفيق الأعلى أسف النبي صلى الله عليه وسلم إذ لم يكن له كريمةٌ أخرى يزوِّجها لهذا الصحابي الجليل، فقال عليه الصلاة والسلام قولته المأثورة: لو أن لنا ثالثةً لزوَّجناك إيَّاها يا عثمان”. فلولا أن هذا الصحابي الجليل كان زوجاً من أكمل الأزواج، ومن أرحم الأزواج، ومن أفضل الأزواج، لما سارع النبي صلى الله عليه وسلم إلى تزويجه بالبنت الثانية. 

     كان عثمان يصوم أكثر أيامه ويقوم الليل إلا هجعةً من أوَّله, هذا الصحابي الجليل من الصحابة الأغنياء جداً، فهذا الصحابي الجليل على علو قدره، وعلى كثرة ماله، كان في أكثر أيامه صائمًا، وأكثر ليله قائم، هذا مما يضاعف له الأجر . 

     هذا الصحابي الجليل نراه يُمضي مع نفسه ميثاقاً لا يخلفه طوال حياته، هو أنه يُعتق كل جمعة عبداً ويحرر رقبةً، يشتري العبد من سيده بأي ثمن، ثم يهبه حريَّته مبتغياً وجه ربه الأعلى.  

     كان سيدنا عثمان إذا رأى بعض التجَّار يحتكرون الأرزاق، فماذا يفعل؟ يرسل قوافله لتعود محمَّلةً بما يفسد عليهم احتكارهم، جاءت مرةً رواحله من اليمن أو من الشام محمّلةً بالخيرات، وتَواكَبَ حوله تجَّارُ المدينة، ودخل معهم في مساوماتٍ شيِّقة، وما أجمل أن نطالع الآن إحداها، يرويها لنا ابن عباس رضي الله عنه، قال: " قَحِط الناس في زمن أبي بكر، فقال الخليفة لهم: إن شاء الله لا تمسون غداً حتى يأتيكم فرج الله، فلما كان صباح الغد قدمت قافلة عثمان، فغدا عليه التجَّار، فخرج إليهم وعليه ملاءة قد خالف بين طرفيها على عاتقه, وسألوه أن يبيعهم قافلته، فسألهم: كم تربحونني؟ قالوا: العشرة اثني عشر، قال: قد زادني، قالوا: العشرة خمسة عشر، قال : قد زادني، قالوا: من الذي زادك ونحن تجَّار المدينة؟ قال: إنه الله، زادني بكل درهمٍ عشراً، فهل لديكم أنتم مزيد؟ فانصرف التجَّار عنه وهو ينادي: اللهم إني وهبتها فقراء المدينة بلا ثمن وبلا حِساب . 

     يقول شرحبيل بن مسلم: "كان عثمان يطعم الناس طعام الإمارة، ويأكل هو الخل والزيت “، وقال عبد الله بن شدَّاد: ”رأيت عثمان يخطب يوم الجمعة، وعليه ثوبٌ قيمته أربعة دراهم أو خمسة دراهم، وإنه يومئذ لأمير المؤمنين " . 

     مرة هذا الصحابي الجليل غضب على خادمٍ له، فعرك أذنه حتى أوجعه، ثم سرعان ما يقُضُّ ضمير العابد مضجعه فيدعو خادمه ويأمره أن يقتصَّ منه، فيأبى الخادم ويولّي مدبراً، لكنّ عثمان يأمره في حزمٍ فيطيع، وقال: اشْدُدْ يا غلام، فإن قصاص الدنيا أرحم من قصاص الآخرة. ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام حينما غضب من غلامٍ له: " يا غلام لولا خوف القصاص لأوجعتك بهذا السواك " .

      سيدنا عبد الله بن عمر كان إذا قرأ الآية الكريمة: ﴿أَمَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾ يقول: هو عثمان بن عفان . 

      يقول بعض أصحابه عنه وهو الإمام عليٌ كرَّم الله وجهه: أوصلُنَا للرحم عثمان  

     يقول هذا الصحابي الجليل: أيها الناس, اتقوا الله فإن تقوى الله غنيمة، وإن أكيس الناس من دان نفسه, وعمل لما بعد الموت, واكتسب من نور الله نوراً لقبره، وليخشَ عبدٌ أن يحشره الله أعمى وقد كان بصيرا . 

     يقول هذا الصحابي الجليل: إن الله أعطاكم الدنيا لتطلبوا بها الآخرة ، ولم يعطكم الدنيا لتركنوا إليها، إن الدنيا تفنى وإن الآخرة تبقى، فآثروا ما يبقى على ما يفنَى . 

     ويقول هذا الصحابي الجليل: إن الدنيا منقطعة، والمصير إلى الله وحده . 

     هذا الصحابي الجليل حينما أعاده النبي عليه الصلاة والسلام إلى بيته بدلَ أن يغزو في معركة بدرٍ، فأمره النبيُّ عليه الصلاة والسلام أن يبقى إلى جانب زوجته، وكانت في مرضٍ شديد، وهي ابنة النبي عليه الصلاة والسلام، ماذا يستنبط من هذا الكلام؟ هل هي قضية شخصية أم قضية حكم شرعي؟ هي حكم شرعي، أي كأن الذي يرعى زوجته المريضة في مرتبة المجاهد في سبيل الله، فلما انقضت موقعة بدر ووزَّع النبي الغنائم، عدَّ عثمان كأنه مع المقاتلين وأعطاه نصيبه من الغنائم, هذا لتعلموا مدى ثواب رعاية الزوجة عند الله . 

     وحينما أوفد النبي عثمان إلى قريش في صلح الحديبية، وشاع الخبر أنهم قد قتلوه، وهبَّ الصحابة الكرام ليعاهدوا النبي صلَّى الله عليه وسلَّم على أن يقاتلوا قريشاً، وأخذوا العهد واحداً واحداً، فالنبي أمسك بيده اليسرى ثم جاء باليمنى، وقال: "وهذه عن عثمان، وهذه بيعة عثمان " لأنه كان غائباً، فلما عاد عثمان سليماً معافى، أرسلت قريش سفيراً جديداً، هو سهيل بن عمرو الذي أبرم مع النبي صلى الله عليه وسلَّم معاهدةً عُرفت بصلح الحديبية .  



المصدر: الخلفاء الراشدين : سيدنا عثمان بن عفان 2 - أوبته إلى الله