سيدنا عمر رضي الله عنه، وهو يجود بأنفاسه الأخيرة أبى أن يستخلف أحداً، وحينما ألحَّ عليه بعض أصحابه أن يستخلف خليفةً للمسلمين قال لهم: "أأحمل أمركم حياً وميْتاً ؟“، ألا يكفيني أنني حملت أمركم حياً، وتريدون أن أحمل أمركم ميتاً، يعني أن أحمل هذه المسؤولية بعد موتي فهذا أمرٌ خطير، ثم قال هذا الخليفة الراشد: ”ألا إني إن أستخلف فقد استخلف من هو خيرٌ مني (يعني أبا بكر)، وإن أترك (أي لم أستخلف) فقد ترك من هو خيرٌ مني (يعني رسول الله عليه الصلاة والسلام، فالنبي ما استخلف، وسيدنا أبو بكر استخلف، واللهُ حافظٌ دينَه". لكن سرعان ما برقت بارقةٌ في رأس هذا الخليفة وهو على فِراش الموت، فقال سيدنا عمر: "عليٌ وعثمان وطلحة والزُبير وسعد وعبد الرحمن"، هؤلاء جميعاً أحياء، والنبي عليه الصلاة والسلام كان راضياً عنهم، فقال عمر: ليكن لهؤلاء الستة الذين منحهم النبي عليه الصلاة والسلام هذا التكريم عاقبة الأمر الذي يشغل الأمير المحتضر، وليضع هذا الأمير (سيدنا عمر) في أعناقهم مجتمعين الأمانة التي حملها طوال خلافته ، وهكذا جمع الستة، وقال لهم : "إني نظرت فوجدتكم القادة، ولا يكون هذا الأمر إلا فيكم، وقد قبض رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، وهو عنكم راضٍ، فإذا أنا متُّ فتشاوروا ثلاثة أيامٍ، ولا يأت اليوم الرابع إلا وعليكم أميرٌ منكم “. شكَّل مجلسًا من ستة أصحاب، توفي النبي عليه الصلاة والسلام، وهو عنهم راضٍ، ووضع أمانة المسؤولية في أعناق هؤلاء الستة، ”وليحضر معكم عبد الله بن عمر، ليكن معكم مشيراً، ولا يكون له من الأمر شيء"، أول إنسان استبعده من الخلافة ابنه. سيدنا طلحة كان غائباً عن المدينة، فاجتمع بقية الأصحاب الذين وضع فيهم عمر هذه المسؤولية، واقترح عليهم عبد الرحمن بن عوف أن يخلع أحدهم نفسه، ويتنازل عن حقِّه في الترشيح، ليكون صوته مرجِّحاً، هم ستة فإذا عزل أحدهم نفسه، أي خلع نفسه بقي منهم خمسة، هذا أول اقتراح، وبادر فخلع نفسه، ثم تنازل الزبير عن حقِّه لعلي، وتنازل سعد بن أبي وقَّاص عن الترشيح، وهكذا انحصر الاختيار بين عثمان وعلي فقط، وفُوِّض عبد الرحمن بن عوف في اختيار أحدهم، وكان على ابن عوف أن ينجز هذه المهمة في الأيام الثلاثة التي أوصاهم الخليفة الراحل ألا يجاوزوها، وكان عليه خلال هذه المهلة القصيرة أن يجري شورى واسعة واستفتاءً عميماً بين أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام جميعاً، وهكذا راح يذرع المدينة ويقرع أبواب دورها، يستشير الناس ويجمع رأي المسلمين عامَّتهم وقادتهم، جميعاً وأشتاتاً، مثنى وفرادى، سرَّاً وجهراً حتى خَلَصَ إلى النساء المحجَّبات في بيوتهن، وحتى سأل الولدان في المكاتب، وحتى سأل الركبان الوافدين على المدينة، تنفيذاً لقول الله عزَّ وجل: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ ثم أرسل ابنُ عوف في طلب عثمان وعلي، فقدما عليه، فأقبل عليهما, وقال لهما: إني سألت الناس عنكما فلم أجد أحداً يعدل بكما أحداً ، ثم أخذ العهد على كلٍ منهما لئن ولاَّه ليعْدلن، ولئن وُلِّي عليه ليسمعنَّ وليطيعن . ثم خرج بهما إلى المسجد، وقد لبس عبد الرحمن العمامة التي عممه بها النبي صلّى الله عليه وسلَّم، وبعث إلى وجوه المهاجرين والأنصار، ونودي في الناس كافّةً، وتراصَّ الناس حتى غصَّ بهم المسجد، وحتى لم يبق لعثمان موضعٌ يجلس فيه إلا في أُخريات الناس، وكان رجلاً حيياً، ثم صعد عبد الرحمن بن عوف مِنبر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فدعا دعاءً طويلاً، ثم تكلَّم فقال: أيها الناس إني قد سألتكم سراً وجهراً فلم أجدكم تعدلون بعليٍ وعثمان أحداً, فقم إليَّ يا علي، وأخذ عبد الرحمن بيده, وسأله: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه وفعل أبي بكرٍ وعمر؟ قال علي: اللهم لا, ولكن على جهدي من ذلك وطاقتي, ثم قال: قم إلي يا عثمان، فأخذ بيده, وقال له: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه وفعل أبي بكرٍ وعمر؟ فقال عثمان: اللهم نعم، فرفع عبد الرحمن رأسه إلى سقف المسجد ويده في يد عثمان وقال: اللهم اسمع واشهد، اللهم إني قد جعلت ما في رقبتي من ذلك في رقبة عثمان، وازدحم الناس على عثمان يبايعونه، وكان أول يمين شدَّت بالبيعة على يمينه, أول يمين بايعت عثمان سيدنا علي, وتتابع المسلمون جميعاً يبايعون .
هكذا حمل عثمان أثقال الخلافة، حملها وهو على وشك أن يستقبل السبعين من عمره، تلقَّى البيعة وهو يرتجف، هذا الوجل وهذا التهيُّب سببه الهيبة الشديدة من هذه المسؤولية التي أُنيطت به. ما علم هذا الصحابي الجليل أنه هو الذي سيجيء بعد عمر، وقد قال له مرة: لقد أتعبت الذين سيجيئون بعدك، أعان الله مَن يأتي بعدك، سيدنا عثمان جاء على أثر خليفتين ليس لهما نظير، وجاء بعد عشر سنوات عُمرية، فرض فيها الفاروق على المسلمين منهجه الصارم، وعدله المتين، وحمل ولاته وعُمَّاله على مثل ما حمل عليه نفسه من زهدٍ وتقُّشفٍ وعناء، جاء سيدنا عثمان، والدولة تتسع رقعتها، وتتلاطم تحت راياتها، أجناس شتّى، متباينة الطباع والغايات، جاء والدنيا فُتحت على المسلمين، حيث أصبح دخلهم من التجارة، وأنصباؤهم من الفيء تزيد عن احتياجاتهم، وكان عمر يرى إقبال الدنيا في بداياتها، فيرتجف، ويقول: إن للمال ضراوةً كضراوة الخمر ، المال يقسّي القلوب، الغنى أحياناً يبعد عن الواحد الديَّان، وذكر قول النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: "فَوَ اللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا فَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ" .
ماذا قال في خطابه حينما تسلَّم الخلافة؟ قال: أيها الناس، إنّ الدنيا طويت على الغرور، فلا تغُرَّنكم الحياة الدنيا، ولا يغُرَّنكم بالله الغَرور، ارموا بالدنيا حيث رمى الله بها، واطلبوا الآخرة ، فإن الله قد ضرب للدنيا مثلاً، فقال : ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً﴾.
ما الذي فعله هذا الخليفة؟ كتب إلى ولاة الأقاليم، وأمراء الحرب، والأئمة على الصلوات، والأمناء على بيوت المال، كتب إلى كل الموظفين في الحقل العسكري والمالي والإداري، يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويحثُّهم على طاعة الله، وطاعة رسوله، ويحضُّهم على اتباع السنَّة، وترك الإحداث والابتداع، وكان بيت المال عامراً ممتلئاً، فزاد في عطاء الناس، واتخذ من المسجد سماطاً، يقدِّم عليه بصورةٍ دائمةٍ الطعام الطيِّب للمعتكفين والمتعبِّدين وأبناء السبيل .
لكن ماذا حدث؟ الذي حدث أن أعداء الإسلام مِنَ الملوك والأباطرة فيما حول بلاد المسلمين علموا أن عمر قد توفّي، والأصح قتل شهيدًا، وأن عثمان بن عفَّان، وهو رجل شديد الحياء في سن السبعين قد تسلَّم الخلافة، فطمعوا أن يستردّوا شيئاً من بلادهم التي فُتحت، وأن يستعيدوا شيئاً من ملكهم الذي اندثر، لذلك ما إن تسلَّم هذا الخليفة سيدنا عثمان بن عفَّان الخلافة حتى فوجئ بانتفاضات مسلَّحةٍ تنقضُّ على الدولة من كل حدبٍ وصوب، فماذا فعل؟ .
جابه القوى المتمرِّدة التي حملت السلاح ضد الإسلام ودولته في أذربيجان، الحكم الإسلامي وصل في عهد سيدنا عثمان إلى أذربيجان، فسيَّر إليهما جيشاً بقيادة الوليد بن عقبة فردَّهم إلى صوابهم، ووقعوا معاهدةً بالشروط نفسها التي كان أنزلهم عليها حذيفة بن اليمان، فأول جبهة جبهة أذربيجان وأرمينيا .
ثم إنّ مقاطعة الريّ نقضت هي الأخرى عهدها وتمرَّدت، فزحف عليها جيشٌ بقيادة أبي موسى الأشعري، ردَّ المتمردين إلى الجادّة، وأنزلَهم مرةً أخرى على العهد القديم الذي واثقهم عليه حذيفة بن اليمان .
والتفـت الخليفة القائم في المدينة عاصمة الإسلام صوب الإسكندرية، التي جاءته أنباؤها أن الأسطول البحري للروم قد أغار عليها، كما أن أعداداً هائلةً من المشاة والركبان يزحفون نحوها، فأرسل الخليفة أوامره إلى عمرو بن العاص واليه على مصر كي يسيِّر بجيشه إلى الإسكندرية، وأنزل بالمتمردين هزيمةً استأصلت شأفتهم إلى الأبد، وكان في الوقت نفسه معاوية بن أبي سفيان يفتح قنسرين، وكان عثمان بن أبي العاص يقهر التمرُّد الناشب بعيداً وقريباً ، وأما في شمال إفريقيا فقد أرسل جيشًا بقيادة عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وأرسل معه عبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير .
ورأى الخليفة عثمان رضي الله عنه وأرضاه, أن الأسطول البحري للروم يتخذ من جزيرة قبرص منطلقاً لعدوانه، فقرر غزو قبرص, وهذه أول مرة في التاريخ الإسلامي يصير الغزو بالبحر, ولأول مرةٍ شهد التاريخ ميلاد البحرية الإسلامية، أذن الخليفة لمعاوية بغزو قبرص، فأبحر إليها من الشام، وأمدَّه الخليفة بجيشٍ آخر بقيادة عبد الله بن سعد بن أبي سرح من مصر، وأطبقت القوتان العارمتان على الجزيرة، فاستسلمت، ووقعت الصلح، هذا هو الخليفة الشيخ، الكثير الحياء. هذا هو سيدنا عثمان؛ أول جبهة، وثاني جبهة، وثالث جبهة، ورابع جبهة، وخامس جبهة، ولأول مرة شكَّل البحرية الإسلامية، وغزا قبرص من بلاد الشام، ومن مصر، ووقَّع معاهدة .