بحث

الاقتصاد من الدين


بسم الله الرحمن الرحيم

     الاقتصاد من الدين، وتنظيم العلاقة بين المسلمين الاقتصادية من الدين، والتعليم من الدين، وإصلاح الشؤون الحياتية من الدين، وتأمين حاجات الإنسان من الدين. أنا لا أصدق أن الدين فُهم فهماً كهنوتياً، ولم يفهم فهماً حياتياً، هذا سيد الخلق وحبيب الحق، هذا الإنسان الأول فهم الدين عملاً وتعاوناً، أن يرى شاباً يتعبد ربه وقت العمل، فيسأله النبي عليه الصلاة والسلام: من يطعمك؟ قال: أخي، قال: أخوك أعبد منك، أمسك بيد أحد أصحابه، وكانت خشنة من العمل، رفعها وقال لأصحابه: هذه اليد يحبها الله ورسوله. رأى النبي وكان مع أصحابه شاباً ينطلق من بيته إلى عمله فقال بعض أصحابه: لو كان هذا في سبيل الله، فقال: ((من سعى على أهله فهو في سبيل الله، ومن سعى على أولاده فهو في سبيل الله)). النبي الكريم أعطى الدين مفهوماً واسعاً جداً...  

     وأنت في دكانك تبيع بالصدق والأمانة، تعطيهم سلعة جيدة، بسعر معتدل، أنت في عبادة.  

     وأنت في عيادتك تعالج المرضى بإخلاص، وإتقان، واعتدال في الأجر، فأنت في عبادة.  

     وأنت في حقلك تسهم في تخفيف المتاعب عن الأمة، تقدم لهم الإنتاج الزراعي بشكل جيد دون أن يؤذيهم بمواد ممنوع استيرادها، فأنت في عبادة.  

     حينما تفهم الإسلام هو الحياة ترى أن الاقتصاد جزء من الدين، النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (( الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى )). يجب أن أؤكد لكم الحقيقة: الاقتصاد من الدين، أن تفتح محلاً تجارياً، تكسب المال الحلال، تدفع زكاة مالك، تعين الفقراء والمساكين، تربي أولادك، تقدم لهم حاجتهم، لأنه كما قال بعض أصحاب رسول الله: حبذا المال أصون به عرضي، وأتقرب به إلى ربي . فالعمل جزء من الدين، ويمكن أن يكون عملك كذلك فقط إذا كان في الأصل مشروعاً، وسلكت به الطرق المشروعة، وخدمت الناس، ولم تكذب عليهم، ولم تغشهم، ولم تسوف، ولم تماطل، وأتقنت عملك، يمكن أن يكون عملك سبباً كافياً لدخول الجنة.  

     لذلك سيدنا عمر مرّ ببلدة فوجئ معظم الفعاليات الاقتصادية فيها بيد غير المسلمين، عنفهم، بل وبّخهم، فقالوا كما يقول الأغنياء الكسالى: إن الله سخرهم لنا، والله قال قولاً لا أرتوي من تكراره، قال لهم:  كيف بكم إذا أصبحتم عبيداً عندهم؟ لأن القوي هو المنتج، والمستهلك ضعيف. يجب أن تعمل، أن تكون قوياً، أول طبيب، أول مدرس، أول محام، أول مهندس، أول تاجر، أول صانع، تجد أخواناً صناعيين، عنده ألف عامل، فتح ألف بيت، لا تكن خمولاً، اعمل، خذ شهادة عليا، خذ الدكتوراه، افتح محلاً، أتقن عملك، طور صناعتك، ولا أكتمكم مهما ضاقت الأمور، مهما كسدت الأسواق، مهما انتشرت البطالة، المتقن دخله كبير بأي وقت، وبأي مكان، وبأي زمان، المتقن، المتقن لا يتوقف عن العمل، يكون مئة إنسان يحترفون حرفة، أحيانا يحدث كساد، تسعون بالمئة لا عمل لهم، أما العشرة المتقنون فمحجوزون لستة أشهر قادمة. (( إن الله تعالى يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه )). دققوا في كلام النبي، نحن أحياناً ننسى أن هذا الكلام كلام مقدس لكن لا نطبقه لمَ يقول عليه الصلاة والسلام:  (( المُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأحَبُّ إلى اللَّهِ تَعالى مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ)) قوي بالمال، قوي بالعلم، متفوق، قوي احتل مركزاً قوياً، بتوقيع يحل مشكلة. سيدنا الصديق يوم تولى الخلافة حمل القماش على كتفه ليكسب رزق يومه من البيع والشراء ، حتى منعه الصحابة الكرام من ذلك، وأعطوه حاجته. قال له: من يطعمك؟ قال له: أخي،  قال له: أخوك أعبد منك (( من جلس إلى غني فتضعضع له ذهب ثلثا دينه ))  أي تمسكن، ذهب ثلثا دينه. (( اطلبوا الحوائج بعزة الأنفس فإن الأمور تجري بالمقادير )) لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه، المؤمن عزيز، والعمل شرف للإنسان.  هذه كلمة دقيقة: لا تفهم الدين فهماً كهنوتياً، افهمه فهماً واقعياً، فهماً حياتياً، الدين هو الحياة.  

الاستثمار فريضة ألزم الله بها عباده لتحقيق حاجاتهم، وهو الذي سخر لعباده ما في البر والبحر، ما الحكمة أنه إذا معك مليون ليرة وزكاتها كانت خمسة و عشرين ألفاً؟ أربع سنوات مئة ألف، عشرة أضعاف، في أربعين سنة انتهى، إذا كنزت مليون ليرة تنتهي في أربعين سنة تأكلها الزكاة، الحكمة من فريضة الزكاة على المال المخزن أنك إذا خزنته فقدته، يجب أن تستثمره.  

  ليس في النظام الاقتصادي الإسلامي كذب وغش واحتيال. (( إن أطيب الكسب كسب التجار الذين إذا حدثوا لم يكذبوا، وإذا ائتمنوا لم يخونوا، وإذا وعدوا لم يخلفوا، وإذا اشتروا لم يذموا، وإذا باعوا لم يطروا، وإذا كان عليهم لم يمطلوا، وإذا كان لهم لم يعسروا)) ، عندما تكسب مالك الحلال من طريق مشروع يمكن أن يكون النفع لكل الناس، لا احتكار، ولا غش، ولا تدليس، ولا إيهام، ولا غبن، إذا ألغيت معاصي البيع والشراء تهبط الأسعار، الأسعار يحددها قانون العرض والطلب، لمجرد أن تلغى المعاصي يكون السعر الطبيعي المقبول، وهذا شأن اقتصاد السوق أحياناً، البضاعة موجودة بحسب الطلب عليها، ما دامت موجودة فسعرها معتدل، أما حينما تُحتكر تُسحب من الأسواق يشتد الطلب عليها فيتضاعف السعر، هذا مال حرام، واحتكار، والمحتكر خاطئ، فنحن اقتصادنا فيه ممنوعات، لو ابتعدنا عن هذه الممنوعات يكون العرض والطلب وحده كافياً لاستقرار الأسعار، ولاعتدالها، ولهبوطها.   

     المكاسب المحرمة أساسها منفعة بنيت على مضرة، وأن المكاسب المحللة الأصل فيها منفعة متبادلة، إنسان معه مال، لكن لا يحسن استثماره، موظف، أو متقاعد، أو شاب ناشئ ورث عن أهله مالاً، وهناك إنسان معه خبرة ولا مال معه، عنده خبرة عالية جداً، لكن لا يملك المال، لو تعاون صاحب المال مع صاحب الخبرة على ربح بينهما، واحد قدم لك خمسة ملايين، وأنت أسّستَ محلاً تجارياً، أنت مهندس زراعي، بعت مواد زراعية، أنت خبير، معك شهادة، لذلك المضاربة، والمتاجرة، والاستثمار من أحلّ الدخول، لأنها في الأصل منفعة متبادلة، أما الكسب الحرام فمنفعة بنيت على مضرة، أنت احتكرت مادة ضاعفت سعرها أربعة أضعاف، وليس هناك إنسان يحاسبك، الآن يوجد بعض الأدوية الزراعية دواء منتشر بالبلد، وكيله واحد، لا يمكن أن يعطي الوكالة لأحد، يتفق مع الشركة، محتكر. لذلك مجتمع التنافس رائع جداً، مجتمع الاحتكار قاسٍ جداً، لذلك الإسلام حقق العدالة في توزيع الثروة، وحقق التعاون والتكافل بين أفراد المتجمع الواحد، وهناك منافسة ولكن لصالح من؟ لصالح المستهلك، هذا علبة الصابون معها عرض، معها علبة صغيرة، هذه البضاعة معها عرض ثان، عندما يكون التنافس من يقطف ثمار هذا التنافس؟ المستهلك، إذا كان الاحتكار يصبح المستهلك مستهلكاً، يستهلك المستهلك، فالمحتكر ملعون، والمحتكر خاطئ.  

     الاقتصاد عصب الحياة، وإذا أحرزت النفس قوتها اطمأنت. الحياة تحتاج إلى وعي، إلى إدراك:  (( المُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأحَبُّ إلى اللَّهِ تَعالى مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ )). الصحابة تفوقوا، كانوا رهباناً في الليل، فرساناً في النهار، تفوقوا، كان عليه الصلاة والسلام قبل أن ينتقل إلى الرفيق الأعلى نظر إليهم فابتسم، قال: (( حكماء علماء كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء )) المؤمن شخصية فذة، يحيرك بعلمه، بأخلاقه، بجمالياته، أنيق، بيته مرتب، ولو كان فقير فهو أنيق، ثيابه مرتبة، مواعيده دقيقة، حساباته منتظمة، ثقافته واسعة، بيته منتظم، ناجح مع زوجته، مع أولاده، هذا المؤمن. الإيمان مرتبة أخلاقية، إذا حدثك فهو صادق، عاملك فهو أمين، استثيرت شهوته فهو عفيف، الإيمان مرتبة جمالية، عنده مسحة جمالية في حياته، أذواقه عالية جداً، تحبه لكماله، وتحترمه لتفوقه.  



المصدر: فقه السيرة النبوية - الدرس : 53 - الأسس التي رسخها النبي في الاقتصاد الإسلامي