أبو محمّد طلْحَةُ بن عُبَيْدِ الله، هذا صحابيٌّ جليل بعثه النبي صلى الله عليه وسلّم مع سعيد بن زيدٍ قبل خُروجِهِ إلى بدْرٍ، يتَجَسَّسان خبرَ العِير، فَمَرَّتْ بِهما، فَبَلَغَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلَّم الخَبَرُ، فَخَرَج ورجعا يُريدان المدينة، ولم يعْلما بِخُروج النبيّ صلى الله عليه وسلَّم فَقَدِما في اليوم الذي لاقى فيه النبي صلى الله عليه وسلّم المُشْركين، فَخَرَجا يعْتَرِضان رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، فَلَقِيَاهُ مُنْصَرِفاً من بدْرٍ، فَضَرَبَ لهُما بِسِهامِهِما وأَجْرِهِما، فَكانا كَمَن شَهِدَها.
شَهِدَ طلْحَةُ أُحُداً، وثبتَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم يومئِذٍ، ووقاهُ بِيَدِهِ فَشُلَّتْ إصْبعاهُ، وجُرِحَ يومئِذٍ أربعاً وعشرين جِراحَةً، ويُقال: كانت فيهِ خَمْسٌ وسبْعون بين طعْنَةٍ وضَرْبَةٍ ورَمْيَةٍ، وسَمَّاهُ رسول الله صلى الله عليه وسلّم يومَ أُحُدٍ (طلْحَةَ الخَيْر)، وسمَّاه يومَ غزْوة ذات العُشَيْرة (طلْحَةَ الفياض)، وسمَّاه يوم حُنَيْنٍ (طلْحَةَ الجود)، فهذه مواقف مُشَرِّفَةٌ وقفها هذا الصحابِيُّ الجليل.
إنَّ الأحْداثَ تمْضي، والآلام تنْتهي، والمَوْتُ يُنْهي كُلّ شيءٍ، وتَبْقى المواقِفُ المُشَرِّفَة التي يسْعَدُ بها الإنْسانُ إلى الأبد، وكُلّ شيءٍ ينقضي فاللَّذائِذُ تمْضي وتبْقى تَبِعاتُها، والمتاعِبُ تمْضي وتبْقى خَيْراتُها .
فعَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ, قَالَ: ((كَانَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِرْعَانِ يَوْمَ أُحُدٍ فَنَهَضَ إِلَى الصَّخْرَةِ فَلَمْ يَسْتَطِعْ, فَأَقْعَدَ طَلْحَةَ تَحْتَهُ, فَصَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ حَتَّى اسْتَوَى عَلَى الصَّخْرَةِ, فَقَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, يَقُولُ: أَوْجَبَ طَلْحَةُ)) أيْ وجَبَتْ له الجنَّة, لأنَّهُ ماذا فعَلَ؟ أظْهر من المواقفِ والتَّضْحِيات الشيءَ الذي لا يوصَفُ، فَطَلْحَةُ برَك على الأرض، وصعد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلَّم لِيَرى بعض ملامِحِ المعْركة، فجَعَلَ من نفْسِهِ كُرْسِياً للنبي عليه الصلاة والسلام .
وقالتْ عائِشَةُ رضي الله عنها: (( كان أبو بكرٍ رضي الله عنه إذا ذُكِر يومُ أُحُدٍ، قال: ذلك كُلُّهُ يوم طلْحة )) .
وقال أبو بكرٍ رضي الله عنه: ((كُنْتُ أوَّلَ من جاءَ يومَ أُحُدٍ, فقال لي النبي عليه الصلاة والسلام ولِأبي عُبَيْدة بن الجراح: عَلَيْكما به (يُريدُ طلْحة) وقد نزفَ، فأصْلَحْنا من شأنِ النبي صلى الله عليه وسلَّم، ثمَّ أتَيْنا طلْحة في بعض تِلك الحِفار فإذا به بِضْعٌ وَسَبْعون أو أقَلَّ أو أكثر، بين طَعْنَةٍ وضَرْبَةٍ ورَمْيَة! وإذا قد قُطِعَتْ إصْبعُهُ، فأصْلَحْنا من شأنِهِ))، فقد بذَل سيّدنا طلْحة في غزوة أُحد الشيء الكثير .
عن موسى بن طلْحة عن أبيه طلْحةَ بن عُبَيْد الله, قال: ((لما رجَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم من أُحد صَعِدَ المِنْبر, فَحَمِدَ الله وأثْنى عليه, ثمّ قرأ هذه الآية قال تعالى: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ﴾ فقام إليه رجُلٌ, وقال: يا رسول الله! من هؤلاء؟ قال سيّدنا طلْحة: فأَقْبَلْتُ وعليَّ ثوْبان أخْضران, فقال عليه الصلاة والسلام: أيُّها السائل, هذا منهم وأشار إلى طلْحة)) ألا تَكْفي هذه الشهادة من رسول الله. وبِالمُناسَبَة كلِمَةُ (رجُلٍ) في القرآن والسُّنَّة لا يعْني في الأعَمِّ الأغلب أنَّهُ ذكَرٌ، بل يعْني أنَّهُ بطلٌ، وفي أقْوال الصحابة الكِرام ما يدْعَمُ هذا المعْنى، فسيَّدنا سعدُ بن أبي وقاصٍ, قال: (( ثلاثة أنا فيهِنَّ رجُلٌ (أيْ بطل) وما سِوى ذلك فأنا واحِدٌ من الناس, ما صَلَّيْتُ صلاةً فَشُغِلَتْ نفْسي بغيرها حتى أقْضِيَها، ولا سِرْتُ في جنازَةٍ فحَدَّثْتُ نفْسي بِغَيْر ما تقول حتى أنْصَرِفَ منها, ولا سَمِعْتُ حديثاً من رسول الله صلى الله عليه وسلَّم إلا عَلِمْتُ أنَّهُ حقٌّ من الله تعالى))، فالرُّجولة أنْ تُصَدِّقَ أقْوال النبي عليه الصلاة والسلام، والرُّجولةُ أنْ تُصَلي صلاةً كما أرادها الله عز وجل.
فَنَحْنُ الآن نقرأ سيرة الذين رضي الله عنهم, ماذا فعلوا؟ أحْوالهم وأفْعالهم وأعْمالهم ومواقِفُهم, مِن هذا المُنْطَلَق، سيِّدنا طلْحة لو تحَدَّثْنا عنه مئة مرَّة، هل يزْدادُ مقامُهُ عند الله عز وجل؟ لا، وكذلك لو سَكَتْنا عنه, هل يُنْقُصُ مقامُهُ؟ لا، ولو أنَّ رجُلاً ذمَّه, هل ينْقُصُ مقامُهُ؟ مقامُهُ هو مَقامُهُ، كُلُّ إنْسانٍ بِحَسَبَ إخْلاصِهِ وعملِه, وله عند الله مقامٌ ومَكَانة، وهذه المكانة لا يرْفَعُها المادِحون، ولا يَخْفِضُها الذامون، فَلو أنَّ الناسَ جميعاً أثْنوا عليك، ولم يكُن خالقُك راضٍ عنك فأنت الخاسِرُ الوحيد، ولو أنَّ الناس جميعاً ذَمُّوك وأنت عند الله مَرْضيٌّ، فكُلّ هذا عند الله لا قيمة له، فنحن ندْرس مواقف الذين رضي الله عنهم . فَرِضا الله عليك قد يكون بالتيْسير لك, فالأمور مُيَسَّرة، قال تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى* وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى* وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى* وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى* إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى* وَإِنَّ لَنَا لَلْآَخِرَةَ وَالْأُولَى ﴾.
قال أحدُ الصحابة: ((دخَلْتُ على طلْحَةَ فرأيْتُهُ مغْموماً، فَقُلْتُ: ما شأنُك؟ قال: المال الذي عندي قد كثُر وكرَبَني - ما هؤلاء الأشْخاص؟ إذا كثُر مالُهم أصابهم الكَرْب, لأنَّ المال عِبءٌ. فقد قَالَ رسول الله: ((لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ, وَعَنْ جَسَدِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ, وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ؟ وَفِيمَا وَضَعَهُ؟ وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ؟)) - فهذا الصحابي, قال: المال الذي عندي قد كثُر وكرَبَني، قُلْتُ: وما عليك, اِقْسِمْهُ، فَقَسَمَهُ حتى ما بَقِيَ منه دِرْهم )) إنْفاق المال يُعْطي الإنسانَ سعادَةً كُبْرى، واللهُ يُعَوِّض، قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾.
من خلال هذه المواقف: نجد في أصحاب النبيِّ ورعاً ما بعده ورع، وزهدا ما بعده زهد ، وتضحية بالغالي والرخيص، والنفس والنفيس، في سبيل الحق، فإذا أردتم أن يرضى الله عنكم فعليكم بالورع، كما في الحديث: ((ركعتان من ورع خير من ألف ركعة من مخلِّط)) ومن لم يكن له ورعٌ يصده عن معصية الله إذا خلا لم يعبأ الله بشيء من عمله، هذا في الورع، أما الزهد فهو انتقال الدنيا من قلبك إلى يديك, إن كانت في القلب فهي مصيبة، لأن القلب إذا أحبَّ الدنيا حبًّا جمًّا كان له هذا الحب حجابا عن الله عز وجل، والدنيا أحيانا يمكن أن تسهم في خدمة الخلق، في حلّ مشكلات الناس، في الرقيِّ عند الله عز وجل، فالقاسم المشترك هو الورع والزهد والتضحية والحبُّ، فحبهم للنبيِّ عليه الصّلاة والسلام كان من أعظم ما يميِّز هؤلاء عن الأبطال، أبو سفيان حينما رأى سيدنا خبيبًا قبيل أن يُصلَب, سأله: ((أتحب أن يكون محمدٌ مكانك، وأنت في أهلك؟ فانتفض خبيب، وقال: والله ما أحبُّ أن أكون في أهلي وولدي وعندي عافية الدنيا و نعيمها ويصاب رسول الله بشوكة))، لذلك قال أبو سفيان: ((ما رأيتُ أحداً يحبُّ أحداً كحبِّ أصحابِ محمدٍ محمداً)). هذه أربعُ نقاطٍ تستنبط من حياة أصحاب النبيِّ عليهم رضوان الله، لذلك هؤلاء الذين رضي الله عنهم هكذا كانوا، وهكذا ينبغي أن نكون حتى يرضى الله عنَّا.
