العلاقة بين أبي سفيان وبين النبي قبل البعثة:
قصة هذا الصحابي تؤكد أن الحسد أحياناً يهلك صاحبه، لولا أن الله سبحانه وتعالى تلطف به لكان من الهالكين.
المتكبر أحياناً يمنعه الحسد أن يستفيد من رجل فاقه في العلم والتقى، فهذا الصحابي الجليل أبو سفيان بن الحارث قلَّ أن اتصلـت الأسباب بين شخصين، وتوثقت العرى بين إنسانين، كما اتصلت وتوثقت بين محمد صلى الله عليه وسلم وبين أبي سفيان بن الحارث، يعني علاقة متينة، أخوّة صادقة، وشائج ثابتة بين أبي سفيان بن الحارث وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، لماذا؟ لأن هذا الرجل أبا سفيان بن الحارث كان لِدةً من لدات رسول الله، لدة يعني من سنه، ومن جيله، الآن يقال: نحن رفقاء، كنا بالابتدائي معًا، نحن جيران، أولاد سنة وحدة، وُلِدنا في شهر واحد، والقرابة في السن مهمة جداً،
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: لَا تَصْحَبْ إِلَّا مُؤْمِنًا، وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ
وفي الحِكَم العطائية: لا تصاحب من لا ينهض بك إلى الله حاله، ومن لا يدلك على الله مقاله، إن أحببته رفعك حاله، وإن استمعت إليه غذتك مقالته
قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)
يجب أن تختار أصدقاءك كما تختار أغلى شيء عليك، إنك به تعرف، الصاحب ساحب، وَمَن جالَسَ جانَسَ، إن صحبتَ الكبراء فأنت منهم، إن صحبتَ العلماء فأنت منهم، وإنَ صحبتَ أُولي الفضل فأنت منهم، أخطر شيء في الحياة صاحبُ السوء، فإن يهلك قرينَه.
الإنسان العاقل يختار إنسانًا مؤمنًا، أرسخ منه إيماناً، وأشد منه ورعاً، فهذا أبو سفيان كان لِدة من لدات رسول الله، وتِرباً من أترابه، وُلِدا في زمن متقارب، وكان ابن عم النبي، فأبوه الحارث وعبد الله والدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ينحدران من صُلبِ عبد المطلب، ثم إنه كان أخاً للنبي عليه الصلاة والسلام من الرضاعة، فقد غذَّتهما السيدة حليمة السعدية من ثدييها معاً، وبَعد هذا كله كان صديقاً حميمًا للنبي عليه الصلاة والسلام قبل النبوة، وأشد الناس شبهاً به.
موقف أبو سفيان حينما أكرم الله النبي بالبعثة:
وهنا سؤال يطرح نفسَه، حينما تأتي الرسالة لهذا النبي العظيم، فمَن تتوقعون أن يكون أسبقَ الناس إلى الإيمان به؟ أبو سفيان، من كان ينبغي أن يكون أقرب الناس إليه؟ أبو سفيان، ولكن الذي حصل على خلاف ذلك، المفروض على أبي سفيان أن يكون أسبقَ الناس إلى تلبية دعوة النبي، وأن يكون أسرعهم مبادرةً لاتباعه، ولكن الأمر جاء على خلاف ذلك، إذْ ما كاد النبي صلى الله عليه وسلم يظهر دعوته، وينذر عشيرته، حتى شبت نار الضغينة، الضغينة الحقد والكراهية، وقد يكون السبب هو الحسد.
استحالت هذه الصداقة إلى عداوة، واستحالت هذه الرحم إلى قطيعة، واستحالت هذه الأخوة إلى صد وإعراض، ويوم صدع النبي صلى الله عليه وسلم بدعوة ربه كان أبو سفيان فارساً من أنبه فرسان قريش، إنه فارس ملء السمع والبصر، الحقيقة أنّ الشجاعة كانت صفةً لصاحبها في العهود السابقة، فيها كرٌّ وفَرٌّ، هجومٌ وطِعان .
أمّا الآن فإنك تجد جنديًّا أمام شاشة رادار يرى صورة الطائرة على شاشة الرادار، وعنده إشارة ضرب يحركها فوق الطائرة يضغط على زر فيسقطها، وقد يكون أشدَّ الناس جُبنًا، الأسلحة الحديثة ليس فيها شجاعة، إنها أجهزة معقدة جداً، حتى إنهم قالوا: الحرب الحديثة حرب بين عقلين، أمّا الجندي فقد يكون شارب خمر، وقد يكون مقصرًا مع ربه، وقد يكون جبانًا، الشجاعة الحقيقية يوم كانت الحربُ بالسيف، سيف لسيف، ووجهٌ لوجهٍ.
كان أبو سفيان شاعراً من أعلى شعرائهم، فما إن امتلأ قلبه حقداً وضغينةً وحسداً حتّى وضع سنانه ولسانه في عداوة النبي، وقد يكون جرح اللسان أبلغ من جرح السنان، جنّد طاقاته كلها للنكاية بالإسلام والمسلمين، فما خاضت قريشٌ حرباً ضد النبي صلى الله عليه وسلم إلا كان مسعرها، ولا أوقعت بالمسلمين أذى إلا كان له فيه النصيب الأكبر، كتلة شر وحسد.
فإذا اتصل الإنسان برجل، بصديق، فلو أنه من سنِّه لا يمنعه الحسد أن يصُدَّ عنه، استفِدْ منه، والإنسان حينما يتواضع لله عز وجل فإنّه يكرم نفسه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ألا يا رُبَّ مكــرم لنفسه وهو لها مهين
الآن ترون أنه أكرم نفسه فأهانها اللهُ، وأبت نفسه أن تؤمن برسول الله، مع أنه ابن عمه، وأخوه من الرضاعة، وصديقه الحميم، وأشبه الناس به، وابن لدته، وقريبه، ومع كل ذلك فالحسد منعه أن يؤمن، ثم إن أبا سفيان بن الحارث أطلق شيطانَ شِعره، وسوطَ لسانه في هجاء رسول الله، فيا للبوار والخسار.
يا أيها الأخوة الأكارم، نعوذ بالله، أن نكون في خندق نعادي المسلمين، وأنْ نكون في صف أعداء المسلمين، لأنك إذا حاربتَ الله ورسوله فالله هو المنتصر ورسوله، وأنت المهزوم الخاسر، قال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ)
هذا الذي يحارب الله ورسوله، يريد أن يطفئ نور الله عز وجل، يريد أن يشوه سمعة المسلمين، أن يطعن بهم ظلماً وعدواناً، أن يسفه دعوتهم، أن يطعن بأخلاقهم، تشفياً لنفسه، لما في قلبه من الحسد، هذا الذي وقع به أبو سفيان، المتوقع أن يكون أقرب الناس إلى النبي، المتوقع أن يكون مكان أبي بكر، قرابة على رحم، على شَبَه، على لدة، على صداقة حميمة، على نسب، وطالتْ عداوة أبي سفيان بن الحارث للنبي عليه الصلاة والسلام حتى قاربت عشرين عاماً، عشرون عاماً يناصب النبي العداء، عشرون عاماً يهجوه بلسان مقذع، عشرون عاماً يحاربه بسنان لا يلين، لم يترك أبو سفيان بن الحارث في هذه الأعوام العشرين ضرباً من ضروب الكيد للنبي صلى الله عليه وسلم إلا فعله، ولا صنفاً من صنوف الأذى للمسلمين إلا اجترحه، وباء بإثمه.
قصة إسلام أبو سفيان:
قبيل فتح مكة بقليل كُتب لأبي سفيان أن يسلم، وكان لإسلامه قصة مثيرة وعتها كتب السير، وتناقلتها آثار التاريخ، والآن نتنحّى جانباً لندعَ الحديث لأبي سفيان نفسه، حتى يرويَ لنا قصته المثيرة عن إسلامه، فشعوره بها أعمق شعور، ووصفه لها أدق وأصدق.
أنا أشعر، أن في قصة هذا الصحابي من المواعظ والعبرة ما لا سبيل إلى حصره، الآن أحاول إن شاء الله تعالى أن أعمق التحليل لهذه القصة المثيرة.
قال أبو سفيان بن الحارث: لما استقـام أمر الإسلام، وقرّ قراره، وشاعت أخبار انتصار النبي صلى الله عليه وسلم، وتوجه إلى مكة ليفتحها ضاقت علي الأرض بما رحبت، أين أذهب؟ ولِمَن ألتجئ؟ ثم جئت زوجتي وأولادي، وقلت: تهيؤوا للخروج من مكة، فقد أوشك وصول محمد، وإني لمقتول لا محالة إن أدركني المسلمون، فقالوا لي: أمَا آن لك أن تبصر أن العجم والعرب قد دانت لمحمد بالطاعة إلى متى تبقى راكبًا رأسك؟ وإلى متى العناد؟ إلى متى الكبر؟
أحياناً أيها الأخوة، تكون الزوجة أصفى من الزوج قلبًا، وأصوب رأيًا، وقد تنصحك نصيحة أبلغ من أية نصيحة، ابنك قد ينصحك
قال: وما زالوا بي يعطفونني على دين محمد، ويرغبونني فيه حتى شرح الله صدري للإسلام
ثم قال: قمت من توئي، وقلت لغلامي: هيئ لي نوقاً وفرساً، وأخذت معي ابني جعفرًا، وجعلنا نغذّ السير نحو الأبواء بين مكة والمدينة فقد بلغني أن محمدًا نزل فيها، ولما اقتربت منها تنكرت،
لماذا تنكر؟ لأن أصحاب النبـي لو رآه لقتلوه، لأنه عدوٌ لدود، هذا عدوٌ لله ورسوله،
تنكرت حتى لا يعرفني أحد، فأقتل قبل أن أصل إلى النبي، وقبل أن أعلن إسلامي بين يديه، ومضيت أمشي على قدمي نحواً من ميل وطلائع المسلمين تمضي ميممةً شطر مكة، جماعة إثر جماعة، فكنت أتنحى عن طريقهم فرَقا
أي خوفاً منهم،
وفرقاً من أن يعرفني أحد من أصحاب محمد، وفيما أنا كذلك إذ طلع النبي صلى الله عليه وسلم في موكبه، قال: فتصديت له، ووقفت تلقاءه، وحسرت عن وجهي فما إن ملأ عينه مني وعرفني حتى أعرض عني إلى الناحية الأخرى، فتحولت إلى ناحية وجهه، فأعرض عني وحوّل وجهه،
يقول هذا الصحابي: كنت لا أشك وأنا مقبل على النبي أن رسول الله سيفرح بإسلامي، وأن أصحابه سيفرحون لفرحه
لو كان هذا قبل عشرين سنة لصحّ كلامك، أمّا بعد هذا العداء، والجفاء، وبعد القتال، والهجاء، فالقضية ليست سهلة.
أيها الأخوة، قال: لكن المسلمين حينما رأوا إعراض الرسول عني تجهموا لي، وأعرضوا عني جميعاً، فقلت: يا جماعة، قد أسلمت، لقد لقيني أبو بكر فأعرض عني أشد الإعراض، نظرت إلى عمر بن الخطاب نظرةً استميل بها قلبه، فوجدته أشد إعراضًا من أبي بكر، بل إنه أغرى بي أحد الأنصار، فقال لي الأنصاري: يا عدو الله، أأنت الذي كنت تؤذي رسول الله، وتؤذي أصحابه، وقد بلغت في عداوتُك للنبي مشارق الأرض ومغاربها؟ وما زال الأنصاري يستطيل عليّ ويرفع صوته، والمسلمون يتفحصونني بأعينهم، ويُسَرُّون بما ألاقي، حتى أبصرت عمي العباس فَلُذْتُ به، وقلت يا عم: قد كنت أرجو أن يفرح رسول الله بإسلامي، -أمَا للإسلام بهجة! أمَا يفرح أحدٌ بإسلامي، عند ذلك أبصرت عمي العباس فلذت به، وقلت يا عم: شفاعتك، قد كنت أرجو أن يفرح رسول الله بإسلامي لقرابتي منه، وشرفي في قومي، لم تعُدْ شريفًا الآن، الشرف أن تؤمن وقد كان منه ما تعلم، ما سلم علي، ما قبلني، ما نظر إليّ لا هو، ولا الصِّدِّيق، ولا عمر، فكلِّمْه فيّ ليرضى عني، فقال: لا واللهِ لا أكلمه كلمةً أبداً بعد الذي رأيته مِن إعراضه عنك، إلا إن سنحت ليّ فرصة فإني أجل رسول الله وأهابه، فقلت يا عم: إلى من تكلني إذاً، وماذا أفعل؟
إذاً: يا أخوان، عندما يشعر الإنسان أن الله عز وجل أعرض عنه، وبالتعبير القرآني: لعنه، وإذا سقط الإنسان من عين الله، أو سقط من عين المؤمنين، وقد ارتكب حماقة، وارتكب معصية، وعادى أهل الحق، وافترى عليهم افتراء، واللهِ الأرضُ كلها لا تسَعُه، واللهِ لأَنْ يسقط الإنسانُ من السماء إلى الأرض فتتحطم أعضاؤه ويموت أهون ألف مرةٍ مِن أن يسقط من عين الله، هذا يعيش في جهنم.
قال: ليس لك عندي غير ما سمعت، فتملَّكني الهمّ، وركبني الحزن، ولم ألبث أن رأيتُ ابن عمي علي بن عمي أبي طالب فكلمته في أمري، فقال لي مثل ما قال عمي العباس، فالكل يعرض، ولا أحد يتورط، ولا أحد يعصي الله، عند ذلك رجعتُ إلى عمي العباس، وقلت يا عم: إذا كنت لا تستطيع أن تعطِّف عليّ قلب رسول الله فكفَّ عني ذلك الرجل، هؤلاء سوف يقتلونني، فخلِّصْني من هذا الذي يشتمني ويغري الناس بشتمي، فقال: صفه لي فوصفته له، فقال: ذلك النعيمان بن حارث النجاري، فأرسل إليه، وقال له يا نعيمان: إن أبا سفيان ابن عم رسول الله، القرابة لها شأنها، وابن أخي، وإنْ يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ساخطًا عليه اليوم فسيرضى عنه غدًا، فكفَّ عنه، وما زال به حتى رضي بأن يكفّ عني، وقال: لا أعرض له بعد الساعة
إذا كان لأحد مكانة في المسجد فلا يضحي بها، لا يرتكب معصية، حتى إذا عرف أخوانُه معصيته احتقروه، فتكريمك، والاحتفال بك، والسلام الذي فيه مودة بالغة، واللقاء البشوش، والاحترام الكبير، والمكانة العلية التي لك بالجامع ناتجة من استقامتك، من التزامك، من طاعة لله عز وجل، أمّا إذا قلت: أنا عليّ هؤلاء، أرضيهم، وأرضي أولئك، فإذا كشفوك سقطتَ من أعينهم، فلا تكن لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء، كن مع الحق فقط، ولا بأس عليك، فحينما يكون للإنسان مكانته يعيش بسمعته، ويعيش بكرامته، لأنه مستقيم أخلاقيًّا، مطيع لله، له أخوان يحبونه، وهذه نعمة كبيرة.
رحلة التكفير:
قال: ولما نزل النبي صلى الله عليه وسلم بالجحفة، جلست على باب خيمته، ومعي ابني جعفر قائماً، فلما رآني النبي وهو خارج من منزله، أزاح عني بوجهه، أعوذ بالله، لا أمل لي، فلم أيئس من استرضائه، وجعلت كلما نزل بمنزل اجلس على بابه، وأقيم ابني جعفرًا واقفاً بحذائي، فكان إذا أبصرني أعرض عني، وبقيت على ذلك زماناً، فلما اشتد علي الأمر وضاق، قلت لزوجتي: والله ليرضين عني رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لآخذن بيد ابني هذا، ثم لنذهبن هائميْن على وجوهنا في الأرض حتى نموت جوعاً،
ما عاد يحتمل الصد، والبعد، والجفاء، لا يحتمل أنْ يواجهه به نبي كريم، وكل الأصحاب سعداء بصحبته، سعداء بقربه، سعداء بخدمته، والنبي معرض عني
قال: فلما بلغ ذلك رسول الله، رق لي، ولما خرج من قبته نظر إليَّ نظراً لكن ألين من النظر الأول وكنت أرجو أن يبتسم فلم يبتسم.
وبصراحة أقول لكم: ابتسامة من رسول الله في وجهك تعدل الدنيا وما فيها، فكيف إذا قال النبي لأحد أصحابه: ( والله يا معاذ إني لأحبك) (ارم سعد فداك أبي وأمي ) (هذا خالي أروني خالاً مثل خالي؟)
إذا داعب النبيُّ إنسانًا، وهش في وجهه وبش، واللهِ هذه سعادة ما بعدها سعادة، وهذا يعني أنّ الله راضٍ عنه، لأنّ رضى النبي مِن رضى الله عز وجل، قال الله: ( يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ)
ثم دخل النبي عليه الصلاة والسلام مكة، فدخلت في ركابه، وخرج إلى المسجد فخرجت اسعى بين يديه، لا أفارقه على حال
قال الشاعر:
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته***ومدمن القرع للأبواب أن يلـــجا
الإلحاح على الله عز وجل مقبول، يا رب أرجو رضاك، يا رب أرجو رحمتك، يا ربي أرجو توبتك عليّ، لو أنك ما شعرت بشيء أول يوم، اصبر لليوم الثاني، ولليوم الثالث، والرابع، وقد صدق القائل في قوله:
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته***ومدمن القرع للأبواب أن يلـــجا
قال: ولما كان يوم حنين جمعت العرب من أهل الشرك لحرب النبي صلى الله عليه وسلم، ما لم تجمع قط، وأعدت للقائه ما لم تعد من قبل، وعزمت على أن تجعلها القاضية على الإسلام والمسلمين، وخرج النبي صلوات الله عليه في لقائه في جموع من أصحابه فخرجت معه، ولما رأيت جموع المشركين الكبيرة قلت: والله لأكفرن اليوم عن كل ما سلف مني، من عداوة رسول الله، وليرين النبي مني ما تقر به عينه، قال: ولما التقى الجمعان اشتدت وطأة المشركين على المسلمين، فدبّ فيهم الوهن والفشل، وجعل الناس يتفرقون عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكادت تحل بنا الهزيمة المنكرة، فإذا بالنبي فداه أبي وأمي، يثبت في قلب المعركة على بغلته الشهباء، كأنه الطود الراسخ، ويجرد سيفه، ويجاهد عن نفسه وعمن حوله، كأنه الليث عادياً، عند ذلك وثبتُ عن فرسي، وكسرت غمد سيفي، واللهُ يعلم أني أريد الموت دون رسول الله، وأخذ عمي العباس بلجام بغلة النبي، ووقف إلى جانبه، وأخذت أنا مكاني من الجانب الآخر، وفي يميني سيفي أذود به عن رسول الله، أما شمالي فكانت ممسكةً بركاب النبي، وبيده السيف يدافع بها عن رسول الله، فلما نظر النبي إلى حسن بلائي، قال لعمي العباس: من هذا؟ فقال العباس: هذا أخوك يا رسول الله، هذا ابن عمك أبو سفيان، فارضَ عنه يا رسول الله، فقال: قد فعلت، وغفر الله له كل عداوة عاداني إياها، فاستطار قلبي فرحاً برضى رسول الله عني، وقبلت رجله في الركاب، ثم التفت إليّ، فقال له: أخي لعمري تقدم فضارب.
أيها الأخوة، أقسم بالله العظيم، ما من سعادة أعظم عندنا من أن يشعر المؤمن أن الله يحبه، وأن الله راض عنه، ورضاء رسول الله من رضاء الله-
قال: ألهبت كلمات رسول الله حماستي فحملت على المشركين حملة أزالتهم عن مواضعهم، وحمل معي المسلمون حتى طردناهم قدر فرسخٍ ففرقناهم في كل وجه، قال: ظل أبو سفيان بن الحارث منذ حنين في نعيم القرب
للقرب ثمن:
فالمؤمن باستقامته وإخلاصه لله، وثقته بالله في جنة القرب، صدق القائل:
لو شاهدت عيناك من حـسننا***الذي رأوه لما وليت عنا لغيرنا
ولو سمعت أذناك حسن خطابنا***خلعت عنك ثياب العجب وجئتنا
ولو ذقت من طعم المحبة ذرة***عذرت الذي أضحى قتيلاً بحبنا
ولو نسمتْ من قربنا لك نسمة***لمتَّ غريباً واشتياقاً لقـربنـا
ولو لاح من أنوارنا لك لائـحٌ***تركــت جميع الكائنات لأجلنا
فما حبنا سهلٌ وكل من ادعى***سهولته قلنا له قــد جهلتنـا
أقول لكم: لكل واحد منكم، وأنا معكم، يظن المرءُ أنّ الإسلام قضية ركعتين وليرتين لفقير، فمَن كان ظنُّه هذا فهو أحمق، ألا إن سلعة الله غالية، وفي مسيرة الإيمان امتحانات، وظروف صعبة يمر بها المؤمن، فهل يثبت؟ قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم:
قال له: واللِه إني أحبك يا رسول الله،
قال له: انظر، ماذا تقول ؟
قال له: واللهِ إني أحبك،
قال له: إن كنتَ صادقاً فيما تقول فَلَلْفَقْرُ أقربُ إليك من شرك نعليك
لا تغلطوا في فهم الحديث، إذا أنت أحببت رسول الله، ولديك صفقة تجارة فيها ثلاثة أرباع المليون خلال أسبوع، ولكنْ فيها مادة محرمة، أتقبَلها؟ ضعْها تحت قدمك، وظيفة راقية جداً فيها مكاسب كثيرة جداً لكن لا ترضي الله أتقْبلها؟ لا، سفرة لبلد تقبلها إذا كانت لغير الله؟ لا تقبلها، فإذا أراد الإنسان أنْ يستقيم فلا بد أنْ يضحي، ولا يقبل إلا ما هو حلال يرضي الله تعالى، وهنا يكون الإيمان، ويكون لك الفلاح.
حياء أبي سفيان خجلاً من الأيام الماضية:
كان أبو سفيان بعد وقعة حنين ينعم بجميل رضى النبي عنه، ويسعد بكريم صحبته، من خجله منه، وقيل: إنه لم يرفع نظره إليه أبداً، هذه العشرون سنة كسرت نفسه وحجّمته، ما رفع نظرًا له أبداً، ولا ثبت نظره في وجهه حياء منه، وخجلاً من الماضي معه.
والله يا أخوان، عندنا جنة في الدنيا، تتحقّق للمؤمن بالقرب من الله، ولكن لا بد أنْ يضحّي ويستقيم، فاضبط شهواتك، واحضر مجالس العلم، وآثر الله ورسوله على كل شيء، وجعل أبو سفيان يعض بنان الندم على الأيام التي قضاها في الجاهلية، المؤمن الصادق أيها الأخوة إذا تذكر جاهليته، أو تذكر أيام المعاصي والفجور يذوب مثل الشمعة ندمًا، وجعل أبو سفيان يعض أصابع الندم على تلك الأيام التي قضاها في الجاهلية محجوباً عن نور الله، محروماً من كتاب الله، قال تعالى: ( قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ)
وقال تعالى: ( مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ)
المؤمن في سعادة، واللهِ لا تستطيع سبائك الذهب اللامعة، ولا سياط الجلادين اللاذعة أن تصرفاه عنه،
قال له: أتحب أن يكون محمد مكانك؟ قال: لا والله لا أحب أن أكون في بيتي وأهلي، وعندي عافية الدنيا ونعيمها، ويصاب رسول الله بشوكة،
ماذا فعل هذا الصحابي الجليل؟ قال: أقبل على كتاب الله يقرؤه ليلاً ونهاراً، ويتفقه في أحكامه، ويتملى من عظاته، وأعرض عن الدنيا وزهرتها، وأقبل على الله بكل جارحة من جوارحه، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم رآه ذات يومٍ يدخل المسجد، فقال لعائشة رضي الله عنها:
يا عائشة، أتدرين مَن هذا؟ قالت: لا والله، قال: إنه ابن عمي أبو سفيان، انظري إليه إنه أول من يدخل المسجد، وآخر من يخرج منه، ولا يفارق بصره شراك نعليه أبداً
ولما لحق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى حزن عليه أبو سفيان حزن الأم على وحيدها، لا على ابنها، بل على وحيدها، وبكاه بكاء الحبيب على حبيبه، ورثاه بقصيدة، فهو شاعر، فهذه مناسبة تجود بها القرائح الشعرية، ورثاه بقصيدة من أَرَقِّ المراثي، تفيض لوعةً وشجوناً، وتذوب حسرة وأنينًا.
استقبال أبو سفيان للموت:
وفي خلافة الفاروق رضي الله عنه أحسّ أبو سفيان بدنو أجله، فحفر قبره بنفسه، ولم يمض على ذلك غير ثلاثة أيام حتى حضرته الوفاة، كأنه مع الموت على ميعاد، فالتفتَ إلى زوجته وأولاده وأهله وهم يبكون حوله، ماذا قال لهم: لا تبكوا علي، ولا تحزنوا، فو الله ما تعلقت بخطيئة منذ أسلمت؟ فهو مطمئن، هكذا فليكنِ المؤمن، تربية النبي كانت تربية توبة.
ثم فاضت روحه الطاهرة فصلى عليه الفاروق نفسه، وحزن لفقده هو وأصحابه الكرام، وعدوا موته جللاً حل بالإسلام وأهله.