إسلام النعمان بن مقرن المزني:
أيها الأخوة الأكارم، مع سيرة صحابة رسول الله رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، وصحابي اليوم، سيدنا النعمان بن مقرِّنٍ المُزني، فقد كانت قبيلة مزينة، تتخذ منازلها قريبةً من يثرب، والتي أضحتْ بعد ذلك المدينة المنورة، مدينة رسول الله صلى الله علية وسلَّم، على الطريق الممتدة بين المدينة ومكة، وكان النبي عليه الصلاة والسلام قد هاجر إلى المدينة، وجعلت أخباره تصل تباعاً إلى مزينة مع الغادين والرائحين، لأن مزينة كانت على الطريق، بين مكة والمدينة.
لكن هذه القبيلة، لا تسمع إلا خيراً عن رسول الله وأصحابه، لقد كانتْ منصفة، والمؤمن من صفاته أنه منصف، ينصف الناس من نفسه، وحينما يكابر الإنسان، ويجحد، ويبالغ، ويمدح مَن كان قريباً منه، ويحابي، ويذمُّ بلا سبب، إذا فعل ذلك فقد ابتعد عن إيمانه، وعن إسلامه، بُعْدَ الأرض عن السماء، فهذا إنسان بعيد عن مرضاة الله عزَّ وجل، فهذا ابني أمدحه، وابن الآخرين أذمُّه، فلست حينئذٍ منصفاً، ولست مؤمناً، وإنّ الله يحب المنصف العادل، ويحب الذي يقول الحق، ولو كان مراً،
هؤلاء سرُّ إسلامهم، وسرّ قربهم من الله عزَّ وجل، وسبب سرعة إسلامهم، وسبب دخول الإيمان إلى قلوبهم، وسبب إقبالهم على هذا الدين الجديد، أنهم أنصفوا.
وفي ذات عشيةٍ، جلس سيِّد القوم، الصحابي الجليل الذي ندرس عظمة موقفه في الإسلام في ناديه مع أخوته، ومشيخة قبيلته، فقال:
يا قوم، واللهِ ما علِمنا عن محمدٍ إلا خيراً، ولا سمعنا من دعوته إلا مرحمةً، وإحساناً، وعدلاً، فما بالنا نبطئ عنه، والناس يسرعون إليه؟
إنسان أقبل على هذا الدين، أقبل على ربه، انضوى تحت لواء المؤمنين، استقام على منهج الله، بذل كلِّ شيءٍ في سبيل الله، تألَّقت روحه، أشرقت نفسه، اطمأن قلبه، وأنت جاره، صديقه، أخوه، زميله، ألا تغار منه؟ فما بالنا نبطئ عنه، والناس يسرعون إليه؟ وهكذا قال بعض العلماء: الشريعة رحمةٌ كلُّها، عدلٌ كلُّها، مصلحةٌ كلُّها، فأية قضيةٍ خرجت من الرحمة إلى القسوة، من العدل إلى الجور، من المصلحة إلى المفسدة، فليست من الشريعة، ولو أُدخلت علّيها بألف تأويلٍ وتأويل،
هذا هو الشرع.
ثم قال النعمان: أمّا أنا فقد عزمتُ على أن أغدوَّ عليه إذا أصبحت، فمَن شاء منكم أن يكون معي فليتجهَّز.
وكأنما مسَّت هذه الكلمات وتراً مرهفاً في نفوس القوم، فما إن طلع الصباح حتى وجد أخوته العشرة، وأربعمئة فارسٍ من فرسان مُزينة قد جهَّزوا أنفسهم للمضي معه إلى يثرب، للقاء النبي صلوات الله وسلامه عليه، والدخول في دين الله،
انظر إلى القدوة، لذلك في القرآن آية تشير إلى القدوة، فهل تعرفوها؟ قال تعالى: ( يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ)
وفي آية ثانية، يقول تعالى: ( نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ)
نساء النبي، إن أحسنَّ، يُؤْتَيْنَ أجورهن مرتين، وإن أسأن يعاقبن مرتين،
لذلك سيدنا عمر كان إذا أراد إنفاذ أمرٍ جمع أهله وخاصَّته، وقال:
إني قد أمرت الناس بكذا، ونهيتهم عن كذا، والناس كالطيـر، إن رأوكـم وقعتم وقعوا، وايم الله لا أوتينَّ بواحدٍ وقع فيما نهيت الناس عنه، إلا ضاعفت له العقوبة، لمكانه مني
فصارت القرابة من عمر مصيبة، وحينما ترقى إلى مستوى قيادي فلك حساب مضاعف، فإن أطعتَ الله عزَّ وجل فلك أجرُّ طاعته، ولك أجرُ مَن اقتدى بك، ولك أجرُ مَن قلَّدك، ولك أجرُّ من رأى هذا العمل عظيمًا، واقتدى به.
لكن النعمان بن المقرِّن المزني فقد استحيا أن يَفِدَ مع هذا الجمع الحاشد على النبي صلى الله عليه وسلم دون أن يحمل له وللمسلمين شيئاً يقدِّمه، وفي المسلمين فقراء، وذو حاجة، فأراد أن يقدِّم للنبي بعض الهدايا، لكن السنة العجفاء المجدبة التي مرَّت بها مزينة لم تترك لها ضرعاً ولا زرعاً، فطاف النعمان ببيته، وبيوت أخوته، وجمع كلما أبقاه القحط من غنيمات، وساقها أمامه، وقدم بها على النبي صلى الله عليه وسلم، وأعلن هو ومن معه إسلامهم بين يديه.
هذا إسلام جماعي،النبي عليه الصلاة والسلام حينما رأى ذلك سُرَّ أشدَّ السرور، واهتزت يثربُ من أقصاها إلى أقصاها، فرحاً بالنعمان بن مقرِّن وصحبه، إذْ لم يسبق لبيتٍ من بيوت العرب أنْ أسلم منهم هذا الجمع الغفير، وتقبَّل الله عزَّ وجل غُنيماته، وأنزل فيه قرآناً يُتلى إلى يوم القيامة: ( وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
أخوك فقير قدَّمت له شيئًا، فالله يتقبّله، وإذا قدّم إنسان إلى أخيه هدية بِنِية تمتين العلاقات، وبِنِية إكرامه، وبِنِية مسح شيء من الضغينة، هذه الهدية يتقبلها الله عزَّ وجل، وهكذا فلْيَكُن المؤمن، قال تعالى: ( وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ)
أحياناً يقدِّم أخٌ خدمةً إلى المسجد، قد يساهم في حلِّ قضيةٍ، أو يقضي حاجة أخيه، أو يحل مشكلة عويصة، أو يسدّ نقصًا، أو يقوِّي ضعفًا، أو يطفئ فتنةً، أو يزيل نفورًا، فتجد هذا الذي يدعو إلى الله يمتلأ قلوبَ الآخرين امتناناً له.
النعمان رئيس الوفد إلى كسرى:
انضوى النعمان بن مقرن المزني تحت راية النبي صلى الله عليه وسلم، وشهد معه غزواته كلها، غير وانٍ ولا مقصِّر، ولما آلت الخلافة إلى سيدنا الصديق وقف معه هو وقومه من بني مزينة وقفةً حازمةً، كان لها أثرٌ كبير في القضاء على فتنة الردة.
كانت الأضواء مسلطة على موقف سيدنا النعمان في موقعة القادسية، وفيما تلاها من وقعات، ومنها وقعة نهاوند، فكل إنسان له مجال تفوَّق فيه يُذكَر به، فلمَّا صارت الأمور إلى الفاروق رضي الله عنه، وقد صار للنعمان بن مقرِّن في عهده شأنٌ ما يزال التاريخ يذكره بلسانٍ نديٍ بالحمد، رطبٍ بالثناء، فقُبَيْل القادسية أرسل سعدُ بن أبي وقَّاص قائد جيوش المسلمين وفداً إلى كسرى يزدجرد، برئاسة النعمان بن مقرن، ليدعوه إلى الإسلام، وهنا وقفة لا بدَّ منها.
أيها الأخوة الأكارم، كما تقول العامَّة: الإسلام ليس دين السيف، الإسلام دين العقل، بل الإسلام دين المنطق، الإسلام دين الدعوة السلمية، فلا يمكن أن يشهر السيف من قبل المسلمين، قبل أن يُدعَى الكفَّار إلى الإسلام دعوةً هادئةً مبنيةً على التبيين، والتوضيح، والتبليغ، فإذا رفض هذا الكافر أن يسلم، وأن ينضوي تحت لواء المسلمين، وأن يحميه المسلمون، لأنّ عقيدتهم لا تسمح له أن يقاتل مع المسلمين، لذلك تؤخذ منه الجزية، وإذا رفض أن يسلم، ورفض أن يدفع الجزية، فعندئذٍ يقاتل، لتكون كلمة الله هي العليا.
لذلك أهل سمرقند فتحت بلادهم فتحاً عسكرياً، ثم علموا أن فتحهم ليس شرعياً، فأرسلوا وفداً خفيةً إلى سيدنا عمر بن عبد العزيز، وأطلعوه على ما جرى، وعلى طريقة فتح بلادهم، فما كان مِن سيدنا عمر، كما يروي التاريخُ، إلاّ أن أرسل قصاصة ورق، كتب فيها ما يلي:
إلى قائد جيوش المسلمين في سمرقند، ما إن يصلك كتابي هذا، فاخرجْ من سمرقند، وادعُ أهلها إلى الإسلام، فإن أبَوْا فادعُهم لدفع الجزية، فإن أبَوْا فقاتلهم، وافتح بلادهم مرةً ثانية.
هذا الوفد الذي عاد ومعه تلك قصاصة، فيها أمرٌ إلى قائد جيش أن ينسحب من بلدٍ احتلها، وانتصر على أهلها، ودانتْ للمسلمين، لم يصدِّق- فلما قُدِّمت هذه القصاصة إلى قائد الجيش قبَّلها، وأمر جيشه بالانسحاب، فلما رأوا ذلك، قالوا: نحن أسلمنا، وابقَوْا على ما أنتم عليه.
فسيدنا سعد بن أبي وقاص، قائد جيوش المسلمين، قبل أن يحارب كسرى يزدجرد، لا بدَّ أن يدعوه إلى الإسلام، فإن أبى، دعاه إلى دفع الجزية، فإن أبى، يقاتله، فإذا قاتله، فليس المقصود أن يبيده، المقصود أن يأسره، فلعله يسلم بطريقة المعاملة إنْ لم تفلحْ بطريقة الحوار، هذا هو منهج الإسلام في نشر الدعوة.
ولما بلغ الوفد عاصمة كسرى في المدائن، استأذنوا بالدخول عليه، فأذن لهم، ثم دعا الترجمان فقال له: سَلْهُمْ ما الذي جاء بكم إلى ديارنا، وأغراكم بغزونا، لعلكم طمعتم بنا، واجترأتم علينا، لأننا تشاغلنا عنكم، ولم نشأ أن نبطش بكم؟
هذا كلام كسرى للمترجم، ليوجِّهه لسيدنا النعمان بن مقرن المُزني.
فالتفت النعمان بن مقرن إلى من معه، -انظروا إلى أدبه، وإلى تواضعه- وقال: إن شئتم أجبته عنكم، وإن شاء أحدكم أن يتكلم آثرتُه عليَّ بالكلام، فماذا تروْن؟ قالوا جميعاً: بل تكلَّم أنت، -لأنه رئيس وفد، وما اختاره سيدنا سعد إلا على علم، والقاعدة: إذا عزَّ أخوك فهن أنت، فهي ليست قضية منافسة- ثم التفتوا إلى كسرى، وقالوا: هذا الرجل يتكلَّم بلساننا، فاستمع إلى ما يقول:
فحِمَد النعمانُ الله، وأثنى عليه، وصلى على نبيِّه صلى الله عليه وسلم، ثم قال: إن الله رحمـنا، فأرسل إلينـا رسولاً يدلُّنـا على الخير، ويأمُرنا به، ويعرِّفنا الشرَّ، وينهانا عنه، ووعدنا من يجبه فيما دعانا إليه بخيري الدنيا والآخرة، ثم قال: فما هو إلا قليل، حتى بدَّل الله ضيقنا سَعَةً، وذلَّتنا عزةً، وعداواتنا إخاءً ومرحمة
كلامٌ بليغٌ بليغ، وهو موجزُ فحوى دعوة النبي عليه الصلاة والسلام، توضيح الخير، والأمر به، توضيح الشر، والنهي عنه.
أليس المسلمون في أمسِّ الحاجة، وهم في ضيقٍ شديد اليوم، وهم في ذلةٍ ما بعدها ذلة، وهم في عدواةٍ فيما بينهم ما بعدها عداوة، لأن يهتدوا بهدي النبي عليه الصلاة والسلام؟ فما هو إلا قليل، حتى بدَّل الله ضيقنا سَعَةً، وذلَّتنا عزةً، وعداواتنا إخاءً ومرحمةً.
إذًا: المؤمنون متراحمون، أمّا مجتمع الضغينة، والحقد، والحسد، والغيرة، والبغضاء، والطعن، فهذا مجتمعٌ نتن، وهذا مجتمعٌ ليس مجتمعاً مسلماً، هذا مجتمعٌ لا نزهو به، ولا نفتخر به، وقد أمرنا أن ندعوَ الناس إلى ما فيه خيرهم، وأن نبدأ بمن يجاورنا.
إنسان ما تعلَّم في جامعة، ولا في مدرسة، ابن الصحراء، لكن الإيمان أطلق لسانه، لكنّ حبَّ الله عزَّ وجل جعل كلامه موزوناً، دقيقاً، فاسمعوها:
قال: إن الله رحمنـا، فأرسل إلينـا رسولاً يدلنا على الخير، ويأمرنا به، ويعرِّفنا الشرَّ، وينهانا عنه، ووعـدنا إن أجبناه إلى ما دعانا إليه أن يعطينا الله خيري الدنيا والآخرة، فما هو إلا قليل حتى بدّل الله ضيقنا سعةً، وذلتنا عزةً، وعداواتنا إخاءً ومرحمةً، وقد أمرنا أن ندعوَ الناس إلى ما فيه خيرهم، وأن نبدأ بمن يجاورنا، فنحن ندعوكم إلى الدخول في ديننا، وهو دينٌ حَسَّنَ الحسَنَ كلَّه، وحضَّ عليه، وقبَّح القبيح كلَّه، وحذَّر منه، وهو ينقل معتنقيه من ظلام الكفر وجوره، إلى نور الإيمان وعدله، فإن أجبتمونا إلى الإسلام، خلَّفنا فيكم، كتاب الله، وأقمناكم عليه، على أن تحكموا بأحكامه، ورجعنا عنكم، وتركناكم، وشأنكم، فإن أبيتـم الدخول في دين الله، أخذنا منكم الجزية، وحميناكم، فإن أبيتم إعطاء الجزية حاربناكم
هذا منهج.
فاستشاط يزدجرد غضباً، وغيظاً مما سمع، وقال: إني لا أعلم أمةً في الأرض كانت أشقى منكم، ولا أقلَّ عدداً، ولا أشدَّ فرقةً، ولا أسوأ حالاً.
من أنتم؟ هذه هي الحقيقة، كنا في الجاهلية كذلك، مثلاً: مدَّ رجلٌ شريف رجله في قومه، فقال: من كان أشرف مني فليضربها، فضربها رجل، ونشبت حربٌ دامت عشر سنين، أكلت الأخضر واليابس، كان الرجلُ منهم يضع ابنته في التراب، وهي حية، هذا ما كانوا عليه قبل الإسلام، قال تعالى: ( وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ )
كان الرجال العشرة يشتركون على امرأة واحدة، فيتزوجوها بالتناوب، وإذا جاءها مولود، اختارتْ منهم واحدًا فنسبَتْه إليه، وصار له أبًا، إنها جاهلية بأتمّ معنى الكلمة، لكن الإسلام رفع هذه الأمة، قال الله عزَّ وجل: ( وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ)
قال: وقد كنا نكِل أمركم إلى ولاة الضواحي، فيأخذون لنا الطاعة منكم،
ثم خفف شيئاً من حدته،
وقال: فإن كانت بكم الحاجة، أي الفقر، هي التي دفعتكم إلى المجيء إلينا، أمرْنا لكم بقوتٍ إلى أن تخصِب دياركم، وكسونا سادتكم، ووجوه قومكم، وملَّكنا عليكم ملكاً من قبلنا، يرفق بكم.
فردَّ عليه رجل من الوفد رداً أشعل النار من جديد، فغضب يزدجرد، قال:
لولا أن الرسل لا تُقْتَل لقتلتكم، يبدو أنه استفزّه، قوموا فليس لكم شيءٌ عندي، وأخبِروا قائدكم أني مرسِلٌ إليه رستم، حتى يدفنه، ويدفنكم معاً في خندق القادسية،
لقد غضب، وأنتم مصيركم القتل في خندق القادسية.
ثم أمر فأتي له بحِملٍ من التراب، وقال لرجاله: حمِّلوه على أشرف هؤلاء، وسوقوه أمامكم، على مرأى من الناس، حتى يخرج من أبواب عاصمة ملكنا، فقالوا للوفد: من أشرفكم؟ يريدون أنْ يحملوه ترابًا، ويمشوا به في الطريق، كي يذلَّونه لأنهم في نظره أسرى عنده، انظر إلى التضحية،
فبادر إليه عاصم بن عمر، أحد صغار الوفد، فقال له: أنا أشرفهم،
فحمَّلوه عليه، حتى خرج من المدائن، ثم حمل الترابَ على ناقته، وأخذه معه، لسعد بن أبي وقَّاص، وبشّره بأن الله سيفتح على المسلمين ديار الفرس، ويملِّكهم تراب أرضهم، ثم وقعت وقعة القادسية، واكتظ خندقها بجثث آلاف القتلى، ولكنهم لم يكونوا من جند المسلمين، إنما كانوا من جنود كسرى.
انظر إلى هذه المواقف ما أجلَّها، أحد أعضاء الوفد الصغار، توقيراً لرئيسه، ولبقية الوفد، قال: أنا أشرفهم، احمله عليّ، وكان هذا الحملُ وسامَ شرفٍ علَّقه على صدره.
استشهاده:
حينما هُزِم الفرس في معركة القادسية شرَّ هزيمة، جمعوا جموعهم، وجيَّشوا جيوشهم، حتى اكتمل لهم، مئةٌ وخمسون ألفاً من أشدَّاء المقاتلين، للمعركة الثانية، معركة نهاوند، فلما وقف الفاروق على أخبار هذا الحشد العظيم، عزم أن يمضي إلى مواجهة هذا الخطر الكبير بنفسه، لكن وجوه المسلمين، ثنوه عن ذلك، وأشاروا عليه، أن يُرسل قائداً يعتمد عليه، في مثل هذا الأمر الجلل،
فقال عمر: أشيروا عليّ برجلٍ، لأولِّيَه ذلك الثغر،
فقالوا: يا أمير المؤمنين، أنت أعلم بجندك،
فقال: واللهِ لأولِّيَنّ على جند المسلمين رجلاً يكون إذا التقى الجمعان أسبقَ من الأسنة، إنه النعمان بن مقرن المزني،
صار سيدنا النعمان قائد معركة نهاوند
فقالوا: هو لها،
أي واللهِ أصبتَ، قد كان النعمانُ رجلاً كألْف
فكتب إليه يقول:
مِن عبد الله عمر بن الخطاب، إلى النعمان بن مقرن، أما بعد، فإنه قد بلغني أن جموعاً من الأعاجم كثيرةً، قد جمعوا لكم بمدينة نهاوند، فإذا أتاك كتابي هذا، فسِرْ بأمر الله، وبعون الله، وبنصر الله، بمَن معك مِن المسلمين، ولا توطئهم وعراً فتؤذيهم.
هناك أسلوب في قيادة الجيش، إنْ أُتعِب الجندي فهذا غلط، يجب أن تريحه، وأن تعلي مكانته، وأن ترفع معنوياته، وأن توفِّر كلَّ طاقته للمعركة، لا أن تجهده قبل المعركة
قال له: فإن رجلاً واحداً من المسلمين، أحبُّ إلي من مئة ألف دينارٍ، والسلام عليك
والقائد لا ينجح في الحرب إلا إذا شعر الجندي أن حياته غالية جداً على قيادة الجيش، أما نحن، فنقول: إنّ عندنا أعدادًا كبيرة لا يهمنا الأمر، هذه بعض المجتمعات التي رفعت شعارَ لا إله، من عقيدتها في الحرب أنها تكسح الألغام بالقوى البشرية، أي إنْ وُجِد حقل ألغام أُرسِلت سرية، فيتفجَّر الألغام بها، فيتمّ كسحها، فإذا شعر الجندي أنه رخيص على قيادته، وليس له قيمة فلن يحارب على الإطلاق، أما إذا شعر أنه غالٍ جداً على قيادته، والقيادة مستعدة لبذل كل شيء لإنقاذ حياته، فحينئذٍ يكون شجاعاً، هذه أسرار قوة الجيش-.
هبّ النعمان بجيشه للقاء العدو، وأرسل أمامه طلائع من فرسانه، لتكتشف له الطريق، فلما اقترب الفرسان من نهاوند توقَّفت خيولهم، فدفعوها فلم تندفع، فنزلوا عن ظهورها، ليعرفوا ما الخبر؟ فوجدوا حوافر الخيل، فيها شظايا من الحديد، تشبه رؤوس المسامير، فنظروا إلى الأرض، فإذا العجم قد نثروا في الدروب المؤدية إلى نهاوند حسكَ الحديد، ليعوِّقوا الفرسان والمشاة عن الوصول إليهم.
أخبرَ الفرسانُ النعمان بما رأوا، وطلبوا منه أن يمدَّهم برأيه، فأمرَهم أن يقفوا في أمكنتهم، وأن يوقدوا النيران في الليل، ليراهم العدو، عند ذلك يتظاهرون بالخوف منه، والهزيمة أمامه، ليغروه باللحاق بهم، وإزالة ما زرعه من حسك الحديد، فنجحت الخطةُ، وجازت الحيلة على الفرس، فما إن رأوا طليعة جيش المسلمين تمضي منهزمةً أمامهم، حتى أرسلوا عمَّالهم، فكنسوا الطرق من الحسك، فكرَّ عليهم المسلمون، واحتلوا تلك الدروب، وعسكرَ النعمانُ بن المقرن المزني بجيشه على مشارف نهاوند، وعزم على أن يباغت عدوه بالهجوم، فقال لجنوده:
إني مكبرٌ ثلاثاً، المباغتة من علامات نجاح المعركة، فإن كبَّرتُ الأولى فليتهيَّأْ مَن لم يكن قد تهيَّأ، وإن كبَّرت الثانية، فليشددْ كلُّ رجلٍ منكم سلاحه على نفسه، وإن كبرتُ الثالثةَ فإني حاملٌ على أعداء الله فاحملوا معي.
كبرَّ النعمان بن مقرنٍ تكبيراته الثلاث، واندفع في صفوف العدو، كأنه الليث عادياً، وتدفق وراءه جنود المسلمين تدفُّقَ السيل، ودارت بين الفريقين رحى معركةٍ ضروس، قلَّما شهد التاريخُ لها نظيراً، كانت من أشهر معارك المسلمين في فتح بلاد الفرس، تمزَّق جيش الفرس شرَّ ممزق، وملأت قتلاه السهل والجبل، وسالت دماؤهم في الممرات والدروب، فزلق جواد النعمان بن مقرن بالدماء فصُرع، وأصيب النعمان نفسه إصابةً قاتلة، فأخذ أخوه اللواء من يده، وسجَّاه ببردةٍ كانت معه، وكتم أمره على المسلمين، وما أخبر أحدًا، ولما تمَّ النصر الكبير الذي سمَّاه المسلمون فتح الفتوح، سأل الجنودُ المنتصرون عن قائدهم الباسل، فرفع أخوه البردة عنه، وقال: هذا أميركم، قد أقرَّ اللهُ عينه بالفتح، وختم له بالشهادة.
خلاصة القول :
أيها الأخوة، ملخص الملخص، نحن ماذا فعلنا؟ لا جنة من دون عمل، ومن دون تضحية، ومن دون بذل، وأقل شيء أنْ تطلب العلم، وأنْ تعلِّم، وأقل شيء يمكن أن تقدمه أنْ تتعلم القرآن، وأن تعلِّمه، وأن تفعل الخير، وأن تطعم الفقراء، وأن تنصر الضعفاء، وأن تزيل البأساء عن البائسين، وأن تسهم في خدمة مجتمعك، فمِن دون عمل أنتَ تستهلك جهود الآخرين، وتأخذ ما عندهم، لكنْ أنْ تصلي وتصوم، وتظن أن هذا هو الإسلام؟ لا والله، الإسلام عمل، ولو فَهِم الصحابة الكرام الإسلام كما نفهمه اليوم، واللهِ لما خرج الإسلام من مكة إطلاقاً، ولبقي في مكة، فانظرْ إلى أين وصلوا، وأين هذه نهاوند؟ هذه في شرق المدائن، وفي أعماق بلاد الفرس، لقد وصل الإسلامُ إلى الصين.
يا أيها الأخ الكريم، إن لم تكن الأمور واضحةً في ذهنك وضوح الشمس، وإنْ لم تكن حياتك مفعمةً بما تعتقد، وبما تنطلق، فالطريق إلى الله لا يزال طويلاً، لكنّ الحقيقة أن الصحابة الكرام على اختلاف مشاربهم، وانتماءاتهم، وعلى اختلاف أصولهم، وقبائلهم، صبَغَهُم الإسلام جميعاً بصبغةٍ واحدة.
الإيمان رفع شأنهم، ويجب أن تعلموا أن الله هو هو، إلههم إلهنا، ربهم ربنا، إذًا: فينا تقصير، وهذا بسببنا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي، اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي لَا تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضًا بَعْدِي، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهـُمْ،وَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي، وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللَّهَ، وَمَنْ آذَى اللَّهَ يُوشِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ
فأنا أرى أن قدوتنا أصحاب رسول الله، في ورعهم، في عباداتهم، في إقبالهم، في بذلهم، في تضحياتهم.