سيدنا حكيم بن حَزَام في الجاهلية:
أيها الأخوة، مع سير أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضوان الله تعالى عليهم أجمعين، وصحابي اليوم سيدنا حكيم بن حَزَام، هذا الصحابي يبدو أنه الإنسان الوحيد الذي ولد في جوف الكعبة، كانت الكعبة مفتوحة في إحدى المناسبات للزوار، وكانت أمه حاملةً به، فما إن دخلت جوف الكعبة حتى جاءها المخاض، فجيء لها بنطع رداء، وولدت في جوف الكعبة هذا الصحابيَّ الجليل.
هذا الصحابي الجليل قريب أم المؤمنين السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله تعالى عنها وأرضاها، والنبي عليه الصلاة والسلام زوج عمته، فهو من أقرباء النبي، وكان حكيم بن حزام عاقلاً سرياً، معنى السري يعني شريفاً من عليه القوم، كان عاقلاً سرياً فاضلاً.
بالمناسبة، ما من نعمة ينعم الله على عبد من عباده كنعمة العقل، فمن أوتي عقلاً وفكراً وحكمةً، فقد أوتي خيراً كثيراً، وسوف ترون بعد قليل أن الإسلام مبني على العقل، فمن كان عاقلاً وأريباً وحكيماً، ولم يبادر إلى الإسلام، فأمْرُه عجيب.
حكيم بن حزام كان عاقلاً سرياً فاضلاً، لذلك سوَّده قومه، وأناطوا به منصباً مهماً، هو منصب الرفادة، فقد كان مُوكَلاً إليه أن يعطي الحجاج المنقطعين ما يحتاجون كي يصلوا إلى بلادهم سالمين، هذا المنصب منصب ديني، وكان حكيم بن حزام موكلاً له هذا المنصب في الجاهلية، كان يُخرِج من ماله الخاص ما يرفد به المنقطعين من حجَّاج بيت الله الحرام.
وهو من أعرق أسرة، ومن أشرف نسب، ويتمتع بقدرات ذاتية عالية المستوى نادرة.
بالمناسبة، تعرفون المخروط، شكل هندسي، كلما ازداد ارتفاع المخروط ازدادت رؤيته من هذا الارتفاع، وكلما ازداد حظك في الدنيا ازدادت مسؤوليتك، فالذي يؤتى عقلاً راجحاً في الدنيا هذا له حساب خاص، والذي يؤتى طلاقة لسان هذا له حساب خاص، والذي يؤتى شكلاً وسيماً فهذا له حساب خاص، والذي يؤتى مالاً وفيراً فهذا له شأنٌ، فكلما ازداد حظك من حظوظ الدنيا ازدادت مسؤوليتك، وازدادت تبعاتك.
كان حكيم بن حزام صديقاً حميماً للنبي عليه الصلاة والسلام قبل البعثة، فهو صديق وقريب، وكان أكبر من النبي صلى الله عليه وسلم بخمس سنوات، وقد تمتع الصحابة بأدب جمٍّ، كان أحدهم إذا سـأل:
أيهما أكبر أنت أم النبي؟ فكان يقول: هو أكبر مني، ولكني ولدتُ قبله
لشدة الأدب الذي كانوا يتمتعون به.
كان حكيم بن حزام أكبر من النبي صلى الله عليه وسلم بخمس سنوات، ولا تنسوا أن العمر الزمني هو أتفه أعمار الإنسان، فالإمام الشافعي مات في الخمسين، والإمام النووي مات في الثانية والأربعين، وهناك بعض العظماء ماتوا في الثلاثين، ومع ذلك كانت أعمارهم غنية بالأعمال الصالحة، فكلما ازداد عملك الصالح كان عمرك ثميناً، وكلما قَلَّ عملك الصالح كان حياتك تافهةً، وكنتَ إنسانًا هامشيًّا، قال تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ) (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آَمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)
حينما دخل على سيدنا عمر بن عبد العزيز وفد الحجازيين، تَقَدَّمه غلام، فقال له:
اجلس أيها الغلام، وليقمْ مَن هو أكبر منك سناً، فتبسم هذا الغلام، وكان رئيس الوفد، وقال: أصلح الله الأمير، المرء بأصغريه، قلبه ولسانه، فإذا وهب اللهُ العبدَ لساناً ذاكراً، وقلباً حافظاً فقد استحق الكلام، ولو أن الأمر كما تقول لكان في الأمة مَن هو أحقُّ منك بهذا المجلس، -كلام بليغ- العالم شيخ، ولو كان حدثاً، والجاهل حدث، ولو كان شيخاً.
كان يألف النبي عليه الصلاة والسلام، ويأنس به، ويرتاح إلى صحبته ومجالسته، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يبادله وداً بود، وصداقة بصداقة، وكذلك المؤمن دمث الخلق، وقد كان النبي قبل البعثة شخصية جذابة، محبَّبة، ليس في الإسلام غطرسة وغلظة، رقيق الحاشية، لطيف المعشر، ليِّن العريكة، يألف ويؤلف، وهكذا المؤمن، ثم جاءت آصرة القربى، فتوثقَّت ما بينهما من علاقة، وذلك حين تزوج النبي عليه الصلاة والسلام من عمته خديجة بنت خويلد رضي الله عنها.
إسلامه:
أما الشيء الذي يدعو للعجب، والشيء الذي لا يُصدق، أنّ هذا الإنسان العاقل الفهِم، الفطن، الذكي، صاحب النسب العريق، صديق النبي الحميم وقريبه، حينما جاء الإسلام، وحينما بُعث نبي الإسلام لم يؤمن به، ولم يصدقه، وبقي على الشرك عشرين عاماً إلى أن فُتحت مكة، فهذا الشيء عجيب حقًّا.
فأنا أيها الأخوة، حين أجد إنسانًا تفكيره محدود، وجاهل، وضائع، ومنحرف، وواقع في المعاصي، فهذا شيء طبيعي جداً، لأنّ ضعف التفكير يقود إلى كل هذه الحماقات، ضعف التفكير، التخلف العقلي، ضيق الإمكانيات، ضيق الأفق، يقود لكل حماقة، أما والله الذي لا إله إلا هو يشتد عجبي من إنسان ذكي فهيم، يفهم سريعاً، يستوعب كثيراً، ويكون منحرفاً، أتساءل: يا رب كيف يجتمع هذا العقل الراجح مع هذا السلوك المنحرف؟.
إنسان يتمتع بإمكانات عقلية كبيرة، لا يستقيم على أمر الله، ولا يطلب الجنة، بل يجعل الدنيا أكبر همِّه، ومبلغ علمه، ويبقى في حمأتها، وفي وحلها، وهو ذو العقل الحصيف، هذه مفارقة مزعجة.
كان المظنونُ برجلٍ مثل حكيم بن حزام حباه الله بذاك العقل الراجح، ويسر له تلك القربى من رسول الله عليه صلوات الله، أن يكون أول من يؤمن به، وأول من يصدقه، وأول من يهتدي بهديه.
الإنسان مخير، على الرغم من رجاحة عقله وفطانته، آثر قومه وآثر أن يبقى مع زعماء قريش ومع علية القوم ذوي الضلالة.
لكن الشيء الذي يدعو للعجب أيضاً أن هذا الصحابي الجليل أسلم يوم فتح مكة، فما كاد يدخل الإسلام ويتذوق حلاوة الإيمان حتى جعل يعض بنانه ندماً، ذاق حلاوة الإيمان، وذاق أمن الإيمان، وذاق حلاوة القرب من الله، وذاق لذة التوبة إليه، وذاق لذة الإنابة إليه، وذاق حلاوة الصلح معه، وذاق حلاوة الانضباط، وذاق حلاوة الطاعة، كل ذلك شعر به لما ذاق حلاوة الإيمان، والنبي ذكَر أنّ الإيمان له ذوق وطعم،
قَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ، أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ
هذا الصحابي بعد أن أسلم بعد عشرين عامًا، بعد فتح مكة، وبعدما خاض مع المشركين معركة بدر، ومعركة أحد، ومعركة الخندق، بعد حين طويل، وبعد حقب طويلة أسلم.
الإنسانُ أحياناً يتعرف إلى الحقيقة، ولكن في سن متأخرة، أين الشباب؟ لقد أمضاه في اللهو، وأين ذهبت طاقةُ شبابه؟ وأين حيوية الشاب وإقباله والطاقات التي أودعها الله فيه؟ هذه كلها أنفقها في المعاصي.
هذا الصحابي جعل يعضّ أصابع الندم على كل لحظة قضاها من عمره، وهو مشرك بالله، مكذب لنبيه.
سيدنا الحكيم يحاور ابنه:
أيها الأخوة،
مرة رآه ابنه يبكي،
فقال: يا أبتاه، ما يبكيك؟
قال: أمور كثيرة، كلها أبكتني يا بني، أولها بُطْءُ إسلامي، ممّا جعلني أُسْبَقُ إلى مواطن كثيرة صالحة، حتى لو أني أنفقت ملء الأرض ذهباً لما بلغت شيئاً منها،
متى؟ بعد فوات الأوان، لو أن الشباب بالتعبير العام يغبون غبة كبيرة، يعني أقبلوا على الله، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم، وطلبوا العلم، وتعرَّفوا إلى الله، وقرؤوا القرآن، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وأنفقوا من أموالهم، فالله يرقيهم درجة درجة.
الوقت ثمين، فإذا لم يكن الإنسان متزوجًا فعليه أن يستغل العزوبة في طلب العلم، لأن الزواج مشغلة، فإذا كان للإنسان وقت فراغ فلْيستِغلْه في حفظ القرآن الكريم، وفي طلب العلم، وفي العمل الصالح، وفي خدمة الحق وأهله، وفي الالتزام بالمنهج الديني.
ثم قال له: شيء آخر أبكاني، فإن الله أنجاني يوم بدر وأحد، فقلت يومئذ في نفسي: واللهِ لا أنصر بعد ذلك قريشاً على النبي صلى الله عليه وسلم،
ماذا تستنبطون من هذا الكلام؟ أنه حينما كان يحارب النبيَّ يعرف أنه رسول، ويعرف أنه نبي، ويعرف أنه على حق، ويعرف أنه منصور، هذه مشكلة كبيرة عويصة، تعادي إنسانًا، وتعلم أنه على حق، وتنتقص من قيمة إنسان، وتعلم أنه على حق، تشوش على إنسان، وتعلم أنه على حق، وتطعن في إنسان، وتعلم أنه على حق، وتحارب إنسان، وتعلم أنه على حق، فالمعنى أنها مصالح ذاتية، ومآرب خاصة، وتجمعات مصلحية، حينما تعرف أن فلانًا على حق وتحاربه، فهذه مصلحة، لم تعُد دعوة إلى الله، بل أصبحت مصلحة مادية، وحفاظًا على مناصب، وحفاظًا على زعامة، وعلى المكاسب، وهذا شيء خطير.
أقول لكم هذه الحقيقة: لو عاديت أهل الحق أشد عداوة، وأنت تعلم أنهم على باطل، أهون ألف مرة أنْ تعاديهم بكلمة، وتعلم أنت علم اليقين أنهم على حق، إذا كان الإنسان لا يعرف فهو معذور، أما الذي يعرف فلا يُعذر.
أيها الأخوة الكرام، نصيحة أزجيها لكم من أعماق قلبي، إياكم أن تقفوا في خندق تعادون به أهل الحق، إياكم أن تحاربوا الله ورسوله، لأنكم في النهاية مهزومون، فحين تحارب الله عز وجل، فأنت تحارب دعوة الحق، وهذه محاربة لله عز وجل، تعرف هذا المسجد فيه إخلاص، وفيه دعوة الحق، فلا تحاربه، ولا تدخل في معركة لا قِبَلَ لك بها، وإنّ لحوم العلماء مسمومة، قال تعالى: ( أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ، وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ
قال: فما لبثت أن جُرِرتُ إلى نصرة قريش جراً، سحَبُوه للمرة الثالثة، فسحبوه إلى معركة الخندق،
والله شيء صعب، والإنسان يتمزق أحياناً أنت تحارب شخصًا على حق، تعرفه نبياً ثم تحاربه؟ إذن حُقَّ له أنْ يبكي، وأنْ تفيض عيناه.
قال: ثم إنني كلما هممت بالإسلام، وآتي النبي مسلماً، نظرت إلى بقايا من رجالات قريش، لهم أسنان وأقدار، متمسكين بما هم عليه من أمر الجاهلية، فأقتدي بهم وأجاريهم.
اليوم ترى شابًا أبوه وعده ببيت، ووعده بسيارة، وأبوه لا دين له، تراه يؤاثر جانب والده، يقول: ليس لي مصلحة في إغضابه، دخل حرام، وتجارة لا ورعَ فيها، ومع ذلك يسير في ركبِ والده، لقد آثر دنياه على آخرته.
في بلدي رجل من الغنى بمكان، لو طلبتْ منه ابنتُه خمسة ملايين بكلمة يعطيها هذه الملايين، ولا تأكل من طعامه لقمة واحدة، عنده ملهى، وماله كله حرام، تعمل معلمة في إحدى القرى، وتأكل من عملها، ولا تأكل من مال أبيها، قال تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ)
قال: ويا ليتني لم أفعل، فما أهلكنا إلا الاقتداء بآبائنا وكبرائنا، فلِمَ لا أبكي يا بنيَّ
أيها الأخوة، لا تكن خطيئة لأحد، لا تكن ضحية لأحد، لا تكن أداة لأحد، لا تكن أداة رخيصة لأحد، لا تكن منديلاً يُمسح بك أقذر عملية ثم تلقى، انتبه، لا تكن أداة للآخرين، هناك أشخاص، أشبههم بالمنديل الورقي، تُمسح به أقذر عملية، ثم يُلقى بسلة المهملات، قال تعالى: ( وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى)
وقال عز وجل: ( فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ )
وقال: ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً )
وقال: ( وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)
وقال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآَخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ)
أمره يدعو للعجب:
أيها الأخوة، كما عجبنا نحن من تأخُّر إسلام حكيم بن حزام، وكما كان يعجب هو نفسه من ذلك أيضاً، فإن النبي صلوات الله وسلامه عليه، كان يعجب من رجل له مثل حلم حكيم بن حزام وفهمه، كيف يخفى عليه الإسلام؟ وكان يتمنى له وللنفر الذين هم على شاكلته أن يبادروا في الدخول في دين الله.
النبي عليه الصلاة والسلام لما أسلم سيدنا خالد، قال له: عجبت لك يا خالد! أرى لك فكراً، وكنت أرجو ألاّ يهديك إلا إلى خير
يعني لماذا تأخرت؟.
مرة ثانية، إذا آتى الله عبدًا عقلاً، وفكرًا، فيجب ألاّ يغلط، ويجب أن يعرف الحق في الوقت المناسب، والنبي عليه الصلاة والسلام في الليلة التي سبقت فتح مكة قال لأصحابه:
إن بمكة لأربعة نفر أربأ بهم عن الشرك، وأرغب لهم في الإسلام.
قيل: مَن هم يا رسول الله؟
قال: عتاب بن أسيد، وجبير بن مطعم، وحكيم بن حزام، وسهيل بن عمرو
أربعة مشركين، لكن النبي عليه الصلاة والسلام يتوسم فيهم الخير.
هناك نقطة دقيقة، إذا كان الإنسان يعصي الله، ولكنه يعصيه وهو متألم، مغلوب على أمره، فهذا عنده حياء وخجل مرضي، ضغطوا عليه لكنه متمزق من داخله، فهذا الذي يعصي الله وهو متألم أشد الألم نرجو له خاتمة طيبة، وهذا معنى قول النبي عليه الصلاة والسلام:
إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ فِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ إِلَيْهِ الْمَلَكَ، فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعٍ يَكْتُبُ رِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَعَمَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، فَوَ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، ثُمَّ يَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، ثُمَّ يَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا
بالمناسبة، رأيت رجلاً لا يصلي، وفي الظاهر لا دين فيه، لكن أخلاقه عالية، عنده حياء، وعنده مروءة، وقلبه رقيق، يحب الخير، وفكره ناضج، فإيّاك أن تيأس منه، هذا إنسان فيه خير، احرص عليه، اتصل به، قَدِّمْ له كل خدمة، لأنه قريب جداً،
قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ؟
قَالَ: أَكْرَمُهُمْ أَتْقَاهُمْ،
قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ،
قَالَ: فَأَكْرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ
قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ،
قَالَ: فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونِي،
قَالُوا: نَعَمْ،
قَالَ: فَخِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقُهُوا
ومن فضل الله عز وجل أنهم أسلموا جميعاً، وأن النبي كان صائباً في نظرته، وأنه كان صادقاً في فراسته، وأنه أوتي نظرة عميقة.
دعوته للإسلام يوم فتح مكة:
أيها الأخوة، وحين دخل النبي عليه الصلاة والسلام مكة فاتحاً، انظروا إلى حكمة النبي، إنسان له مكانته ومن علية القوم، عاقل تأخر بالإسلام، فكيف استجلبه؟ أمر النبي عليه الصلاة والسلام مناديه أن ينادي:
من شهد أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله فهو آمن، ومن جلس عند الكعبة فوضع سلاحه فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن، جعل له شأنًا صلى الله عليه وسلم، فأعانه على نفسه، وعلى كبريائه.
قسم سيدنا حكيم:
أسلم حكيم بن حزام إسلاماً ملك عليه لبه، وآمن إيماناً خالط دمه ومازج قلبه، وآلى على نفسه أن يكفِّر عن كل موقف.
هنا اقتدوا بالعقلاء، فالذي قضى صُيوفًا في المعاصي، وفي هذه الصيفية تاب إلى الله، يخاطب ربه: يا رب، أنا كما أمضيتُ تلك العطل فيما لا يرضيك، واللهِ لأمضينَّ غيرَها فيما يرضيك، وما أنفقتُ كثيرَ الأموال على المعاصي والآثام، والله لأنفقنَّ مثلها على الطاعات، وكما صحبتُ أهل الدنيا من أجل دنياهم، والله لأصحبنّ أهل الإيمان من أجل ديني، فالذي تاب إلى الله عز وجل، وانتقل من طور إلى طور، والذي اصطلح مع الله، يناجي ربه هذه المناجاة.
آلى على نفسه أن يكفر عن كل موقف وقفه في الجاهلية، أو نفقة أنفقها في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد برَّ بقسمه، فأول شيء فعَله دار الندوة، أكبر بناء في مكة، وهو مشهور في التاريخ، هي داره الشخصية، وهي دار عريقة ذات تاريخ، ففيها كانت قريش تعقد مؤتمراتها في الجاهلية، وفيها اجتمع ساداتهم وكبراؤهم يأتمرون برسول الله صلى عليه الصلاة والسلام، فأراد حكيم بن حزام أن يتخلص منها، وكأنه أراد أن يرخيَ ستاراً من النسيان على ذلك الماضي البغيض، فباعها بمئة ألف درهم، فقال له قائل من فتيان قريش:
لقد بعتَ مَكْرُمَةَ قريش يا عمّ،
فقال له حكيم: هيهات يا بني، ذهبت المكارم كلها، ولم يبق إلا التقوى، دار اجتمعنا فيها، وقررنا فيها قتْلَ رسول الله، أيُّ مَكْرُمَةٍ هذه؟.
قال: وإني لأشهدكم أنني جعلت ثمنها في سبيل الله عز وجل.
أيؤمن رجلٌ ويسلم ويتوب ولا يغيِّر حالَه؟ يجب أن نغيِّر كل رفاق السوء، إذا كان له رفاق سوء، يجب أن يتخلص منهم جميعاً، هذه اللقاءات الباطلة، هذه الأماكن، هذه الطرقات المزدحمة بالنساء، صار بريئًا منها كلها.
إذا لم يحدُثْ تبدلٌّ جذريٌّ، ولم يكن بالمعنى الحديث ثورة في حياتك على كل معصية، وعلى كل مكان سيء، وعلى كل صديق سيء، وعلى كل مخالفة، فليستْ هذه توبةٌ، ولا عودة إلى الله تعالى.
حجَّ حكيم بن حزام بعد إسلامه، فساق أمامه مئة ناقة مجلّلة بالأثواب الزاهية، ثم نحرها جميعاً في سبيل الله، وأطعم لحمها للفقراء.
وفي حجة أخرى، وقف في عرفات ومعه مئة من عبيده، فقدْ كان غنيًّا، وقد جعل في عنق كل واحد منهم طوقاً من الفضة، نُقِشَ عليه عتقاء لله عز وجل عن حكيم بن حزام.
وفي حجة ثالثة، ساق أمامه ألف شاة، وأراق دمها كلها في منى، وأطعم بلحومها فقراء المسلمين تقرباً إلى الله عز وجل، وهذا ليكن الإسلام، ولتكن التوبة إلى الله عز وجل.
نصيحة النبي لحكيم:
بعد غزوة حنين سأل حكيم بن حزام رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغنائم فأعطاه، ثم سأله فأعطاه، حتى بلغ ما أخذه مئة بعير، وكان يومئذ حديث عهد بالإسلام،
فقال له النبي عليه الصلاة والسلام:
يا حكيم، إن هذه الأموال حلوة خضرة، فمن أخذها بسخاوة نفس
يعني بعفة نفس
بورك له فيها، ومن أخذها بإشراف نفس
بطمع
لم يبارك له فيها، وكان كالذي يأكل ولا يشبع
عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ
فلما سمع حكيم بن حزام ذلك من النبي عليه الصلاة والسلام، قال: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا أسأل أحداً بعدك شيئاً.
النبي أعطاه ونصحه، ولكن كانت النصيحة مؤثِّرة جداً، وعلامة إيمانه الصادق أنه استجاب، وبر حكيم بقسمه أصدق البر، ففي عهد أبي بكر رضي الله عنه، دعاه الصديق أكثر من مرة لأخذ عطاء من بيت مال المسلمين فأبى أن يأخذه، ولما آلت الخلافة إلى الفاروق دعاه مرة ثانية إلى أخذ عطاء فأبى أن يأخذه، فقام عمر في الناس وقال:
أشهدكم يا معشر المسلمين، أني أدعو حكيماً إلى أخذ عطائه فيأبى
وظل حكيم كذلك لم يأخذ من أحد شيئاً حتى فارق الحياة.
المغزى التي يمكن أن نستنبطها من قصة حكيم بن حزام:
هذه قصة حكيم بن حزام فيها نقاط مضيئة، أبرزها أنه إذا آتاك الله عقلاً راجحاً، وفكراً ثاقباً، وإمكانات عالية، ينبغي أن تسرع بك إلى الله، ولا ينبغي أن تبطئ بك، لأن الحسرة عندئذ تكون كبيرة، ولأن الإسلام أساسه العقل، وأساسه الواقع، وأساسه الفطرة، فأي إبطاء في إسلامك، مع رجاحة عقلك فهذا يدعو للعجب العجاب، يعني الذي أنت فيه يتناقض مع العقل الراجح الذي أعطاك الله إياه، أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً.