بحث

سعيد بن المسيب

سعيد بن المسيب

بسم الله الرحمن الرحيم

      أيها الإخوة المؤمنون... مع سير التابعين، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، والتابعي اليوم هو سعيد بن المسيِّب.  

العلمُ يُؤتَى ولا يأتي:  

      عَقَدَ أميرُ المؤمنين عبد الملك بن مروان العزمَ على حجِّ بيت الله الحرام، وزيارة ثاني الحرمين الشريفين، والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أقبل ذو القعدة زمَّ الخليفةُ العظيم ركائبه، وتوجّه إلى أرض الحجاز يصحبه السادة الأماجد من أمراء بني أمية ـ هذا شأن الخلفاء إذا توجهوا إلى الحج   

      وصحبه أيضاً نفرٌ من كبار رجال الدولة وبعض أولاده،   

      ومضى الركبُ في طريقه من دمشق إلى المدينة المنورة، من غير توقفٍ ولا عجل، فكانوا كلما نزلوا منزلاً نُصِبَتْ لهم الخيام، وفُرِشَتْ لهم الفُرُش، وعُقِدَتْ لهم مجالس العلم والتذكرة، ليزدادوا تفقهاً في الدين، ويتعهدوا قلوبهم ونفوسهم بالحكمة والموعظة الحسنة.  

      فإذا أزمع الإنسانُ الحج لا بد له من تطهير النية، ولا بد من التوبة،   

      وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:  إذا حج الرجل بمال من غير حله فقال:  لبَّيك اللهم لبّيك، قال الله:  لا لبّيك ولا سعديك، هذا مردود عليك       

      ذكرت اليوم العبادات الأربع، الصلاة، والصوم، والحج، والزكاة، هذه العبادات الشعائرية، لا معنى لها إطلاقاً، ولا جدوى منها، ولا فائدة منها إنْ لم تقُم على أساس العبادات التعاملية، والدليل:  

      أمّا الصلاة فقد قال تعالى: ( إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ)  

      سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله: إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر، فقال:  من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له   

      هل للصلاة قيمة من دون استقامة؟  

      أمّا دليلُ الصيام فقال عزوجل: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)  

      النبي عليه الصلاة والسلام يقول: مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ  

      هل له قيمة الصيام؟   

      والحج... قال سبحانه:  ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)  

      وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:  إذا حج الرجل بمال من غير حله فقال:  لبَّيك اللهم لبّيك، قال الله:  لا لبّيك ولا سعديك، هذا مردود عليك  

      والزكاة... ( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)  

      آية ثانية.. من يذكر آية تؤكد أن الإنفاق لا قيمة له؟ ( قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ)  

      فلا الصلاة، ولا الحج، ولا الزكاة تنفع وتجدي وتثمر، إن لم تُبْنَ هذه العبادات على العبادات التعاملي، سيدنا جعفر حينما سُئل عن الإسلام، قال:   

       لَمَّا نَزَلْنَا أَرْضَ الْحَبَشَةِ جَاوَرْنَا بِهَا خَيْرَ جَارٍ النَّجَاشِيَّ....... فَكَانَ الَّذِي كَلَّمَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ لَهُ أَيُّهَا الْمَلِكُ كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ وَنُسِيءُ الْجِوَارَ يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَه       فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ وَالْكَفِّ عَنْ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ وَنَهَانَا عَنْ الْفَوَاحِشِ وَقَوْلِ الزُّورِ وَأَكْلِ مَالَ الْيَتِيمِ وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَأَمَرَنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ قَالَ فَعَدَّدَ عَلَيْهِ أُمُورَ الْإِسْلَامِ فَصَدَّقْنَاهُ وَآمَنَّا بِهِ وَاتَّبَعْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ فَعَبَدْنَا اللَّهَ وَحْدَهُ فَلَمْ نُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا وَحَرَّمْنـَا مَا حَرَّمَ عَلَيْنـَا وَأَحْلَلْنَا مَا أَحَلَّ لَنَا فَعَدَا عَلَيْنَا قَوْمُنَا فَعَذَّبُونَا وَفَتَنُونَا عَنْ دِينِنَا لِيَرُدُّونَا إِلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَأَنْ نَسْتَحِلَّ مَا كُنَّا نَسْتَحِلُّ مِنْ الْخَبَائِثِ...  

      بماذا عرَّف سيدنا جعفر الإسلام؟ بالأخلاق، السلوك، آيات كالشمس، هذه أربع عبادات، صوم، صلاة، حج، زكاة، من دون استقامة لا معنى لها، لذلك تعجب أن في العالم الآن مليارًا ومائتي مليون مسلم، وليست كلمتهم هي العليا، لا أقول: هي سفلى، ولكن ليست هي العليا، ولا يشكِّلون وزناً في العالم، لأن الإسلام ليس صلاةً، وصياماً، وحجاً، وزكاةً، وعندنا دليل أقوى: بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَصَوْمِ رَمَضَانَ  

      هل هذه الخمس هي الإسلام؟   

       بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ...  

      بناء ثلاثين طابق مبني على خمس دعائم، فهل الدعائم هي البناء؟ لا، فهذا البناء بني على هذه الدعائم   

      هذه حقائق أساسية، فيا إخواننا الكرام، وفّروا أوقاتكم، الدين كله أخلاق، الدين كله صدق، الدين كله أمانة، الدين كله وفاء، وإخلاص، وبذل، وعطاء، وتضحية.   

      هذا الذي ذكرته ذكَّرني به القول: وتعهدوا قلوبهم ونفوسهم قبل أن يحجوا، فالحج ليس له معنى من دون استقامة، والصلاة ليس لها معنى من دون استقامة.  

      ولما بلغ الخليفةُ المدينة المنورة أمَّ حرمها الشريف، وتشرَّف بالسلام على ساكنها محمدٍ عليه الصلاة والسلام، وسعِد بالصلاة في الروضة المطهرة الغرَّاء، فذاق من برد الراحة، وسلام النفس ما لم يذق مثلهما من قبل، وعزَم أنْ يطيل إقامته في مدينة النبي صلى الله عليه وسلم ما وجد إلى ذلك سبيلاً، وكان من أشد ما استأثر باهتمامه في المدينة المنوَّرة حلقاتُ العلم.  

      وتألَّق في هذه المجالس العلماء الأفذاذ من كبار التابعين، كما تتألق النجوم الزُهر في كبد السماء، فهذه حلقة عروة بن الزبير، وتلك حلقة سعيد بن المسيِّب، وهناك حلقة عبد الله بن عُتبة.  

      فذات يوم صحا الخليفة من قيلولته، في وقتٍ كان لا يصحو فيه عادةً، فنادى حاجبه،   

       وقال: يا ميسرة،   

      فقال: لبيك يا أمير المؤمنين،   

       قال: امضِ إلى مسجد رسول الله، وادعُ لنا أحد العلماء ليحدَّثنا، أَحضِرْ لنا عالمًا من العلماء،   

      فمضى ميسرة إلى المسجد النبوي الشريف، وأجال النظر فيه، فلم يرَ غير حلقةٍ واحدة، توسَّطها شيخٌ نيَّف على الستين من عمره، في بساطة العلماء، وعليه هيبتهم ووقارهم، فوقف غير بعيدٍ من الحلقة، وأشار للشيخ بإصبعه، فلم يلتفت الشيخ إليه، ولم يأبَهْ له، فاقترب منه،   

      وقال: ألم ترَ أني أشير إليك؟   

       قال: إليّ أنا؟   

      قال: نعم.   

       قال: وما حاجتك؟   

      قال: استيقظ أمير المؤمنين، وقال: امضِ إلى المسجد، وانظر هل ترى أحدًا من حُدَّاثي فأتني به.   

       فقال له الشيخ: ما أنا من حدّاثه.   

      فقال له ميسرة: ولكنه يبغي محدثاً يحدّثه.  

       فقال الشيخ: إنَّ من يبغي شيئاً يأتي إليه.   

      هذا يذكرني بهارون الرشيد حينما قدم المدينة، والقصة نفسها،   

      قال: ائتوني بأحد علماء المدينة ليعظني، فجاءوا الإمام مالك، فلما دُعِيَ إليه   

      قال لهم: قولوا لهارون:  العلمُ يُؤتَى ولا يأتي   

      هذه قاعدة.  

       قال له: إن من يبغي شيئاً يأتي إليه، وإن في حلقة المسجد متسعاً له إذا كان راغباً في ذلك،   

      لك رغبة أهلاً وسهلاً، لكن هذه العزة لا تكون إلا بالاستقامة، ومن دون استقامة تقع في خوف، لا يمكن لإنسان يشرك إلا ويقذف الله في قلبه الخوف، ذكرت اليوم قانون التيسير، وقد تعرفونه.. قال تعالى: ( فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى)  

      أمّا التعسير: ( وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى)  

      وقانون العزة: ( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ)   

      أحسن وارفع رأسك، إن أسأت فعليك أن تحمي رأسك، إن أسأت يستطيع أي إنسانٍ أن ينالك بسوء.  

      هناك قانون ثالث، قانون الخوف، في اللحظة التي تشرك فيها يقذف الله في قلبك الخوف، والدليل: ( سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ)  

      هذه الباء للسببية..  

      لِمَ لَمْ يخف هذا الشيخ، أغلبُ الظن أنه موحِّد، وأغلب الظن أنه مستقيم، فلا داعي أن يخاف، ولا أن ينافق.  

       قال: إن في حلقة المسجد متسعاً له إذا كان راغباً في ذلك، والحديث يؤتى إليه، ولكنه لا يأتي.  

      الحديث لشريف يؤتى إليه، ولكنه لا يأتي، والإنسان يتواضع إلى أقصى درجة،   

       قال له: الحديث يؤتى ولا يأتي.  

      فعاد الحاجب أدراجه، وقال للخليفة: ما وجدت أحداً في المسجد غير شيخٍ أشرتُ إليه فلمْ يقمْ،   

      فدائماً أتباعُ السلطان لهم شعور بالفوقية،   

      قال له: أشرت إليه فلم يقم، فدنوت منه، وقلت: إن أمير المؤمنين استيقظ في هذا الوقت، وقال لي: انظر هل ترى أحداً من حداثي في المسجد فادعه لي، فقال لي في هدوء وحزم: إنني لست من حدّاثه، وإن في حلقة المسجد متسعاً إذا كان راغباً في الحديث.  

      فتنهد عبد الملك بن مروان، وهبَّ قائماً، واتجه إلى داخل المنزل،   

       وهو يقول: ذلك سعيد بن المسيب   

      عرفه من كرامته، وعرفه من مواقفه   

       ليتك لم تأته، ولم تكلمه   

       أنا ما أردت هذا، هذا لا يأتي  

      فلما ابتعد عن المجلس، وصار في الداخل، التفت أصغرُ أولاد عبد الملك إلى أخٍ له أكبر منه،   

      وقال: مَن هذا الذي يمتنع على أمير المؤمنين، ويستكبر عن المثول بين يديه وحضور مجلسه، وقد دانت له الدنيا، وخضعت لهيبته ملوك الروم؟! من هذا؟!   

      فقال الأخ الأكبر: ذاك الذي خطب أمير المؤمنين ابنته لأخيك الوليد، فأبى أن يزوجها منه.  

      فقال الأخ الأصغر: أبى أن يزوجها من الوليد بن عبد الملك؟‍! وهل كان يروم لها بعلاً أسمى من ولي عهد أمير المؤمنين؟!   

لماذا أبى هذا التابعي الجليل سعيد بن المسيب أن يزوج ابنته لابن أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك:  

      هذه هي القصة، والعجب كيف أن هذا التابعي الجليل خطبت ابنته لولي عهد المسلمين، لابن أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك، الذي بنى الجامع الأموي، وهذا التابعي الجليل أبى أن يزوجه إيَّاها، وهناك قصةٌ مثيرةٌ تكاد لا تصدق سوف أتلوها عليكم.  

      هل كان يروم لها بعلاً ـ أي زوجاً ـ أسمى من ولي عهد أمير المؤمنين وخليفة المسلمين من بعده؟! فسكت الأخ الأكبر، ولم يجبه بشيء.  

      فقال الأخ الأصغر: إذا كان قد ضَنَّ بابنته على ولي عهد أمير المؤمنين، فهل وجد لها الكفء الذي يليق بها؟ أم أنه حال دونها ودون الزواج كما يفعل بعض الناس، وتركها قعيدة البيت؟   

      فقال له أخوه الأكبر: الحقُّ أنني لا أعرف شيئاً من خبرها، وخبره فالتفتَ إليهما أحد الجلاّس من أبناء المدينة،   

      وقال: إذا أذِنَ الأميرُ لي قصصتُ عليه خبره كله:  

      فقد تزوجتْ فتىً من فتيان حيِّنا، يقال له أبو وداعة، وهو جارنا بيت بيت - أي ملاصق - ولزواجه منها قصةٌ طريفة رواها لي بنفسه.  

      فقال الأَخوان: هاتها.   

      قال الرجل: حدثني أبو وداعة قال:...  

      هذه القصة محور هذه السيرة، طبعاً لهذه القصة معانٍ واستنباطات كثيرة،، وكل واحد عنده بنت فعليه أن يقتدي بهذا التابعي الجليل.  

      قال: كنت كما تعلم   

      الآن الكلام لأبي وداعة الذي تزوج الفتاة التي خطبها عبد الملك لابنه الوليد، فأبى هذا التابعي الجليل، العالم النحرير كما يقولون أنْ يزوِّجها لابن أمير المؤمنين   

      قال: كنت كما تعلم ألازم مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم طلباً للعلم، وكنتُ أداوم على حلقة سعيد بن المسيب، وأزاحم الناس عليها بالمناكب، فتغيَّبتُ عن حلقة الشيخ أياماً، فتفقدني، وظنَّ أن بي مرضاً أو عرض لي عارض...  

       قال: تفقدني وظنَّ أن بي مرضاً   

      فسأل عني من حوله فلم يجد عند أحدٍ منهم خبراً، فلما عدتُ إليه بعد أيامٍ حيَّاني،   

       وقال: أين كنت يا أبا وداعة؟  

       قلت: واللهِ يا سيدي توفيتْ زوجتي فاشتغلتُ بأمرها.  

       قال: هلا أخبرتنا يا أبا وداعة فنواسيَك، ونشهدَ جنازتها معك، ونعينَك على ما أنت فيه؟  

       قلت: جزاك الله خيراً، وهممتُ أن أقوم فاسْتَبْقَانِي،   

       وقال لي: اجلس، فجلستُ حتى انصرف جميع مَن في المجلس،   

       ثم قال لي: أما فكّرتَ في استحداث زوجةٍ لك يا أبا وداعة؟   

       قلت: يرحمك الله، ومَن يزوِّجني ابنتَه، وأنا شابٌ نشأ يتيماً، وعاش فقيراً، فأنا لا أملك غيرَ درهمين، أو ثلاثة دراهم.  

       فقال: أنا أزوِّجك ابنتي.  

       فانعقدَ لساني وقلت: أنتَ، أتزوِّجني ابنتك بعد أن عرفت من أمري ما عرفت؟   

       قال: نعم.   

      هذا هو الإيمان..  

       قال: نعم.. فنحن إذا جاءنا من نرضى دينه وخلقه زوَّجناه، وأنت عندي مرضيُّ الدين والخلق.  

      دين وأخلاق، وليس معك فليست مشكلة.. ( إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ )

      إنّ الله يغني،.  

       وأنت عندي مرضيُّ الدين والخلق، ثم التفتَ إلى مَن كان قريباً منا، وناداهم، فلما أقبلوا عليه، وصاروا عنده، حمد الله عز وجل، وأثنى عليه، وصلى على نبيه محمد صلوات الله عليه، وعَقَد لي على ابنته، وجعل مهرها درهمين اثنين.  

      قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُمْنُ الْمَرْأَةِ تَيْسِيرُ خِطْبَتِهَا وَتَيْسِيرُ صَدَاقِهَا   

      قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  إِنَّ أَعْظَمَ النِّكَاحِ بَرَكَةً أَيْسَرُهُ مُؤْنَةً  

      فقمت وأنا لا أدري ما أقول من الدهشة والفرح.  

      أيًعقَل هذا؟ هذا التابعي الجليل، يبدو أن له ابنة في أعلى مستوى، حتى خطبها أمير المؤمنين لولده الوليد.  

      ثم قصدت بيتي، وكنت يومئذٍ صائماً، فنسيتُ صومي، وجعلت أقول: ويحك يا أبا وداعة، ما لذي صنعته بنفسك؟ ممّن تستدين، ممّن تطلب المال؟   

      قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمْ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الْأَدَاءَ وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ الْعَفَافَ  

      أنا أشجعكم، لو لم يكن معك وسائل النجاح، ولا مال، فإنّ الله يعينك، وما دام الشاب يطلب بالزواج العفافَ والكفاف، فإنّ الله سبحانه وتعالى يعينه.  

      وظللت على حالي تلك حتى أذَّن المغرب، فأدَّيتُ المكتوبة، وجلستُ إلى فطوري، وكانت خبزاً وزيتاً، فما إن تناولتُ منه لقمةً أو لقمتين حتى سمعت الباب يُقرَع، فقلت: من الطارق؟   

       قال: سعيد.  

       قال: فوللهِ لقد مرّ بخاطري كلُّ إنسانٍ اسمه سعيد أعرفه إلا سعيدَ بن المسيب   

       لم يتوقَّعه، سعيد!! من سعيد؟ فلان، لا، فلان، استعرض كلَّ إنسان، لكن لم يخطر في باله إطلاقاً أن يكون الطارق سعيد بن المسيب ـ ذلك لأنه لم يرَه منذ أربعين سنةً إلا بين بيته والمسجد ـ من أربعين سنة من بيته إلى المسجد ـ   

       فتحتُ البابَ فإذا بي أمام سعيد بن المسيِّب، فظننتُ أنه قد بدا له من أمر زواجي من ابنته شيء ـ لعله ندم أو حدثتْ مشكلة ـ فقلت له: أبا محمد، هلاّ أرسلتَ إليّ فأتيتك!!  

       قال له: بل أنت أحق أن آتي إليك اليوم.  

       ـ قلت: تفضل عليّ.  

       ـ قال: كلا إنما جئت لأمر.  

       ـ قلت: وما هو يرحمك الله؟   

       ـ قال: إن ابنتي أصبحت زوجةً لك بشرع الله منذ الغداة، وأنا أعلم أنه ليس معك أحدٌ يؤنس وحشتَك، فكرهتُ أن تبيت أنت في مكانٍ، وزوجتك في مكان آخر، فجئتك بها.  

      سعيد فقد كره أن يبقى زوجُ ابنته ليلةً وحده من دون زوجته، ومَن؟ سعيد بن المسيب؟ ومَن خطبها؟ ابن أمير المؤمنين، لمَن زوجها؟ لأحد تلامذته الفقراء.  

       فقلت: ويحي جئتني بها ـ   

      لم يكن مستعدًا ـ   

       قال: نعم.  

      فنظرت فإذا هي قائمةٌ بطولها،   

       فالتفتَ إليها، وقال: ادخلي إلى بيت زوجكِ يا بنيَّتي، على اسم الله وبركته،   

       أمّا أنا فقد وقفتُ أمامها مشدوهاً، لا أدري ماذا أقول   

      غير معقول هذا الشيء!! ـ   

       ثم إني بادرتُ فسبقتها إلى القصعة التي فيها الخبز والزيت، فنحَّيتُها من ضوء السراج حتى لا تراها ـ خبزة وزيت، لا يوجد غيرها ثم صعدتُ إلى السطح وناديتُ الجيران فأقبلوا عليَّ   

      وقالوا: ما شأنك؟   

       فقلت: عقَدَ لي سعيدُ بن المسيب على ابنته اليوم في المسجد، وقد جاءني بها الآن على غفلة، فتعالوا آنسوها، حتى أدعوَ أمي فهي بعيدة عن هذه الدار،   

      فقالت: عجوزٌ منهن ويحَكَ أتدري ما تقول؟ أزوَّجك سعيد بن المسيب ابنته، وحملها لك إلى البيت بنفسه، وهو الذي ضنَّ بها على الوليد بن عبد الملك؟!   

       فقلت: نعم، وها هي ذي عندي في بيتي، فهلموا إليها وانظروا،   

      فتوجّه الجيران إلى البيت، وهم لا يكادون يصدقونني، ورحّبوا بها، وآنسوا وحشتها.  

      والحقيقة أنّ الإنسان إذا تحرّك وِفق ما تقتضيه عوائد الناس صار عاديًّا، لكن هذه بطولة.  

      وما هو إلا قليل حتى جاءت أمي، فلما رأتها التفتتْ إليّ، وقالت: وجهي من وجهك حرام، إن لم تتركها لي حتى أصلح شأنها   

      ليس هذا معقولاً، نعتني بها، ونُلبِسها ـ ثم أزُفُّها إليك كما تُزَفُّ كرائمُ النساء.  

       فقلت: أنتِ وما تريدين، فضمَّتْها إليها ثلاثة أيام، ثم زفَّتْها إليَّ، فإذا هي من أبهى نساء المدينة جمالاً، وأحفظ الناس لكتاب الله عز وجل، وأرواهم لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعرف النساء بحقوق الزوج.  

      قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ  

      حافظة كتاب الله، حافظة السنة النبوية، تعلم حقوق الزوج، وفوق كل هذا فهي جميلة.  

      فمكثتُ معها أياماً لا يزورني أبوها أو أحدٌ من أهلي، ثم إنّي أتيت حلقة الشيخ في المسجد فسلَّمتُ عليه، فردَّ علي السلام ولم يكلمني ـ أي لكي لا يحرجني ـ فلما انفضّ المسجد ولم يبقَ غيري   

       قال: ما حال زوجتك يا أبا وداعة؟ كيف زوجتك؟   

       قلت: هي على ما يحبُ الصَّديقُ ويكرهُ العدوُّ.  

       قال: الحمد لله.  

       فلما عدتُ إلى بيتي وجدته قد وجَّه إلينا مبلغاً وفيراً من المال، لنستعين به على حياتنا.  

      وهنا رجعنا إلى القصة، مَن يرويها؟ جارُ أبي وداعة يخاطب ابن عبد الملك.   

      فقال ابن عبد الملك: عجيبٌ أمرُ هذا الرجل!!  

      فقال له رجل من أهل المدينة: وما وجهُ العجب يا أيها الأمير؟ إن امرؤٌ جعلَ دنياه مطيةٌ لأخراه، واشترى لنفسه ولأهله الباقية بالفانية، فوالله إنه ما ضنَّ على ابن أمير المؤمنين.  

      هناك شاب عنده مكتبة صغيرة بأحد الأحياء الراقية في مدينتي، أمامه بنايات، كل بيت ثمنه أربعون مليون، وهذه الفتيات يدخلن إلى بيوت آبائهن ويخرجن، هو شاب مستقيم حافظ لكتاب الله، وقد تاقت نفسُه أن يتزوج من هذه الفتيات، فكلّف والدته أن تخطب له، فقالت له: أنت ليس معك شيء، وهنا الموضوع كبير جداً، والدخول إلى مثل هذه البيوت يحتاج إلى ملايين، قال لها: حاولي، فرفضت أشد الرفض، فلما ألحَّ عليها كذبت عليه، قالت له: ذهبت، ولم يوافقوا، لا عندك بيت، ولا شيء.  

      تألم الشاب، فأنا ما ذنبي، شاب مؤمن، مستقيم، ولأنه صادق  فبعد أسبوع أو أسبوعين، يطلّ على هذا الشاب أحد قاطني هذه الأبنية الفخمة، قال له: يا بني هل أنت متزوج؟ فقال له: لا، والله يا سيدي، قال له: عندي بنت تناسبك، ما قولك؟ قال له: أتمنَّى، قال له: ابعث والدتك. مثل العادة ظنَّ أن بها علة، بالعكس، ما فيها شيء، من أكمل النساء.  

      إذا صدق الإنسان مع الله عز وجل، واستقام، وانتظر من الله كل خير، الله لا يخيِّب ظنَّه.. من ترك التزويج مخافة العيلة فليس منا.  

       من ترك التزويج  

       لم يقل: الزواج، لأنه دخل الآباء، دخل بهذا الكلام آباء الفتيات، وأمهات الفتيات، وآباء الفتيان، وأمهات الفتيان، والفتيان والفتيات.  

      فوالله إنه ما ضنَّ على ابن أمير المؤمنين بابنته، ولا رآه غير كفءٍ لها، وإنما خاف عليها فتنة الدنيا،   

      ولقد سأله بعض أصحابه فقال: أتردّ خطبة أمير المؤمنين، وتزوِّج ابنتك من رجلٍ من عامة المسلمين؟   

      اسمعوا جواب سعيد بن المسيب، كلام دقيق جداً..  

       فقال: إنّ ابنتي أمانةٌ في عنقي، وقد تحرَّيتُ فيما صنعتُه لها صلاح أمرها.  

       قيل له: وكيف؟   

      معقول، الرجلُ معه درهمان فقط، وطعامه خبزة وزيت، وبيته كوخ، وخطبها ابن الخليفة هنا أحسن لها.  

       فقال: ما ظنكم بها إذا انتقلت إلى قصور بني أمية، وتقلَّبت بين رياشها وأثاثها، وقام الخدم والحشم والجواري بين يديها، وعن يمينها وعن شمالها، ثم وجدتْ نفسها بعد ذلك زوجة الخليفة   

      بعد ما يتولى الحكم –   

       أين يصبح دينها عندئذٍ؟  

      فقال رجل من أهل الشام: يبدو أن صاحبكم طرازٌ فريدٌ من الناس.  

      فقال الرجل المدني: واللهِ ما عدوت الحق أبداً، فهو صوَّامٌ نهاراً قوامٌ ليلاً، حجَّ نحواً من أربعين حجةً  وما فاتته التكبيرة الأولى في مسجد رسول الله منذ أربعين عاماً، ولا عرف أنه نظر إلى قفا رجل في الصلاة ـ   

لأنه في أول الصف دائماً،   

      وقد كان في وسعه أن يتزوج بمن يشاء من نساء قريش ـ فمَن تزوج سعيد بن المسيِّب؟ ـ فآثر بنت أبي هريرة على سائر النساء ـ وذلك لملازمته رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسَعة روايته لحديثه، وشدّة رغبته في الأخذ عنه، ولقد نذر نفسه للعلم منذ نعومة أظفاره، فدخل على أزواج النبي عليه الصلاة والسلام وتأثّر بهن، وتتلمذ على يد زيد بن ثابت، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وسمع من عثمان، وعليّ، وصهيب، وغيرهم من صحابة النبي الكريم، وتخلّق بأخلاقهم، وتحلّى بشمائلهم، ولقد كانت له كلمةٌ يردِّدها على الدوام، حتى غدت وكأنها شعارٌ له، وهي قوله: ما أعزت العبادُ نفسَها بمثل طاعة الله، ولا أهانت نفسها بمثل معصية الله  

      هذا الدرس قدوة لكل أبٍ، فابحث عما يصلح لابنتك في آخرتها، ولا تعبأ بالدنيا، فإنها تأتي وهي راغمة.  

      أيها الإخوة كما قلت قبل الأذان ينبغي أن تكون هذه القصة نبراساً لكل أبٍ، ولكل أمٍ، ولكل شابٍ، الزواج تبعة ومسؤولية على مستوى الآباء، وعلى مستوى الشباب أنفسهم، فلذلك أيّ إنسان له بنت إذا ربَّاها تربيةً دينية، وزوَّجها من رجل مؤمن، فكأنه أعتق نفسه من النار، فيستحق دخول الجنة إنسانٌ زوَّج ابنته من رجل يحفظ لها دينها، لأن الزوج أحياناً لا يتابع رسالة الوالد، فالأب يربي ابنته، فيأتي الزوج، ويصرفها إلى اتجاهٍ آخر لا يرضاه الأب، فالأب مسؤوليته أن يحسن اختيار زوجَ ابنته، وهناك قصص كثيرة جداً مؤلمة جداً لأن الأب لم يحسن اختيار الزوج، فساهم في فتنة ابنته.  

      سعيد بن المسيِّب هذا التابعي الجليل له هذه القصة الشهيرة التي توخّى من خلالها مصلحة ابنته الأخروية، لأنّ ثمّة مصالح دنيوية ومصالح أخروية، والعاقل والموفَّق هو الذي يتوخّى لابنته الصالح الأخروي.  



المصدر: السيرة - سيرة التابعين الأجلاء - الدرس 12-20 : التابعي سعيد بن المسيب