الاعتقاد ليس ما ينبغي أن تعتقد فحسب، ولكن ما ينبغي أن تتخلق به، فشطر العقيدة حقائق يجب أن تؤمن بها بعد البحث والتدقيق، وشطرها الآخر أخلاق وأحوال ومقامات ينبغي أن تتمثل فيك, من أجل أن تكون سبباً لسعادتك في الدنيا وفي الآخرة، تلك السعادة التي خلقت من أجلها: ﴿إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾.
إذا ذكرت كلمة مؤمن, فينبغي أن يقفز إلى ذهنك أنه أديب، يا رسول الله ما هذا الأدب؟ قال: ((أدبني ربي فأحسن تأديبي)) لا يمكن أن تقع عينك على مؤمن غير مؤدب، فظ غليظ، وقح متطاول، مستحيل، لا مع الله ، ولا مع أنبيائه، ولا مع كبار المؤمنين، ولا مع عامة الناس، إذا قلت: مؤمن، أي أنه مؤدب، لطيف، يعرف حقه ويعرف حق غيره، يعرف حدوده و يعرف حدود غيره.
صيانة معاملته من أن يشوبها نقيصة:
فالصلاة تامة، تؤدى أداءً كاملاً، فالصلاة، والصيام، والحج، والزكاة، هذه عبادات، تعاملت مع الله من خلال العبادات، يجب أن تؤدى هذه العبادات أداءً كاملاً، وهذا من الأدب مع الله، أمرك بغض البصر، غض البصر من تمام الأدب مع الله، أمرك بتحري الحلال، تحري الحلال من الأدب مع الله، نهاك عن أن تأخذ ما ليس لك، فإن لم تأخذ ما ليس لك فهذا من الأدب مع الله، أي تتعامل مع الله بهذه العبادات، أو بهذه المعاملات، من كمال الأدب مع الله ألا يشوبها نقص، قد تؤديها لكن مع النقص، قد تؤديها مع الغفلة، هذا ليس من الأدب، أما أن تؤديها أداءً كاملاً فهذا أدب . إذاً الأداء الكامل لكل شيءٍ أمرك الله به، الأداء الكامل هو الأدب.
صيانة قلبك أن يلتفت إلى غيره :
هذا أدب القلب، أدب الجوارح، أن تؤدي العبادات أداءً كاملاً، أن تقوم بالمعاملات كما أمر الله قياماً كاملاً، أن تؤدي ما عليك أداءً كاملاً، هذا أدب الجوارح، أي اللسان، والعين، والأذن، واليد، الجسم، أما أدب القلب فألا يلتفت إلى غير الله، لأن الله ينظر إلى قلوبنا، وأعمالنا، فإذا طهرت قلبك من الالتفات لغير الله فهذا من كمال الأدب مع الله .
صيانة الإرادة من أن تتعلق بما يمقت الله:
أي لا تنوي إلا الخير، لا تنوي إلا الشيء الذي يرضي الله عز وجل، فأصبح هناك إرادة، وقلب، وسلوك، الأدب مع الله أن تتعامل معه بكمال، بأداء حسن، وأن تصون قلبك على أن يلتفت إلى غير الله، لا أن تريد شيئاً لا يرضي الله، أي طهر إرادتك، وطهر قلبك، وطهر أداءك للعبادات الشعائرية والتعاملية.
وصف الله فيما وصف به نفسه من غير تمثيل ولا تعطيل:
فالأدب مع الله جل جلاله أن تصف الله فيما وصف به نفسه من غير تمثيل ولا تعطيل، فهو الله سبحانه وتعالى فوق سماواته، على عرشه، بائن من خلقه، ليس في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته شيء من ذاته، هو معهم بسمعه وبصره وعلمه، له وجه تبارك اسم ربك ذو الجلال والإكرام: ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ وله نفس: ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ﴾ وله يد: ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ وله ساق، وله قدم، وله عين، وله سمع، وكل شي ليس كمثله شيء. أوصاف الله عز وجل هكذا وردت في كتابه، نقر بها من دون تمثيل ولا تعطيل، بل نفوض إلى الله المعنى الذي يليق بكماله، أن تصف الله بما وصف به نفسه، وأن تفوض المعاني لهذه الأوصاف إلى الله عز وجل, بحيث تليق بكماله من دون تمثيل ولا تعطيل، من دون زيادة ولا نقصان ولا نفي. يقول الله عز وجل عن ذاته العلية: ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ الأدب مع ذات الله، الأدب مع صفات الله، الأدب مع أسماء الله، أن تصف الله بما وصف به نفسه من دون تعطيل ولا تمثيل، من دون زيادة ولا نقصان، وأن تفوض إلى الله تأويل هذه الصفات بما يليق بكماله، رُوي عن النبي عليه الصلاة والسلام: ((تفكروا في مخلوقات الله، ولا تفكروا في ذاته فتهلكوا)) .
الأدب في التوجه إلى الله:
سيدنا عيسى سئل: ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ قد يخطر في بالنا أن هذا النبي الكريم ينفي عن نفسه هذا القول، يقول: والله يا رب ما قلت هذا، قال: ﴿إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾ أرأيت إلى هذا الأدب الجم مع الله عز وجل؟ ثم يقول: ﴿مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾. قد تجد إنساناً تافهاً جداً يقول لك: فلان في النار قطعاً، من أنت؟ أنت ربه؟ لا يمكن أن تحكم على المستقبل بحكم قطعي، هذا يتناقض مع عبوديتك لله عز وجل. إنسان جاهد مع رسول الله، دخل عليه النبي، وقد مات، سمع امرأة تقول: هنيئاً لك أبا السائب، لقد أكرمك الله، انظر إلى أدب النبي مع الله, قال: ومن أدراك أن الله أكرمه؟ قولي: أرجو الله أن يكرمه، وأنا نبي مرسل, لا أدري ما يفعل بي ولا بكم؟ . الحكم على المستقبل القطعي ليس من شأن الإنسان، لا توزع الألقاب والتهم على الناس، إن رأيت إنساناً جيداً ومحسناً قل: أحسبه صالحاً، ولا أزكي على الله حداً، إن رأيته مسيئاً قل: أسأل الله أن يغفر له، وأن يتوب عليه، هذا الذي تراه مسيئاً, لو أنه تاب وصدق في توبته, لسبق من انتقده. سيدنا موسى حينما فعل خيراً، وسقى المرأتين، الإنسان أحياناً يعمل عملاً بسيطاً, يقول لك : أنا فعلت كذا، وفعلت كذا، وفلان أنا عملته رجلاً، أما سيدنا موسى حينما أجرى الله على يديه هذا الخير، قال: ﴿فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾. انظر إلى هذا الدعاء النبوي الذي يعلمنا الأدب، ع قَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ سَيِّدَ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي، وَأَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ, فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، فَإِنْ قَالَهَا حِينَ يُصْبِحُ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَإِنْ قَالَهَا حِينَ يُمْسِي مُوقِنًا بِهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ)) قال بعض العلماء: من تأدب بأدب الله, صار من أهل محبة الله.
الأدب مع الله في الأحوال:
- الأدب أن تمنع الخوف من أن يحملك على اليأس: يوجد شيء مخيف إذا حملك هذا الخوف على اليأس معنى ذلك أن توحيدك ضعيف، فأنت لست أديباً مع الله كأنك تتهم الله أنه لا يفعل شيئاً، كأنك تتهم الله عز وجل أنه غير قدير على حفظك، قال تعالى: ﴿لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾. الأدب في الأحوال أن تمنع الخوف من أن يصل بك إلى اليأس بالمقابل أن تمنع الرجاء برحمة الله من أن يصل بك إلى أن تأمن عذاب الله، فالإنسان أحياناً براحة الرخاء يتوسع، يتساهل، يطمع بعفو الله ورحمته، هذا سوء أدب مع الله، إذا كنت معافى، صحيحاً، دخلك جيد، بيتك منتظم، زوجتك أولادك لا يوجد عندك مشكلة، تهمل الصلوات، تهمل الأذكار لا يوجد شيء تخاف منه، هذا الأمن الذي نعمت به قادك إلى التساهل في العبادة، وإن جاءتك شدة من الله ينبغي أن لا تقودك إلى اليأس من رحمته، يجب أن تمنع الخوف أن يأخذك إلى اليأس وأن تمنع الرجاء أن يأخذك إلى الأمن، والأمن أن تتوسع في الحركة، أن تبتعد عن الورع .
- حال السراء والشكر – حال الضراء والصبر: الإنسان أحياناً يسر ضبط السرور لا يقدر عليه إلا الأقوياء أرباب العزائم الذين لا تستفزهم السراء فتغلب شكرهم، ولا تضعفهم الضراء فتغلب صبرهم، شخص تأتيه مصيبة يتحطم، غلبته الضراء، أبعدته عن الصبر، وأحياناً يتألق يأتيه مبلغ كبير يحقق هدفه، يتعين بوظيفة راقية جداً يختل توازنه ففرحه أبعده عن الشكر، فالأدب مع الله ألا تحملك السراء إلى أن تبتعد عن الشكر وألا تحملك الضراء إلى أن تبتعد عن الصبر . وأنت في أعلى درجات القوة متواضع لله عز وجل، دخل النبي مكة فاتحاً، دخلها مطأطئ الرأس حتى كادت ذئابة عمامته تلامس عنق بعيره تواضعاً لله عز وجل ، وطن نفسك السراء ينبغي ألا تحملك على ترك الشكر، والضراء ينبغي ألا تحملك على ترك الصبر، في الرخاء شكور، وفي البلاء صبور. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَجِبْتُ لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَ الْمُؤْمِنِ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ لَيْسَ ذَلِكَ لأَحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ وَكَانَ خَيْرًا وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ وَكَانَ خَيْرًا . قال تعالى: وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ .
- حال التولي وحال التخلي : صحابة رسول الله وفيهم رسول الله حينما قالوا لن نغلب من قلة، عشرة آلاف مقاتل بعد أن فتحوا مكة غلبوا في حنين، قال تعالى: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ درس بليغ أنت بين حالين بين أن يتولاك الله وبين أن يتخلى عنك، إذا قلت الله تولاك وإذا قلت أنا تخلى عنك، درس بدر ودرس حنين، درس بدر، قال تعالى: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ والمؤمن الصادق إذا أقدم على عمل اللهم إني تبرأت من حوالي وقوتي وعلمي والتجأت إلى حولي وعلمك وقوتك يا ذا القوة المتين.