بحث

علي بن أبي طالب3 فارس الميدان ورمز الأخلاق

علي بن أبي طالب3 فارس الميدان ورمز الأخلاق

بسم الله الرحمن الرحيم

     نتحدث عن رجولته، ولا تنسوا أن كلمة رجل في القرآن الكريم في أكثر الآيات لا تعني أنه ذكر بل تعني أنه بطل, قال تعالى: ﴿رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ﴾ وقد اشتقت من كلمة رجل الرجولة، والرجولة هي البطولة .

     فهذا الصحابي الجليل لمّا نزل على النبي صلى الله عليه وسلم قرآن كريم بآية جديدة، و هي قوله تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾، فهذه الآية أحدثت في نفس الصحابة الكرام ردَّ فعل قوي، وظن بعضهم أنها تنعي النبي صلى الله عليه وسلم، لذلك صاح عليُ بن أبي طالب: "والله لا ننقلب على أعقابنا بعد أن هدانا الله، ولئن مات أو قتل لأُقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت". ماذا نستنبط من هذا الكلام؟ نستنبط من هذا الكلام أن النبي عليه الصلاة والسلام بث في أصحابه مبدأً ثابتاً، وكان تركيز النبي على المبدأ لا على شخصه.  حينما مات ماذا قال سيدنا الصديق؟ أنا أعتقد أنه ما من رجلين على وجه الأرض يحبّان بعضهما بعضاً كالنبي عليه الصلاة والسلام وسيدنا الصديق، فلما مات النبي عليه الصلاة والسلام ماذا قال سيدنا الصديق؟ قال: "من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌ لا يموت "، وأنا أعتقد أن قلبه كان يتفطَّر حزناً على وفاة النبي، ومع ذلك فقد فَصَل بين الدين الذي هو مبدأٌ ثابت ، وبين مشاعره الشخصية تجاه النبي عليه الصلاة والسلام. إذاً: ديننا دين مبادئ فقط.

     في غزوة أُحد يخرج من صفوف المشركين أحد مبارزيهم الأشداء، هو أبو سعد بن أبي طلحة، وينادي علياً ليبارزه، فيخرج عليٌ إليه، ويلتقيان في مبارزةٍ ضاريةٍ حامية، ويتمكن سيف عليٍ رضي الله عنه بضربةٍ تطرحه أرضاً، وهو يتلوى من الألم، وبينما يتهيأ عليٌ كرم الله وجهه ليجهز عليه بضربةٍ قاضية ينحسر جلباب الرجل فتنكشف عورته، فيغمض عليٌ عينيه, ويغضُّ بصره, ويثني إليه سيفه, ويعود إلى مكانه من الصف، يؤثر عن هذا الإمام العظيم أنه ما رأى عورةً قط.

     والحقيقة أنّ القتال مشروع، ولكنْ له آداب، وله مكارم أخلاق، إنّ براعة سيدنا عليّ في القتال كانت تزلزل خصومه خوفاً وفرقاً وهلعاً، لكن خصلةَ شرف المقاتل في سيدنا علي كانت تملأ نفوس خصمه طمأنينةً وأمناً، لأنه لا يغدر أبداً، ولا يقسو، ولا يمثِّل، فقتاله قتال شريف، ما كان يقبل أن ينتصر في مبارزة إلا إذا توافر مع المبارزة صفات البطولة والمروءة والشهامة والعفة. وفي أثناءِ قتاله مع بعض خصومه يومًا قام أحد من رجاله فشتم خصمه، فنهاه سيدنا علي نهياً شديداً، وقال: “يا أمير المؤمنين ألسنا على حق وهم على باطل؟ فقال الإمام علي: بلى ورب الكعبة، قال: فلمَ تمنعنا من شتمهم ولعنهم؟ قال الإمام علي: كرهتُ لكم أنم تكونوا شتَّامين لعاَّنين، ولكن قولوا: اللهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، و اهدهم من ضلالتهم حتى يعرِفَ الحقَّ من جهله، ويرعوي عن الغي من لجَّ به  ”والقرآن الكريم هكذا يقول: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ . 

     حينما أقر النبي عليه الصلاة والسلام أن يهاجر، كان كفَّار قريش يتربصون به، ويتحلّقون حول بيته، وكان ينبغي له أن يغادر، كان سيدنا عليّ الفتى الفدائي، وقد ورد في السيرة أن النبي ألقى كَفًّا من تراب، وقال: شاهت الوجوه، فلم يره أحدٌ حينما خرج، لكن النبي عليه الصلاة والسلام أمر سيدنا علياً أن يستلقي على سريره, وأن يتغطى ببردته، فكلما نظروا إلى بيت النبي يطمئنون أنه في سريره وفي بيته، لكن النبي كان قد خرج من مكة، وصار في أطراف مكة ، وقريش قد عُرفت ببأسها وجبروتها وقسوتها وحقدها وكرهها، وحينما دخلت إلى بيت النبي عليه الصلاة والسلام فوجِئَت أن النبي قد خرج، وأن سيدنا عليٌّ في الفراش، أليس هناك احتمالٌ كبير أن يُقتَل هذا الإمام العظيم؟ لكن النبي عليه الصلاة والسلام قال له مطمئناً: لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم .

     هناك موقف لسيدنا علي، وهو الحقيقة شهادة كبيرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا الصحابي الجليل،   فسيدنا علي حينما كان يوم خيبر أمام حصنها المنيع، ارتدت أول يومٍ كتيبةٌ قوية يقودها أبو بكر، ثم ارتدت في اليوم الثاني كتيبةٌ أُخرى يقودها عمر بن الخطاب، فلم يجزع النبي صلى الله عليه وسلم, وإنما ألقى على الصفوف الحافلة بأصحابه وبجيشه نظرةً متفائلة, وقال: " لأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلا يُفْتَحُ عَلَى يَدَيْهِ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . فَبَاتَ النَّاسُ لَيْلَتَهُمْ أَيُّهُمْ يُعْطَى فَغَدَوْا كُلُّهُمْ يَرْجُوهُ فَقَالَ : أَيْنَ عَلِيٌّ ؟ فَقِيلَ : يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ فَبَصَقَ فِي عَيْنَيْهِ وَدَعَا لَهُ فَبَرَأَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ فَأَعْطَاهُ فَقَالَ : أُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا ؟ فَقَالَ : انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلامِ وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ فَوَاللَّهِ لأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ ". حمل هذه الراية سيدنا علي، وتقدَّم الكتيبة يهرول هرولةً, وأمام باب الحصن نادى: أنا علي بن أبي طالب، وقال " والله، والذي نفسي بيده لأذوقن ما ذاق حمزة أو ليفتحن الله علي ", أي إما النصر وإما الشهادة، وأجرى الله جلَّ جلاله على يد هذا الإمام النصر، وفتح باب الحصن، واقتحمه المسلمون, وتمت نبوة النبي عليه الصلاة والسلام, وهتف المؤمنون: الله أكبر خربتْ خيبر.

     وقف عليٌ رضي الله عنه يوم الخندق أمام أحد الفرسان الأعداء، وهو عمرو بن عبد وُدٍّ ، فتسلل هذا المشرك الفارس إلى صف المسلمين، ووقف أمام علىٍ كرم الله وجهه وجهاً لوجه، وقال: "يا عمرو إنك كنت عاهدت الله أن لا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خلتين إلا أخذتها منه، فأجابه عمرو: أجل، قال عليٌ: فإني أدعوك إلى الله، وإلى رسوله، وإلى الإسلام, فقال عمرو: لا حاجة لي إلى ذلك, قال علي: أنا أدعوك إلى النزال, قال عمرو: لمَ يا ابن أخي، فو اللات ما أحب أن أقتلك؟ قال عليٌ : لكنني والله أحب أن أقتلك, فغضب عمرو، وأخذته حمية الجاهلية، واقتحم عن فرسه وعقره، ثم هجم على علِيٍّ كرم الله وجهه الذي تلقاه بعنفوانٍ أشد، وخاض معه نزالاً رهيباً، لم تطل لحظاته حتى رفع عليٌ سيفه المنتصر، بينما كان خصمه عمرو بن عبد ود مجندلاً علـى الأرض صريعاً " .

     في فتح مكة، كان الزعيم الأنصاري سعد بن عبادة، يحمل الراية على رأس كتيبةٍ كبيرةٍ من المسلمين، ولم يكد يرى أطراف مكة حتى استفزته ذكرياتٌ قديمة وذكريات عداء قريشٍ للمسلمين، فصاح قائلاً وسط النشوة التي تستخف الأحلام: اليوم يوم الملحمة ، اليوم تستحل الكعبة، وسمعه بعض أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام فروعهم هذا النداء، وسارع عمر بن الخطاب إلى النبي عليه الصلاة والسلام، ونقل إليه كلمات سعد، وقال معقباً عليها:  يا رسول الله ما نأمن أن يكون لسعدٍ في قريشٍ صولة، فكأنهم خاف وا أن يفتح سعدٌ مع قريشٍ قتالاً ، فما كان مِن النبي عليه الصلاة والسلام إلا أنْ ناد ى علياً كرم الله وجهه على الفور، وقال: "أدركْ سعداً , وخذ الراية منه فكن أنت الذي تدخل بها " فسيدنا علي نفَّذ هذه المهمة، وأخذ الراية، ودخل مكة دون أن يهرق دماً مراعاةً لتوجيهات النبي عليه الصلاة والسلام .

     وللنبي عليه الصلاة والسلام قولٌ شهير خاطب به هذا الإمام الجليل، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ: "أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى". أي كان يده اليمنى، وكان وزير النبي, وحسبكم قول النبي عليه الصلاة والسلام: " أنا مدينة العلم وعليٌ بابها " . 



المصدر: الخلفاء الراشدين : سيدنا علي بن أبي طالب 3 - رجولته وبطولة