أصحاب النبي عليهم رضوان الله بمجموعهم يمثلون كل النماذج البشرية، ففي كل مجتمع غنيٌّ وفقير، قويٌّ وضعيف، شابٌ وكهلٌ وشيخ، صحيح ومريض، ذو نسب عالٍ، وذو ضآلة في النسب، هذه الحظوظ التي وزَّعها الله يبن البشر موجودة في كل مجتمع، لذلك يجب أن نعلم أن الإنسان إذا عرف الله واتصل به، واصطبغ بصبغته ارتقى إلى مرتبة عالية، فإذا كان غنيًّا اشتهيْتَ الغنى عليه، وإذا كان فقيراً لا ترى الفقر ضيراً على مؤمن، وإذا كان صحيحاً جعل صحته في سبيل الله، وإذا كان مريضاً رأيتَ فيه الصبر والسلوان، وإن كان وجيهاً استخدم وجاهته في الحق، وإن كان خاملا استغنى برضاء الله عن الدنيا, بأيِّ حال أنت, بأيِّ وضعٍ اجتماعيٍّ, بأيَّة قوة، بأيِّ ضعف, بأيِّ غنى, بأيِّ فقرٍ, بأيِّ وجاهة، وبأيِّ خمول, بأي وَسَامةٍ، وبأيِّ دمامة، فإذا عرفت الله عز وجل، و طبَّقتَ منهجه، واصطبغت بصبغته فأنت عند الله عظيم. قد يظن الناس واهمين أن الغنى يتناقض مع الإيمان, من قال ذلك؟ يمكن أن تكون أغنى أغنياء الأرض، وفي أعلى درجات الإيمان والقبول عند الله عز وجل, يمكن أن تكون من أقوى الأقوياء وأنت مؤمن، لماذا حدثنا ربنا عز وجل عن ذي القرنين؟ كان ملكاً، ولا يتنافى الملكُ مع الإيمان، فقد تكون فقيراً وأنت عند الله عظيم .
نحن اليوم مع صحابي كان من أغنى الصحابة، سأُِريكم كيف يكون الغنى مـــع الإيمان؟
مرة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم سُمِع في المدينة ضجيجٌ، وتعالى غبارٌ في الأفق، فسألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها, وقد ترامى إلى سمعها أن قافلة عظيمة زاحفة إلى المدينة: ما هذا الذي يحدث في المدينة؟ فقالوا لها: يا أم المؤمنين, إنها قافلة لعبد الرحمن بن عوف، جاءت من الشام تحمل تجارة له، قالت أم المؤمنين: قافلة تحدث كل هذه الضجَّة! قالوا: أجل يا أم المؤمنين, إنها سبعمئة راحلة. فهزَّت أم المؤمنين رأسها وأرسلت نظراتها الثاقبة بعيدا كأنها تبحث عن شيء، عن ذكرى مرَّت بها، أو عن حديث سمعته. وقبل أن تُفَضَّ مغاليق الأحمال حثَّ خطاه إلى بيت عائشة، وقال لها: لقد ذكَّرتِني بحديث لم أنسه، ثم قال: أما إني أُشهدكِ أن هذه القافلة كلها بأحمالها وأقتابها وأحلاسها في سبيل الله، ثم قال: والله لأَدْخُلَنَّها خَبَباً ليس حَبْواً. قال النبي صلى الله عليه وسلَّم لِسَيِّدنا بن عوف: ((يا ابن عَوْفِ إنك من الأغْنِياء، وإنَّك سَتَدْخُل الجنَّة حَبْواً، فأَقْرِض الله يُطْلِقُ لك قَدَمَيْك)) أعْطاهُ الحل, إنْ لم تُنْفِق بِسَخاء تدْخُلُها حَبْواً، فإذا أَقْرَضْتَ الله عز وجل أطْلَقَ الله قَدَمَيْكَ فَدَخَلْتها خَبَباً وجَرْياً، القَضِيَّة حُلَّت، إذْ إنَّ الحلَّ معه.
هذا هو عبد الرحمن بن عوْفٍ، هذا هو الغنيُّ المؤمن، هذا الذي يكون سيِّد المال، وليسَ عبداً له، هذا الذي يسْتخدم المال في سبيل الجنَّة، في سبيل مرْضاة الله عز وجل، في سبيل أنْ يفوز بِجَنَّةٍ عَرْضُها السموات والأرض، في سبيل أنْ يرْضى الله عنه، هذا الصحابي الجليل هو أحدُ الثمانِيَّة الذين سبَقوا إلى الإسلام، عرضَ عليه أبو بكر الإسلام هو وعثمان بن عفان والزبير بن العَوام وطلْحة بن عُبَيد الله وسعْدُ بن أبي وقاص فمَا غُمَّ عليهم الأمر, ولا أبْطؤوا، بل سارَعوا مع الصِّديق إلى النبي عليه الصلاة والسلام يُبايِعونه، ويحْمِلون لِواءَهُ، ففي التاريخ الإسْلامي عشَرَةُ أشخاص يدْخلون الجنَّة على التحْقيق، وما سِواهُم على الرَّجاء ، وهو من أصْحاب الشورى السِّتَة الذين اخْتارهم سيّدُنا عمر من بعْده, وكان مَحْظوظاً في التِّجارة، وكان يقول: ((لقد رأَيْتُني لو رفَعْتُ حجَراً لَوَجَدْتُ تحته فِضَّةً وذَهَباً)). مرَّةً سألوه: بِما حَقَّقْتَ هذه الثرْوة يا عبد الرحمن؟ قال: ((والله ما اسْتَقْللتُ رِبْحاً، ولا بِعْتُ دَيْناً، تِجارةُ الدَّيْن ليْسَتْ تِجارة، بل هي ذُلٌّ وتَسَوُّلٌ وفَقْرٌ وهَمٌّ)) هذا تَوْجيهُ صحابِيٍّ جليل آتاهُ الله مالاً، وكان له ثلاثة أطْوار: فهُوَ إما في المسْجد، وإما أنه في غَزْوٍ مع رسول الله، وإما أنه في تِجارِتِه .
إنّ الصحابة الكٍرام كانوا مٌثُلاً عُلْيا، فلما هاجَروا إلى المدينة أمرهم النبي صلى الله عليه وسلّم أنْ يتآخَوا اثْنَيْن اثْنَين، فسيّدنا بن عوفٍ كان نصيبُهُ سيّدنا سَعْد بن الربيع، وهو أنْصاري، وسيّدنا ابن عوف مُهاجِر، ولما انْتَقَل إلى المدينة كانَ بِلا مالٍ، تَصَوَّر أنَّ شَخْصاً ترك كلّ ثَرْوَته من أراضٍ ومصانع وسيارات ومسْكن وأمْوالٍ ضَخْمة، ثمّ يذْهب إلى مكانٍ آخر وهو مُفْلِس، هكذا كان الصحابة، تركوا كلّ أمْوالهم وهاجَروا مع النبي صلى الله عليه وسلّم، فَسَيِّدُنا سَعْد بن الربيع قال له: يا أخي أنا أكثر أهل المدينة مالاً، فانْظُر شَطْرَ مالي فَخُذْهُ، فقال له عبد الرحمن بن عوفٍ: بارك الله لك في مالك، ولكن دُلَّني على السوق, هؤلاء الصحابة الكِرام الأنْصار الذين أظْهروا أعْلى درجات المُؤاثرة قابَلَهُم المُهاجِرون بِأَعلى درجات العِفَّة. لذلك لم يُسَجِّل التاريخ أنَّ مُهاجِراً واحداً أخذ شطْر مال أخيه الأنْصاري.
باعَ يوْماً أرْضاً بِأرْبعين ألْفَ دينار, فكانت ثلاثة أثلاث: ثلثٌ على أقْربائه من بني زهرة, وثلث على أُمَّهات المؤمنين، وثلث على فقراء المُسْلمين .
وقدَّم يوماً رضي الله عنه لِجُيوش المسلمين خمسُ مئة فَرَسٍ تشبه كلٌّ منها في أيامنا سيارة مَرْسيدَس، أو شاحنة مَرْسيدَس, شيءٌ ثمين.
مرَّةً قدَّم ألفًا وخمسمئة راحِلَة في سبيل الله، وعند مَوْتِهِ أوْصى بِخَمْسين ألف دينار في سبيل الله، وأَوْصى لكل من بَقِيَ ممن شهِدوا بدْراً بِأَرْبَعمئة دينار .
قالوا: أهل المدينة جميعاً شُركاءُ لابن عوفٍ في ماله، ثُلُثٌ يُقْرِضُهم، وثُلُثٌ يقْضي عنهم دُيونهم، وثُلُثٌ يصِلُهُم ويُعْطيهم .
سيِّدنا ابن عوف جيءَ له بِطعام الإفْطار، وكان صائِماً، فَلَما وقَعَتْ عَيْناهُ فَقَدَ شَهِيَّتَهُ، وبكى، لماذا يبْكي؟ قال: اسْتُشْهِدَ مُصْعب بن عُمَيْر، وهو خيرٌ مني، فَكُفِّن في بُرْدَةٍ إنْ غُطِّيَ رأْسه بَدَتْ رِجْلاه، وإنْ غطيت رِجْلاه بدا رأسه، واسْتُشْهِدَ حمزة، وهو خيرٌ مني فلم يوجد له ما يُكَفَّن فيه إلا بُرْدة، ثمّ بُسِطَ لنا من الدنيا ما بُسِط، وأُعْطينا منها ما أُعْطينا، وإني لأخْشى أنْ تكون قد عُجِّلتْ لنا حَسَناتُنا .
واجْتمع بعض أصْحابه يوماً على طعامٍ عنده، وما كاد الطعام يوضَعُ أمامهم حتى بكى، فسألوه: ما يُبْكيك يا أبا محمد؟! فقال: لقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلَّم وما شَبِعَ هو وأهْلُ بَيْتِه من خُبْز الشعير، وما أرانا أننا أُخِّرْنا لما هو خيرٌ منا. لو تقرأ عن بيْتِ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم الذي هو سيِّدُ الخلق وحبيب الحق، كان إذا صلى قِيام الليل تحوِّل السيِّدة عائِشة رِجْلَيْها، لأنَّ غرفته لا تَتَّسِعُ لِصَلاته ونوْمه، ليس في بيْتِ النبي إلا وِسادةٌ واحدة !!، هذه هي النبُوَّة، النبوَّة قُدوة وتَقَشُّفٌ وزُهْدٌ وليس ملكاً.
فهذا الصحابي الجليل وهو على فِراش الموت أشارتْ إليه أنَّها تُوافقُ على أنْ يُدْفن في حُجْرَتها إلى جِوار النبي عليه الصلاة والسلام وأبي بكرٍ وعُمر، ولكنه رضي الله عنه كان على حياءٍ كبير، فقد اسْتَحْيا أن يكون مع هؤلاء الكِبار، ثمّ إنه كان على مَوْعِدٍ وثيق مع عثمان بن مظغون، إذْ تواثقا ذات يومٍ أَيُّهُما يموت بعد الآخر يُدْفَنُ إلى جِوار صاحِبِه، فهذا وعْدٌ .
وهو على فِراش الموت, قال: إني أخاف أنْ أُحْبَسَ عن أصْحابي لكثرة ما كان لي من مالٍ ، مع كُلّ هذا الإنفاق وهذا السَّبْق والحُبّ والمؤاثرة، عندئذٍ ذكر قوْل النبي عليه الصلاة والسلام: ((ع بد الرحمن بن عوْفٍ في الجنَّة)) هذه البِشارة طَمْأنَتْ قلْبه وجعَلَتْهُ قريرَ العَيْن وتلا قولَه تعالى: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ .