أيها الإخوة، ما من محنة تصيب المؤمن مطلقاً إلا وراءها منحة، وما من شِدة يقع بالمؤمن إلا وراءها شَدة إلى الله، المحنة تنتهي بمنحة، الشِدة تنتهي بشَدة، ذلك لأن هذه الدنيا في الأصل دار ابتلاء لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء ولم يحزن لشقاء، لأن الرخاء مؤقت، والشقاء مؤقت، قد جعلها الله دار بلوى. قال تعالى: ﴿ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ﴾ ويوم توطّن نفسك على أن هذه الدنيا دار ابتلاء لا تفاجَأ بالابتلاء، وفي الحديث عَنْ سَعْدٍ قَالَ: قُلْتُ : ((يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً ؟ قَالَ: الْأَنْبِيَاءُ )) فكلما زاد إيمانك اشتد بلاؤك الدعوي، وهناك بلاء عقاب.
ما نوع مصيبة الطائف للنبي عليه الصلاة والسلام؟ قال العلماء: هي مصيبة كشف، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ينطوي على كمال لا يمكن أن يظهر إلا بهذه الطريقة. للتقريب: عندك مركبة قوة محركها ألف حصان، هذه المركبة لا تبدو ميزاتها في الطريق السهل، ولا في الطريق النازلة، ولا في الطريق الصاعدة صعوداً بطيئاً، تبدو ميزاتها في طريق يكاد يكون حائطاً. فالنبي عليه الصلاة والسلام ينطوي على كمال لا يظهر إلا بهذه المصيبة، لذلك كانت مصائب الأنبياء والمرسلين مصائب كشف، لأنها كشفت لهم عن كمالهم.
لو أن إنسانًا يحمل دكتوراه، وأخطأ المتكلم، وقال له: أستاذ، يقيم عليه الدنيا ولا يقعدها، فكيف إذا لم يرفق بأية صفة علمية!؟ فكيف إذا تهجمتَ عليه!؟ فكيف إذا نظرت إليه نظرة قاسية!؟ فكيف إذا شتمته!؟ فكيف إذا ضربته!؟ سيد الخلق وحبيب الحق أغرى أهل الطائفُ صبيانهم أن يضربوه، ماذا فعل؟ الدعاء المعروف!؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((اللهم إليكَ أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي )).
لذلك أيها الإخوة، في الأرض زمرتان: أقوياء وأنبياء، الأقوياء ملكوا الرقاب، والأنبياء ملكوا القلوب، الأقوياء أخذوا، ولم يعطوا، الأنبياء أعطوا، ولم يأخذوا، الأنبياء عاشوا للناس، والأقوياء عاش الناس لهم، الأقوياء يمدحون في حضرتهم، والأنبياء يمدحون في غيبتهم، وبعد موتهم، وبعد 1400 عام من موتهم، اذهب إلى المدينة المنورة، ملايين، من الهند، من باكستان، من الصين، من بنغلادش، من الشرق الأوسط، من المغرب، الكل يبكي أمام قبره، ما التقوا معه، ماذا أعطاهم؟ والله هذا شيء لا يكاد يصدق، يا رب، ما هذا الإنسان؟ يقف الإنسان أمام قبره بكل أدب، ويقول له: السلام عليك يا سيدي يا رسول الله، السلام عليك يا سيدي يا حبيب الله، أشهد أنك بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، وكشفت الغمة، وجاهدت بالله حق الجهاد، وهديت العباد إلى سبيل الرشاد.
النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى الطائف، وكذبه أهلها، وسخروا منه، واستهزؤوا به، وقال أحدهم له: والله لو أنك صادق فيما تقول لمزقت ثياب الكعبة، ثم ضربوه، حتى سال الدم من أعضائه، موضوع الطائف أيها الإخوة امتحن الله به سيد الخلق وحبيب الحق، فكشف هذا الامتحان كماله صلى الله عليه وسلم، فالنبي عليه الصلاة والسلام ضُرب، وكُذب، واستهزأ به، وأعلن أن يا رب ، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ، ولك العتبى حتى ترضى ، وإن كان بك عليّ غضب يا رب فإني أستسمحك عذراً، فاغفر لي يا رب،
إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، وإن كان في غضب لك العتبى حتى ترضى، لكن عافيتك أوسع لي ، أنا ما رأيت دعاء بليغًا جامعًا مانعًا شاملا عميقًا كهذا الدعاء، ما هذا الموقف، يا رب، هذه المصيبة إن عبرت عن غضبك فأنا أقلق لها أشد الغضب، ولك العتبى حتى ترضى، وإن لم يكن لها علاقة برضاك عني ومحبتك لي فلا أبالي، أنا أتحملها، لكن الأدب، لكن عافيتك أوسع لي.
((اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو أن يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله))
أيها الإخوة، محنة الطائف أوصلت النبي الكريم إلى الإسراء والمعراج.
﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾
لو أنك تتعتع في حفظ القرآن تقول: إنه على كل شيء قدير، ولكن الله تعالى قال : ﴿إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ يعني يا محمد سمعتك في الطائف، وهذه المكافأة، أنت سيد الخلق، وحبيب الحق، الإسراء والمعراج هي المنحة بعد المحنة، الإسراء والمعراج هي الشَدة إليه بعد الشِدة، فاطمئن.