بحث

هجرة أصحاب النبي

هجرة أصحاب النبي

بسم الله الرحمن الرحيم

     لم يكن اختيار يثرب داراً للهجرة مما اقتضته الظروف ظروف الدعوة فقط، إنما كان ذلك بوحي من الله سبحانه وتعالى، الله عز وجل هو الذي اختار يثرب، فقد قال رسول الله صلى الله عليه  وسلم ((إِنِّي أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لَابَتَيْنِ، وَهُمَا الْحَرَّتَانِ))   ورؤيا الأنبياء حق، ورؤيا الأنبياء أمر. والله عز وجل هو الذي اختار يثرب لتكون داراً للهجرة، لذلك ورد في بعض الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما خرج من مكة مهاجراً، قال:  ((اللهم! إنك أخرجتني من أحب البلاد إلي فأسكني أحب البلاد إليك)) فكانت المدينة المنورة، لذلك الذين يزرون مكة والمدينة يؤكدون أن الجو العام في مكة جو إجلال، بينما الجو العام في المدينة جو جمال، روحانية النبي مهيمنة على هذه المدينة النبوية، إذاً: وفي حديث آخر:  ((رأَيْتُ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ بِهَا نَخْلٌ، فَذَهَبَ وَهَلِي إِلَى أَنَّهَا الْيَمَامَةُ، أَوْ هَجَرُ، فَإِذَا هِيَ الْمَدِينَةُ يَثْرِب)). 

     إنّ أسباب الهجرة لا تخفى على أحد، حيث كان الابتلاء والاضطهاد سبب هجرة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بأمر الله إلى المدينة التي اختارها الله، والحقيقة أن المدينة وظيفتها الأولى في الهجرة تأمين ملاذ آمن للدعوة، لذلك المكان أو أيّ مكان يحول بينك وبين عبادة الله ينبغي أن تغادره، لأن علة وجودك أن تعبد الله، وإذا قال عليه الصلاة والسلام:  ((لا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ)) أي أن باب الهجرة أغلق بين مكة والمدينة بعد الفتح، لكن الحقيقة أن الهجرة قائمة ومفتحة أبوابها على مصاريعها بين كل مدينتين تشبهان مكة والمدينة. الإنسان إذا كان ضعيفاً ضعف قمع على أن يعبد الله ينبغي أن يهاجر، وإن كان ضعيفاً ضعف غلبة على أن يعبد الله فينبغي أن يهاجر، إما أن يضعف أمام قوى الشر، وإما أن يضعف أمام الشهوات، إذاً سبب الهجرة توفير مكان آمن للدعوة، ولعبادة الله جل جلاله هدف الهجرة، والسبب اضطهاد المؤمنين والصحابة الكرام في مكة. 

     كان المؤمنون قبل الهجرة يفرّ أحدهم بدينه إلى الله تعالى، كان مشركو أهل مكة يؤذون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:  ((فيقول لهم اصبروا فإني لم أؤمر بالقتال)) هناك   توجيه إلهي هو في الحقيقة تشريع، وهو أنّ الله عز وجل لا يقبل بالتعبير المعاصر حرباً أهلية ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾   هذه الآية في مكة، البيت الواحد فيه مؤمن وفيه مشرك، فلو سمح بالقتال في مكة لكانت هذه الحرب حرباً أهلية، ولأحرقت الأخضر واليابس، وقد قال الله عز وجل:  ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾ بل إن الثالثة هي أصعب ما في الحياة الدنيا. 

     شيء آخر، الدعوة لا تنمو إلا بالسلام، فلما انتقل الصحابة الكرام إلى المدينة حيث الأمن والسلام والهدوء نمت قدراتهم، وازداد نشاطاتهم، وأقبلوا على ربهم، هذا شأن الإنسان، ولمّا هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، واستقر المسلمون، وكان لهم كيان، وقيادة، وأتباع، عندئذٍ نزل قوله تعالى:  ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ وهذه أول آيات القتال.  

     الآن أول المهاجرين، كان مصعب بن عمير، وعبد الله بن أم مكتوم، أول من هاجر إلى المدينة، وكانا يقرآني الناس القرآن وقبلهما هاجر هو أبو سلمة بن عبد الأسد، وذلك بعد أن آذته قريش على أثر رجوعه من هجرته إلى الحبشة، فتوجه إلى يثرب قبل بيعة العقبة بسنة واحدة، لا هجرة، ولكن فراراً بدينه، مصعب بن عمير هاجر هجرة بأمر النبي بعد بيعة العقبة الأولى والثانية، وقد بينت أحداث السيرة من أساليب قريش في محاولتها عرقلة هجرة المسلمين إلى يثرب لأن هؤلاء المسلمين إن لم يهاجروا هم في قبضتها، وتحت سيطرتها، فإذا هاجروا تفلتوا من قبضتها، ونجوا من سيطرتها، لذلك كانت قريش تمنع الهجرة، إما بسلب الأموال، أو بحجز الزوجات، أو بالتهديد، أو بالوعيد. لكن الصحابة الكرام كانوا على استعداد لا حدود له ليفتدوا أنفسهم بكل ما يملكون.  

     إنّ أم سلمة رضي الله عنها لها قصة عجيبة، تأتي في سير الصحابة، وكيف كانت مع زوجها الأول، وكيف أن قريشاً انتزعتها وطفلها من زوجها، وكيف أن رحلة العذاب قد استمرت قرابة سنة، قبل أن يتاح لها أن تسترجع ابنها، وأن تلحق بزوجها، زوجها هاجر، وقد أخذوها، ومنعوها أن تهاجر، وأخذوا ابنها رهينة، ومضى عام حتى استطاعت أن تصل إلى المدينة، وأن تأتي بولدها إليها. 

     إن صهيب الرومي منعه زعماء قريش من الهجرة بحجة أنه كان قد أتى إلى مكة فقيراً، فقالوا له: فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك، والله لا يكون هذا أبداً، ما فعل صهيب؟ عرض عليهم أن يجعل لهم المال كله في مقابل أن يخلوا سبيله، عندئذٍ وافقوا على ذلك، وبلغ ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم فقال:  ((ربح صهيب، ربح صهيب، ربح صهيب)). 

     يروي عمر بن الخطاب رضي الله عنه خبر هجرته، حيث تواعد مع عياش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص السهمي على الالتقاء في مكان بعيد عن مكة، وكيف أن هشام بن العاص قد حبس عنهما، وفتن، فافتتن، ثم تحدث عن خبر وصولهما إلى ظاهر المدينة ونزولهما في بني عمر بن عوف، وخروج أبي جهل بن هشام وأخيه الحارث إلى عياش بن أبي ربيعة، وإقناع إياه بضرورة العودة إلى مكة ليبر بقسم أمه التي نذرت ألا يمس رأسها مشط حتى تراه، وكيف حذره عمر منهما، وقوله له: يا عياش، << إنك والله إن يريد القوم إلا ليفتونك عن دينك، فاحذرهم >>. 

     إذاً أُخِذ مال مسلم كله، وحُجِزتْ زوجة آخر وطفله كرهينة، ومنعوا الثالث بالقوة أن يهاجر، وفي بعض الطريق أوثقاه، وربطاه، ثم دخلا به مكة، وفتناه فافتتن، يقول سيدنا عمر: كنا نقول: ما والله يقبل ممن افتتن صرفاً ولا عدلاً ولا توبة، قوم عرفوا الله، ثم رجعوا إلى الكفر ببلاء أصابهم، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم أنزل الله تعالى فيهم.  ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾. 

     أيها الإخوة الكرام، تآمرت قريش على حياة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن علم المشركون بما تم بين النبي صلى الله عليه وسلم والأنصار في العقبة الثانية، ورأوا المسلمين يهاجرون إلى يثرب جماعات وأفرادا، مكث عليه الصلاة والسلام بعد الحج بقية ذي الحجة، ومحرم، وصفر، ثم إن المشركين اجتمعوا يعني على قتله، وقد تواترت الأخبار بأن خروج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة كان يوم الاثنين، وكان دخوله المدينة يوم الاثنين أيضاً. 



المصدر: فقه السيرة النبوية - الدرس : 27 - الهجرة -2- تفاصيل الهجرة