بحث

عبد الله بن حذافة السهمي السفير

عبد الله بن حذافة السهمي السفير

بسم الله الرحمن الرحيم

إتقاء فتنة القول وفتنة العمل والإنطلاق نحو القمة:  

      أيها الأخوة المؤمنون، مع سير صحابة رسول الله رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، وصحابيُّ اليوم سيدُنا عبد الله بن حذافة السهمي.  

      ثمَّة دعاءً: اللهم إنا نعوذ بك من فتنة القول، كما نعوذ بك من فتنة العمل  

      القول له فتنة، وفتنة القول، أن ينطلق لسانك، ويقصِّر عملك، هذه فتنة، وفتنة العمل، أن تعجب به، فالدعاء:  اللهم إنا نعوذ بك من فتنة القول، كما نعوذ بك من فتنة العمل، ونعوذ بك أن نتكلَّف ما لا نحسن، كما نعوذ بك من العجب فيما نحسن  

      سقتُ هذا الدعاء تمهيداً لهذه الملاحظة، أن كلَّ مؤمنٍ إذا قرأ سيرة أصحاب رسول الله يصغر، ويصغر، حتى يرى أنه لم يقدِّم شيئاً للإسلام.  

      صحابيُّ اليوم، سيدنا عبد الله بن حذافة السهمي، كأن هؤلاء الصحابة من طينةٍ غير طينتنا، كأنهم يحبُّون الله حباً يفوق حدَّ التصوُّر، وقد تحملوا من المشاق ما لا يحتمله بشر، فالإنسان أيها الأخوة، إذا اطّلع على سير الصادقين، وعلى سير المخلصين، فهناك فائدتان كبيرتان:  

      الفائدة الأولى: فإنه يصغر عوضَ أن يكبر، والجاهل كبير بنظر نفسه، أما العالم فصغير، يقول: ماذا قدُّمت أنا؟ بعد قليل سوف ترون أن الذي فعله هذا الصحابي يفوق حدَّ الخيال، والتاريخ صادق.  

      الفائدة الثانية: إذا قرأ الإنسان سير صحابة رسول الله، فقراءته لها تجعله ينطلق أكثر وأكثر إلى طاعة الله، وإلى التضحية، وإلى البذل.  

سيدنا عبد الله بن حذافه يلتقي ملك الفرس وملك الروم:  

      بطل هذه القصة رجل من الصحابة الكرام، يُدعى عبد الله بن حذافة السهمي، هذا الرجل له قصة مذهلة، والإسلام أتاح له أن يلتقي مع أسياد الدنيا في زمانه، وفي كل عصر هناك دول، منها دول صغرى، ودول وسطى، ودول عظمى، ودول متخلفة، ودول متقدمة، وعلى كلٍّ بين الدول الكبرى تجد دولة هي أكبر دولة.  

      لقد كان في زمان النبي عليه الصلاة والسلام دولتان عظيمتان، وعلى رأس هاتين الدولتين رجلان عظيمان، كسرى عظيم الفرس، وقيصر عظيم الروم، وهذا الصحابي الجليل أتيح له أو أرسل بمهمةٍ ليلقى كسرى وقيصر في وقتين مختلفين، كِسرى ملك الفرس، وقيصر ملك الروم، وأن تكون له مع كلٍّ منهما قصة، ما تزال ذاكرة الدهر تعيدها، ولسانُ التاريخ يرويها .  

قصته مع كسرى ملك الفرس:  

      أما قصته مع كسرى ملك الفرس فكانت في السنة السادسة للهجرة، حين عزم النبي صلّى الله عليه وسلم أنْ يبعث طائفةً من أصحابه، بكتبٍ إلى ملوك الأعاجم، يدعوهم فيها إلى الإسلام، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقدِّر خطورة هذه المهمة، فهؤلاء الرسل سيذهبون إلى بلادٍ نائية.  

      في زماننا طيران، وطائرة أسرع من الصوت، وأنت على ارتفاع ستين ألف قدم، يقدَّم لكَّ الطعام الساخن، والفواكه، والمشروبات، والشاي، والقهوة، ويمكن أن تنام، وأن تشاهد فيلمًا، وأن تقرأ المجلات، وكلّ حين تقدم لكَّ الوجبات الشهيّة، في المطارات، قاعات الاستقبال مكيفة، فالسفر في زماننا هذا سهلٌ ميسور.  

      لكن تصور السفر في عهد النّبي عليه الصلاة والسلام، تصور إنساناً يركب حصاناً، أو يركب ناقةً، وينطلقُ بها من المدينة إلى القسطنطينية وحده، لا مؤنس معه، في ليالي الصحراء، أمّا في هذه الأيام فالإنسان أحياناً لو ذهب إلى مكتبه في قلب المدينة في الليل يشعر بالوحشة، ولو سارَّ في طريقٍ وحده بعد الساعة الثانية عشرة لشعر بالوحشة.  

      فهذا الصحابي، انطلق ليقطع الصحارى وحيداً، دون مؤنسٍ، ودون معينٍ، ليصل إلى ملك من ملُوك الأرض، لا يفهم لغته، ملكٌ متربعٌ على عرشٍ عظيم، يدعو هذا الصحابي ذاك الملك لترك دينه، والاحتمال أن يقتله احتمالٌ كبير.  

      أجمل شيء يا أيها الأخوة، أن يكون الإنسانُ واقعيًّا، وكلّ إنسان يبتعد عن الواقع لا يصدَّق، فالنّبي عليه الصلاة والسلام يعلم تماماً خطورة هذه المهمة، وهؤلاء الصحابة الكرام عاشوا في البادية، ولم يتعلَّموا، بل هم أُمِّيُّون، سينطلق أحدُهم إلى كسرى، الذي يمثِّل قمَّة الحضارة، قصور، وخدم، وحشم، وحجَّاب، وفرسان، وأسلحة، وأموال، وأرائك، وهم يجهلون لغات تلك البلاد، ولا يعرفون شيئاً عن أمزجة ملوكها.  

      بينما الآن فهناك إعلام، والأعمال كلُّها يتناقلها الإعلام، فأحياناً الملوك يحسبون حسابًا لتناقل الوكالات لما يفعلُون، أما قديمًا فلم يكن هناك إعلام، فلو قال الملك: اقتلوه، لقتلوه، وانتهى الأمر، ولنْ تسمع وقتها ضجة إعلامية، إذ لم يكن بين الشعوب تواصل، إنهم سيدعُون هؤلاء الملوك إلى ترك أديانهم، ومفارقة عزِّهم وسلطانهم.   

      تصوَّر مثلاً أنَّ يا فلانًا الفلاني، في القرية الفلانية، ومن البلد المتخلِّف الفلاني، يقال له: اذهب إلى صاحب البيت الأبيض، وقل له: إنَّك على باطل، فعُدْ إلى ديننا، إنه أمرٌ صعب، ومهمةٌ فوق الخيال.  

      سيدعون هؤلاء الملوك إلى ترك أديانهم، ومفارقة عزِّهم وسلطانهم، والدخول في دينِ قومٍ كانوا إلى الأمسِ القريب، إنها رحلةٌ خطيرة، الذاهب فيها مفقود، والعائد منها مولود.  

      إنها رحلة بالتعبير المعاصر، انتحارية، فإما أن يعود، وإما ألاّ يعود، هذه هي طبيعة هذه المهمة.  

      الإنسان أيها الأخوة، على قدر تضحيته، وعلى قدر بذله، وعلى قدر تجشُّمه للأخطار، وعلى قدر عطائه يرقى عند الله عزَّ وجل، لذلك جمع النبي صلّى الله عليه وسلَّم أصحابه، وقام فيهم خطيباً، وقال:   

       أما بعد، فإني أريد أن أبعثُّ بعضكم إلى ملوك الأعاجم، فلا تختلفوا عليّ، كما اختلفت بني إسرائيل على عيسى بن مريم: ( فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ )

      لقد كان الصحابة يتنافسون على الأعمال البطولية، تصور لو أُلْغِيَ التجنيدُ الإجباري، وصار اختيارياً، فكم عددُ مَن يذهبون طواعيةً؟ كان أصحاب رسول الله حينما يردُّهم النّبي لعدم وجود الرواحل يبكون، وفي هؤلاء قال سبحانه: ( وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ )

      يبكون لأنه ما أتيح لهم أن يضَحُّوا بأرواحهم في سبيل الله، فَأَرِنِي لي مِنَ المسلمين بهذا المستوى، وخذ فتحاً يشمل العالم كلَّه، وخذ نصراً مؤزراً، الواحد منهم بألف، والألف من غيرهم كأُف، سأتلّو على مسامعكم آيتين، الأولى قوله سبحانه: ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي)  

      وهو شيء تحقق في عهد سيدنا عمر، قال:   

       أين سراقة ؟ ائتوني به، فجاء سراقة، أين تاج كسرى؟ ضعوه على رأسه، ألبسوه سوارَيْه، قال عمر: بخٍ بخٍ، أّعرابيٌ من بني مدلج، على رأسه تاج كسرى  

      أمّا الآية الثانية فهي قوله عز وجل: ( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً)  

      وقعوا في خطيئتين هما:( أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ)  

       فقال أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم: نحن يا رسول الله نؤدِّي عنك ما تريد، فابعثنا حيث شئت.  

      أيها الأخوة، لسيدنا سعد موقف، لو لم يكن له إلاّ هذا الموقف لكفاه،   

      انتدَب النّبيُّ عليه الصلاة و السلام ستّةً من أصحابه الكرام، ليحملوا كتبه إلى ملوك العرب والعجم، وكان أحد هؤلاء الستة عبد الله بن حذافة السهمي فقد اخْتِيرَ لحمل رسالة النّبي صلّى الله عليه وسلّم إلى كِسرى ملك الفرس، على حصان، من المدينة إلى المدائن عاصمة الفرس.  

      ما المدة التي تستغرقها سفرُه؟ أكثر من شهر، وحده في الصحراء، فيها وحوش، وفيها قطَّاع طرُق، وفيها أخطار مجهولة.  

جهَّز عبد الله بن حذافة راحلته، وودَّع صاحبته وولده، ومضى إلى غايته ترفعه النجاد، وتحطه الوهاد، وحيداً، فريداً، ليس معه إلا الله.  

      أحيانًا الناس يقولون كلمات: الله معك، إنها كلمة عظيمة، ودلالتها بعيدة، إذا كان الله معك فمن عليك؟ وإذا كان الله يحرسك، ويحفظك، ويرعاك، ويوفِّقك، وينصرك، ويؤيِّدك فلا بأسَ عليك، صدق القائل:  

وإذا العنايةُ لاحظتًك جفوّنها      نم فالمخاوف كلُّهن أمان  

       إذا بلغت هذه المرتبة، أن يكون الله معك، وأن تشعر أنَّك في حمايته، وفي رعايته، وحفظه، فأنت في مرضاته، وأنت في خدمة عباده، وأنت جنديٌ من جنود الحق، فإذا بلغت هذه المرتبة، وهو المؤنس في كلِّ وحشة فقد سمَوْتَ عاليًا.                           أيها الأخوة، بلغ ديار فارس، فاستأذن بالدخول على ملكها، وأخطرَ الحاشية بالرسالة التي يحملها له، عند ذلك أمر كسرى       بإيوانه فزُيِّن، ودعَا عظماء فارس لحضور مجلسه فحضروا، ثم أذِنَ لعبد الله بن حذافة بالدخول عليه.  

هناك في قصور في العالم، قصور في باريس، في لندن، في واشنطن، أبهاء، رخام، زينة، إضاءة، لوحات، مداخل، ثم يدخل هذه القصور أعرابي عليه رداءه وعمامته، إنها قضية ليست بالسهلة، بل هي مِنَ الصعوبة بمكان.  

      دخل عبد الله بن حذافة على سيد فارس، مشتملاً شملته الرقيقة، مرتدياً عباءته الصفيقة، عليه بساطة الأعراب، لكنه كان عاليَ الهمَّة، مشدود القامة، تتأجج بين جوانحه عزَّةُ الإسلام، وتتوقَّد في فؤاده كبرياءُ الإيمان، فما إن رآه كسرى مقبلاً، حتى أومأ إلى أحدِ رجاله أن يأخذ الكتاب من يده،   

       فقال: لا، إنما أمرني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن أدفعه إليك يداً بيد، وأنا لا أخالف أمر رسول الله،  

      فقال كسرى لرجاله: اتركوه يدنو مني، فدنا من كسرى حتى ناوله الكتاب بيده، ثم دعا كسرى كاتباً عربياً مِن أهل الحيرة، وأمَرَه أن يفضَّ الكتاب بين يديه، وأن يقرأه عليه، فإذا فيه:  

بسم الله الرحمن الرحيم  

       من محمدٍ رسول الله، إلى كسرى عظيم فارس  

      ماذا تفهمون من قوله عظيم فارس؟ إنّه حكم شرعي، فإذا كان لأحدٍ رتبة معينة، وله لقب معيَّن، فإذا خاطبته بهذا اللقب فلست آثماً، يا ترى هل كسرى عظيمٌ في مقياس الإيمان؟ وهل الذي يعبد النار عظيم، والذي يقهر الناس عظيم؟ لا والله، ليس عظيماً، لكن هذا لقب، ومن الحكمة أن تخاطب الناس بألقابهم، هذا له اسم، هذا دكتور، هذا أستاذ، هذا مقدَّم، فإذا خاطبت الناس بمراتبهم، فليس في الخطاب غضاضة، والمؤمن لبق حصيف حكيم.  

       فقال عليه الصلاة والسلام في الرسالة:  

بسم الله الرحمن الرحيم  

       من محمدٍ رسول الله، إلى كسرى عظيم الفرس، سلامٌ على من اتّبع الهدى،  

      ولم يقل له: سلامٌ عليك، سلامٌ على من اتبع الهدى، أي إن اتبعتَ الهدى فسلامٌ عليك، وإن لم تتبع الهدى، فالسلام ليس عليك  

أسلِم تسلَم، فإن أبيت، فإنما عليك إثمُ الأرِيسيِّين،  

      أي هؤلاء الذي يتبعونك، إن لم تسلم، فهم في رقبتك، وعليك إثمهم  

      فما إن سمع كسرى من هذه الرسالة هذا المقدار، حتى اشتعلت نار الغضب في صدره، فاحمر وجهه، وانتفخت أوداجه،   

      لأن الرسول عليه الصلاة والسلام، بدأ بنفسه، وبدأه بقوله: من محمدٍ رسول الله إلى كسرى، فكان تفكير كسرى تفكيرًا شكليًّا، ولم يقرأ المضمون، ولم يهتمَّ له، فغضِبَ للشكل.  

      فجلب الرسالة من يد كاتبه، وجعل يمزِّقها دون أن يعلم ما فيها، وهو يصيح: أيُكتبُ لي بهذا، وهو عبدي؟   

      لأنه من أتباعه، ولأن باذان عامله على اليمن، تابع لكسرى، والمناذرة وعاصمتهم الحيرة يتبعون كسرى  

      ثم أمر بعبد الله بن حذافة، أن يُخًرَج من مجلسه، فخرج.  

      خرج عبد الله بن حذافة من مجلس كسرى، وهو لا يدري ماذا يفعل؟ أيُقتَل أم يترك حراً طليقاً، لكنه ما لبث أن قال: واللهِ ما أُبالي على أيَّةِ حالٍ أكون بعد أن أدّيتُ كتاب رسول الله، وركب راحلته وانطلق، ولما سكت عن كسرى الغضب، أمر بأن يُدخل عليه عبد الله فلم يجدوه، فالتمسوه، فلم يقفوا له على أثر، فطلبوه في الطريق إلى الجزيرة، فوجدوه قد سبق، فلما قدم عبد الله على النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، أخبره بما كان من أمر كسرى، وتمزيقه الكتاب، فما زاد عليه الصلاة والسلام، على أن قال:   

مزَّق الله ملكه  

      فثار عليه ابنه فقتله، ومزِّق ملكه شرَّ ممزَّق، ولقد أعجبني من كاتب معاصر لفتةٌ حيث قال: وأيُّ إنسانٍ يريد أن يعيد مجد ملوك فارس، يمزِّق الله ملكه، والذي كان في فارس، وكان اسمه ملك الملوك، ألم يمزِّق الله ملكه؟ كل من يريد أن يعيد مجد فارس، يمزِّق الله ملكه، هذه دعوة النبي.  

      وقد مُزِّق ملكه، وأيُّ ملكٍ يدعو النبي على ملكه سيمزّق، والإنسان يتجنَّب دعوة الصالحين، طبعاً دعوة الأنبياء، إذا دعا نبيٍ على إنسان فقد هلك، ودعوة الصالحين أيضاً مخيفة، فإذا دعا عليك إنسان صالح أردت أن تؤذيه، فأَعِدَّ لهذا العُدَّة، لأنَّك تحارب الله ورسوله.  

      أما كسرى فقد كتب إلى باذان نائبه على اليمن: ((أن ابعث إلى هذا الرجل، الذي ظهر بالحجاز، رجلين جَلْدين من عندك، ومُرهما أن يأتياني به.  

      فبعث باذان رجلين من خيرة رجاله إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وحمَّلهما رسالةً له، يأمره فيها بأن ينصرف معهما إلى لقاء كِسرى، دون إبطاء، وطلب إلى الرجلين أن يقفا على خبر النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، وأن يستقصيا أمره، وأن يأتياه بما يقفان عليه من معلومات.  

      فخرج الرجلان يُغِذَّان السير، حتى بلغا الطائف، فوجدا رجالاً من تجَّار قريش، فسألاهم عن محمَّدٍ عليه الصلاة والسلام، فقالوا: هو في يثرب، ثم مضى التجَّار إلى مكة، فرحين مستبشرين، وجعلوا يهنِّئون قريشاً، أنْ قَرّوا عيناً، فإنّ كسرى تصدَّى لمحمَّد، وكفاكم شرَّه.  

      الكفار دائماً يتفاءلون بأحلامٍ مضحكة، فمنهم مَن يحلم بأن الله عزَّ وجلَّ  أنه سينهي هذا الدين، ويبيد أهله، فالآن يقول لك: لن تقوم للإسلام قائمةٌ بعد اليوم، وما علِم أنّ الإسلام شامخٌ كالطود، ولن تقوم في المستقبل قائمةٌ لأعدائه، وهذه هي الحقيقة.  

      أما الرجلان، فَيَمَّمَا وجهيهما شطر المدينة، حتى إذا بلغاها لقيا النبي عليه الصلاة والسلام، ودفعا إليه رسالة باذان، وقالا له: إن ملك الملوك كسرى كتب إلى ملكنا باذان، أن يبعث إليك من يأتيه بك، وقد أتيناك لتنطلق معنا إليه، فإن أجبتنا، كلَّمنا كسرى بما ينفعك، ويكفُّ أذاه عنك، وإن أبيت، فهو مَن قد علمت سطوته وبطشه وقدرته على إهلاكك، وإهلاك قومك، لم يغضب النبي، بل   

      تبسَّم عليه الصلاة والسلام، وقال لهما: ارجعا إلى رحالكما اليوم، وائتيا غداً.  

      فلما غدوا على النبي صلَّى الله عليه وسلَّم في اليوم التالي،   

      قالا له: هل أعددتَ نفسك للمُضِيِّ معنا إلى لقاء كسرى؟   

       فقال لهما النبي عليه الصلاة والسلام: لن تلقيا كسرى بعد اليوم، فلقد قتله الله، حيث سلَّط عليه ابنه شيرويه في ليلة كذا من شهر كذا وقتَله،   

      إنه خبرُ الوحي،   

      فحدَّقا في وجه النبي، وبدت الدهشة على وجهيهما،   

       وقالا: أتدري ما تقول! أنكتب بذلك لباذان؟   

      قال: نعم،   

       وقولا له: إن ديني سيبلغ ما وصل إليه ملك كسرى، وإنَّك إن أسلمتَ، أعطيتكَ ما تحت يديك، وملَّكتكَ على قومك.  

      خرج الرجلان من عند رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وقدما على باذان، وأخبراه الخبر،   

      فقال لهما: لئن كان ما قال محمّدٌ حقاً فهو نبيّ،   

      لم يكن وقتها أقمار صناعية، أو محطات بث مباشر، أو محطات وكالات أنباء عالمية، الخبر ينتقل خلال دقائق في العالم، لم يكن لها وجود، الخبر حتى ينتقل يحتاج لأشهر-.  

      فلم يلبث أن قدم على باذان كتابٌ من شيرويه، وفيه يقول: أما بعد فقد قتلت كسرى، ولم أقتله إلا انتقاماً لقومنا، فقد استحلَّ قتلَ أشرافهم، وسبيَ نسائهم، وانتهابَ أموالهم، فإذا جاءك كتابي هذا فخذ لي الطاعة ممّن عندك.  

      فما إن قرأ باذان كتاب شيرويه، حتى طرحه جانباً، وأعلن دخوله في الإسلام، وأسلم من كان معه من الفرس في بلاد اليمن، قال تعالى: ( إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً )(وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ)  

قصته مع قيصر ملك الروم:  

      أيها الأخوة، لقد كان لقاؤه لقيصر عظيم الروم، في خلافة عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، وكانت له معه قصَّة، من روائع القصص.  

      ففي السنة التاسعة عشرة للهجرة، بعث عمر بن الخطاب جيشاً لحرب الروم، فيهم عبد الله بن حذافة السهمي، وكان قيصر عظيم الروم قد تناهت إليه أخبار جند المسلمين، وما يتحلَّون به من صدق الإيمان، ورسوخ العقيدة، واسترخاص النفس في سبيل الله ورسوله، فأمَرَ رجاله إن ظفروا بأسيرٍ من أسرى المسلمين أن يبقوا عليه، وأن يأتوه به حياً، وشاء الله أن يقع عبد الله بن حذافة السهمي أسيراً في أيدي الروم، فحملوه إلى مليكهم،  

      وقالوا: إنَّ هذا من أصحاب محمد السابقين إلى دينه، قد وقع أسيراً في أيدينا، فأتيناك به.  

      نظر ملك الروم إلى عبد الله بن حذافة طويلاً، ثم بادره قائلاً: إني أعرض عليك أمراً،   

قال: وما هو؟   

      قال: أعرض عليك أن تتنصَّر، فإنْ فعلتَ خلَّيت سبيلك، وأكرمت مثواك،   

فقال الأسير في أنفةٍ وحزم: هيهات، إن الموت لأحبُّ إليَّ ألف مرة ممّا تدعوني إليه.  

      قال قيصر: إني لأراك رجلاً شهماً، فإن أجبتني إلى ما أعرضه عليك، أشركتك في أمري، وقاسمتك سلطاني.  

      فخلاصة قضية قيصر أنّ سمعةَ أصحاب رسول الله ملأت الآفاق، أشخاص أشدَّاء، أقوياء، متعففون، إيمانهم قوي، الدنيا عندهم صغيرة، فلهم سمعة كبيرة، وهو أراد أن يرى من هم هؤلاء؟ فأخذَ يعرض عليه كلَّ إغراءٍ.  

       فتبسَّم الأسير المكبَّل بقيوده، وقال: واللهِ لو أعطيتني جميع ما تملك، وجميع ما ملكته العرب على أن أرجع عن دين محمدٍ طرفة عينٍ ما فعلت.  

      أقتلك،   

       قال: أنت وما تريد،   

      ثم أمر به فصُلِب، وقال لقنَّاصته بالرومية: ارموه قريباً من يديه، وهو يعرض عليه التنصُّر فأبى، قال: ارموه قريباً من رجليه، وهو يعرض عليه التنصُّر فأبى.  

      عند ذلك أمرهم أن يكفّوا عنه، وطلب إليهم أن ينزلوه عن خشبة الصلب، ثم دعا بقدرٍ عظيمة، فصُبَّ فيها الزيت، ورُفعت عن النار حتى غلت، ثم دعا بأسيرين من أسارى المسلمين، فأمر بأحدهما أن يُلقى فيها فأُلقي، فإذا لحمه يتفتت، وإن عظامه لتبدو عارية بعد إلقاه، ثم التفت إلى عبد الله، ودعاه إلى النصرانية، فكان أشدَّ إباءً من قبل.  

      فلما يئس منه، أمر به أن يُلقى في القدر التي أُلقي فيها صاحباه، فلما ذُهِب به دمعت عيناه، فقال رجال قيصر لملكهم: يا سيِّدي إنه قد بكى، فظَنَّ أنه قد جزع، فقال: ردّوه إلي، فلما مثُل بين يديه، عرض عليه النصرانية فأباها،   

      قال: ويحك فما الذي أبكاك إذًا، ألم تكن خائفاً؟   

       قال: واللهِ ما أبكاني إلا أني قلت في نفسي: تُلْقى الآن في هذه القدر، فتذهب نفسك، وقد كنت أشتهي أن يكون لي بعدد ما في جسدي من شعرٍ أنفُسٌ، فتُلقى كلُّها في هذه القدر في سبيل الله،   

      فقال الطاغية: هل لك أن تقبِّل رأسي وأُخلِّي عنك؟   

فقال له عبد الله: وهل تُخلّي عن جميع أُسارى المسلمين؟   

      فقال الطاغية: وعن جميع أسارى المسلمين أيضاً،   

قال عبد الله: فقلت في نفسي: عدوٌ من أعداء الله، أُقبِّل رأسه، فيُخلّي عني وعن أُسارى المسلمين جميعاً، لا ضيرَ في ذلك، ثم دنا منه، وقبَّل رأسه،   

      فأمر ملك الروم، أن يجمعوا له أسارى المسلمين، وأن يدفعوهم إليه، فدُفِعوا له، وانطلق بهم إلى المدينة.  

       قدم عبد الله بن حذافة على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأخبره خبره، فسُرَّ به الفاروق أعظم السرور، ولما نظر إلى الأسرى، قال: حقٌ على كل مسلمٍ أن يقبِّل رأس عبد الله بن حذافة، وأنا أبدأ بذلك، ثم قام وقبَّل رأسه.  

الله في كل زمان ومكان:  

      يجب أن تعلموا أيها الأخوة، أن الله سبحانه وتعالى، لا يُضيع أجر من أحسن عملا، اسمعوا هذه الكلمة:  

       واللهِ الذي لا إله إلا هو لزوال الكون أهْوَنُ على الله مِن أنْ يضيَّع عمل مؤمن  

      بل عملك كلُّه محفوظ، تضحيتك، غض بصرك، إنفاق مالك، قيام الليل، صلاة الفجر، دعوتك إلى الله، نصحك لأخوانك، أمرك بالمعروف، نهيك عن المنكر، تحمُّلكَ المشاق، سهرك في سبيل الله، قال تعالى: ( وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ)  

      أبداً، فإذا آمنت هذا الإيمان تجد نفسك منطلقاً إلى خدمة الخلق، وإلى بذل الغالي والرخيص، والنفس والنفيس، فترى أن الأعمال الصالحة مغنمٌ كبيرٌ، وترى أن إنفاق المال مغنم كبير، فالذي يرى أن إنفاق المال مغرمٌ فهو لا يعرف الله، والذي يرى أن الراحة مغنم، وبذل الجهد مغرم، فلا يعرف الله، إلى أن ترى أن عملك الصالح في سبيل الله، وهو الذي يرقى بك، وعندئذٍ يمكن أن تكون من المؤمنين.  

      أيها الأخوة الأكارم، الإنسان إذا قرأ سير الصالحين، إذا قرأ سير أصحاب رسول الله رضوان الله عليهم أجمعين، إذا قرأ عن ورعهم، قرأ عن جهادهم، قرأ عن تضحياتهم، قرأ عن حبهم، عن شوقهم إلى الله عزَّ وجل، عن التزامهم، فربنا واحد، فليس لنا عذر إن لم نبذل، والله موجود، وثوابُه يفيض والله عزَّ وجل هو هو، والأعمال الصالحة متاحة لكل إنسان، في أي زمانٍ، وفي أي مكان.  

      إذا جئت في أيِّ عصر، فمِنَ الممكن أن تطلب العلم، وأنْ تنفق مالك، وأنْ تعلِّم، وأنْ تلتزم التزامًا قويًّا، فيجب أن نعلم علم اليقين، أن أبواب الجنة مفتحةٌ في كل عصر، وفرص البطولة متاحةٌ لكل مؤمن، والله سبحانه وتعالى هو هو، في أي زمانٍ وفي أي مكان، لكن أعظم شيء أن يعملَ الإنسان عملاً خالصًا لله وحده.  



المصدر: السيرة - رجال حول الرسول - الدرس (38-50) : سيدنا عبد الله بن حذافة السهمي