لمحة قصيرة عن سيرة الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود :
أيها الأخوة، سيّدنا عبد الله بن مسْعود كانَ ماهِراً في القرآن، والقرآن موجود بين أيدينا ، وبِإمْكانك أنْ تكون ماهِراً فيه، وأن تَحْفَظه، وأن تفْهمه، وأنْ تعمل به، وأن تقطِفَ ثِماره، فهذه المُقَدِّمة مُهِمَّة، نحن على أبواب البُطولة، فإما أنْ نُقْدم، وإما أنْ نُحْجِم، وإما أن نُبادر، وإما أن نتردّد.
هذا الصحابيُّ الجليل يُكْنى أبا عبد الرحمن، وأُمُّهُ أُمُّ عبْد، أسْلم قبل دُخول النبي عليه الصلاة والسلام دارَ الأرقم، أيْ أسْلم في وقْتٍ مُبَكِّر، وقال: كُنْتُ سادس المُسْلمين، أيْ سادِسَ من أسْلم من المُسلمين، وهاجر إلى الحبشة الهِجْرَتين، وشهِد بدْراً والمشاهد كُلَّها، وكان صاحب سرِّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وصاحِبَ وِسادته وسِواكِهِ وطُهوره في سفره، وكان يُشْبه النبي عليه الصلاة والسلام في هَدْيِه وسَمْتِه، وكان خفيف اللحم، قصيراً، شديدَ الأَدَمَة، وكان من أجْود الناس ثَوْباً، ومن أطْيَبِ الناس ريحاً، وُلِيَّ قضاء الكوفة وبَيْتَ المال لعُمَر، وصدْراً من خلافة عُثمان، ثمّ صار إلى المدينة فَماتَ بها سنة اثْنَتَيْن وثلاثين، ودُفِنَ بِالبقيع وهو ابنُ بِضْعٍ وسِتين.
ابن مسعود قبل إسلامه :
عن عبد الله بن مسْعود صاحب الترجمة رضي الله عنه، قال:
كُنْتُ غُلاماً يافِعاً أرْعى غَنَماً لِعُقْبَةَ بن أبي مُعيط، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكرٍ، وقد نفرَا من المُشْركين، فقال : يا غُلام هل عندك من لَبَنٍ فَتَسْقِيَنا؟ قُلتُ: إني مُؤْتَمَنٌ، ولَسْتُ أسْقيكُما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل عندك من جَذْعَةٍ لم ينْزُ عليها الفحل؟ (أيْ غَنَمة ليس فيها لبن) قلتُ: نعم فأتَيْتُهما بها، فاعْتَنَقَها النبي صلى الله عليه وسلم، ومسح الضرع، ودعا فَحَفَل الضَّرْعُ، - وهذا من مُعْجِزات النبي صلى الله عليه وسلم- ثمّ أتاهُ أبو بكرٍ بِإناءٍ فاحْتَلَبَ بها، فَشَرِبَ أبو بكْرٍ، ثمّ شَرِبْتُ
اسْتِنْباط: أنّ هذا الصحابيّ الجليل وهو غُلامٌ يافِع أدْرك بِفِطْرَتِه أنّ هناك شيءٌ يجوز، وهناك شيءٌ لا يجوز، وهذا يُؤكِّدُ قوْل النبي صلى الله عليه وسلم: خِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقُهُوا
فما من أخٍ مؤمن إلا وله مواقف أخْلاقِيَّة في جاهِلِيَّتِه قبل أنْ يتوب إلى الله، وهذا هو معنى قوْل النبي صلى الله عليه وسلم: تَجِدُونَ النَّاسَ مَعَادِنَ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقِهُوا، وَتَجِدُونَ خَيْرَ النَّاسِ فِي هَذَا الشَّأْنِ أَشَدَّهُمْ لَهُ كَرَاهِيَةً، وَتَجِدُونَ شَرَّ النَّاسِ ذَا الْوَجْهَيْنِ الَّذِي يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ وَيَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ
ما قيل في ابن مسعود :
وعن أبي موسى الأشْعري، قال: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أرى إلا ابن مسْعودٍ من أهْله.
أنا أُقْسِمُ لكم بالله أنَّ بين الأخوة المؤمنين مِن المَحَبَّة والمَوَدَّة ورفْعِ الكُلْفة والثِّقة والطُّمأنينة والاسْتِسلام والانْدِماجِ أشَدُّ مما بين الأقارب، وأشَدُّ مما بين الأخ وأخيه، والعلاقة نَسَبِيَّة هذا قانون، وأنا في هذا الدرس إنْ شاء الله تعالى يَعْنيني أكثر ما يعْنيني اسْتِنْباط قواعد في الإيمان.
فكلَّما ازْداد إيمانُ أحدكم ازْدادَ حُبُّهُ لأخْوانه، وازْدادَتْ خِدْمته لهم، وازْداد تَعَلُّقُهُ بهم، وازْدادتْ شَفَقَتُهُ عليهم، وازْداد نُصْحُهُ لهم، يجب أنْ يكون المؤمنون كُتْلَةً واحدة وجسداً واحداً إذا اشْتكى منه عُضْوٌ تداعى له سائِرُ الجَسَد بالسَّهَر والحُمى.
رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أرى إلا ابن مسْعودٍ من أهْله
فمن أهْلُكَ؟ هم المؤمنون، وهذا معنى قولهم: رُبَّ أخٍ لك لم تلِدْهُ أُمُّكَ
استنبط من قَوْل النبي في حقِّ الجار:
إذا اسْتعانَ بك أَعَنْتَهُ، وإنْ اسْتَنْصَرَك نصَرْته، وإن اسْتَقْرَضَك أقْرَضْته، وإنْ أصابهُ خيرٌ هَنَّأْته، وإن أصابَتْهُ مُصيبَةٌ عَزَّيْتَهُ، ولا تَسْتَطِل عليه بالبناء فَتَحْجُبَ عنه الريح إلا بِإذْنه، وإذا اشْتَرَيْتَ فاكِهَةً فأهْدِ له منها، وإنْ لم تفْعل فأَدْخِلْها سِرًّا، ولا يخْرُجْ بها ولَدُكَ لِيَغيظَ ولَدَهُ، ولا تؤْذِهِ بِقُتارِ قِدْرِك إلا أنْ تَغْرِفَ له منها،
فإذا كان هذا حَقُّ الجار، وقد يكون الجار ليس مُسْلِماً، فَكَيْفَ بحقِّ المؤمن؟! وكيف بِحَقِّ الأخ في الله؟ لِذلك علامة قَبول ما عند الله مَحَبَّتُنا، وتواضُعُنا، وتضْحِيَتُنا، وإيثارُنا، وذْلُنا، وتواصُلُنا، وتناصُحُنا.
عن القاسم بن عبد الرحمن، قال: كانَ عبدُ الله يُلْبِسُ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم نَعْلَيْه، ثمّ يمْشي أمامه بِالعصا، حتى إذا أتى مجْلِسَهُ نزعَ نعْلَيْه، فأدْخَلَهما في ذِراعَيْه، وأعْطاه العصا، فإذا أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يقوم ألْبَسَهُ نعْلَيْه، ثمّ مشى بِالعَصا أمامه، حتى يدْخُل الحُجْرة قبل النبي
قال تميمُ بن حَذْلَم: جالَسْتُ أصْحاب النبي صلى الله عليه وسلَّم، وما رأيْتُ أحداً أزْهَدَ في الدنيا، ولا أرْغَبَ في الآخرة، ولا أحَبَّ إليَّ أنْ أكون فيه مِن والِهٍ منك يا عبد الله بن مسْعود ،
جالَسْتُ أصْحاب رسول الله صلى الله عليه وسلَّم فَوَجَدْتُهُم كالإيخاذ، والإيخاذ يرْوي الرَّجُل والرَّجُلَيْن والإيخاذ يَرْوي المئة، والإيخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصْدرهم ؛ فَوَجَدْتُ عبد الله من ذلك الإيخاذ
فهناك مُجَمَّعُ ماءٍ يرْوي شَخْصاً واحداً، وهناك مُجمَّع يرْوي المئة، وجمّع آخر يروي ألفًا، ومجمع لو جاء أهل الأرض كلهم لارْتَوَوا منه، فابن مسْعودٍ من النوع الأخير.
قرب ابن مسعود من رسول الله؟
سيّدنا ابن مسْعود كان أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فكان يوقِظُهُ صلى الله عليه وسلّم إذا نام، ويسْتُرُهُ إذا اغْتَسَل، ويمْشي معه في الأرض وحْشاً، أيْ مُنْفَرِداً، كان صاحب الوِساد والسِّواك والنَّعْلين، يا عبد الله أين السِّواك؟ تجِدُهُ مُلَبِّيًا.
وعن عبد الله بن زيدٍ، قال: أَتَيْنا حُذَيْفة، فقُلْنا له: حدِّثْنا بِأقْرب الناس لِرَسول الله هَدْياً وسَمْتاً؛ لِنَأخذ عنه ونسْتَمِعَ عنه، فقال عبد الله بن زيدٍ: كان أقرب الناس لِرسول الله صلى الله عليه وسلم هدْياً وسمْتاً عبد الله بن مسْعودٍ
أيها الأخوة، نحن كَمُؤْمنين لنا المثَلُ الأعلى وهو رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فالمؤمن العَنيف والقاسي الذي لا يَتَحَمَّل، يضْرب ويَسُبُّ، فهو إذًا ليس مُقْتَدِياً بِرَسول الله صلى الله عليه وسلَّم، نحن إذا أخَذْنا السيرة، وقرأْناها إنما للاقْتِداء به صلى الله عليه وسلَّم، والاسْتِفادة منه.
المرتبة الإيمانية التي حازها ابن مسعود من رسول الله :
فاسمعوا ثناءَ النبي عليه الصلاة والسلام على عبْد الله بن مسْعود، عَنْ عَلْقَمَةَ، قَالَ:
جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ بِعَرَفَةَ، فَقَالَ: جِئْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْكُوفَةِ، وَتَرَكْتُ بِهَا رَجُلًا يُمْلِي الْمَصَاحِفَ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِهِ فَغَضِبَ وَانْتَفَخَ حَتَّى كَادَ يَمْلَأُ مَا بَيْنَ شُعْبَتَيْ الرَّحْلِ، فَقَالَ: وَمَنْ هُوَ وَيْحَكَ؟ قَالَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فَمَا زَالَ ينطفئ وَيُسَرَّى عَنْهُ الْغَضَبُ حَتَّى عَادَ إِلَى حَالِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ: وَيْحَكَ! وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُهُ بَقِيَ مِنْ النَّاسِ أَحَدٌ هُوَ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْهُ، وَسَأُحَدِّثُكَ عَنْ ذَلِكَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَزَالُ يَسْمُرُ، (أي يسهر)، عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اللَّيْلَةَ كَذَاكَ فِي الْأَمْرِ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّهُ سَمَرَ عِنْدَهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَأَنَا مَعَهُ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَرَجْنَا مَعَهُ، فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَمِعُ قِرَاءَتَهُ فَلَمَّا كِدْنَا أَنْ نَعْرِفَهُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَطْبًا كَمَا أُنْزِلَ فَلْيَقْرَأْهُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ؟ قَالَ: ثُمَّ جَلَسَ الرَّجُلُ يَدْعُو فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ لَهُ: سَلْ تُعْطَهْ، سَلْ تُعْطَهْ،
قَالَ عُمـَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قُلْتُ: وَاللَّهِ لَأَغْدُوَنَّ إِلَيْهِ فَلَأُبَشِّرَنَّهُ، قَالَ: فَغَدَوْتُ إِلَيْهِ لِأُبَشِّرَهُ فَوَجَدْتُ أَبَا بَكْرٍ قَدْ سَبَقَنِي إِلَيْهِ فَبَشَّرَهُ، وَلَا وَاللَّهِ مَا سَبَقْتُهُ إِلَى خَيْرٍ قَطُّ إِلَّا وَسَبَقَنِي إِلَيْهِ
لقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يسْتمع إلى قِراءَتِهِ، ويطْرب لها، مع أنَّ القرآن أُنْزِل عليه، وبالمناسبة أقول لكم: كلما ارتقى حالك طربْتَ لقراءة القرآن، وكلكم يعلم هذه الحقيقة، فأحيانا تقرأ القرآن فلا تجد طلاقة، ولا تجد انسيابا وطربا وشوقا وترنُّما، أحيانا تقرأ القرآن تطرب أنت لصوتك، وقد يكون صوتك عاديا،
فالمؤمن إذا كان صافي القلب، وإذا كان له عملٌ طيِّبٌ، له قراءة شجيّة يطرب لها هو قبل غيره، فقرّاء القرآن لهم ساعات صفاءٍ، و ساعات تحليق وتجل، فالساعات النادرة عند قراء القرآن يكون فيها تجلٍّ من الله عز وجل، فقال عمر: والله لأغدوَنّ عليه فلأبشِّرنه، قال: فغدوت عليه فبشّرته، فإذا أبو بكر قد سبقني إليه فبشّره،
كم هم يحبون بعضهم بعضا؟
فعَنْ أُمِّ مُوسَى، قَالَتْ: سَمِعْتُ عَلِيًّا رَضِي اللَّه عَنْهُ، يَقُولُ:
أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَ مَسْعُودٍ فَصَعِدَ عَلَى شَجَرَةٍ أَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ مِنْهَا بِشَيْءٍ فَنَظَرَ أَصْحَابُهُ إِلَى سَاقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ حِينَ صَعِدَ الشَّجَرَةَ فَضَحِكُوا مِنْ حُمُوشَةِ سَاقَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا تَضْحَكُونَ لرجل عَبْدِ اللَّهِ أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ أُحُدٍ
شهادتا عمر وعلي لابن مسعود بالعلم :
فسيّدنا عُمَر أيها الأخوة، خرج من المدينة لِيَسْتَقْبِلَ بِلالاً، وكان أصْحابُ النبي صلى الله عليه وسلَّم عليهم رِضْوان الله إذا ذكروا بِلالاً، أو إذا ذكروا الصَّديق، قالوا: هو سيّدُنا وأعْتَقَ سيِّدَنا، أبي بكر: هو سيّدُنا وأعْتَقَ سيِّدَنا، أيْ بلالاً،
فسيِّدُنا عمر كان جالِساً، فَجاء ابن مسْعود فقال رضي الله عنه: إنَّهُ رجُلٌ ملئ عِلْماً
أذكرُ مرةً كُنت أوَدُّ أنْ أُسافر إلى بلدٍ، فكان لي قريبٌ قد سافر إلى البلد الذي أقصده بِسَيارَتِهِ الشَّخْصِيَّة، فَعَرَضَ عليَّ، فَقُلْتُ: لا مانع من صحبتك، فَرَكِبَ بجانبه صديق له من كِبار التُّجار، لكنَّهُ من الجَهْل بِمَكانٍ كبير، فأنا رَكِبْتُ واسْتَمَعْتُ طوال الطريق إلى حديثهما؛ حينما وَصَلْنا إلى البَلْد الذي نقصده بعد خمْس ساعات، تَمَنَّيْتُ أنْ آكلَ خُبزاً يابِساً طوال حياتي، ولا أكون بِهذا الجَهْل الذي يتمتَّعُ به هذا الغَنيّ! سُخْف على ضيق أُفُقٍ، وعلى أنانِيَّة، وعلى جَهْلٍ مُطْبِق، لكِنَّهُ غنِيٌّ.
فاعلموا أنّ رتبة العلم أعلى الرُّتب،
لقِيَ سيّدنا عمر ركْباً في سفَرٍ له فيهم عبد الله بن مسْعود، فأمَرَ عمرُ رجُلاً يُنادِيهم، من أين القَوْم؟ فأجابه عبد الله: أقْبَلْنا من الفجِّ العميق، فقال عمر: وأين تُريدون؟ قال عبد الله: البيتَ العتيق، قال عمر: إنَّ فيهم عالِماً من كلّ فجٍّ عميق أرادوا البيتَ العتيق، وأمر الرجل فناداهم، وقال له: سَلْهُم أيُّ القرآن أعْظم؟ فأجابه عبد الله: الله لا إله إلا هو الحيّ القيوم، ثمّ ناداهم: أيُّ القرآن أحْكم؟ قال: إنّ الله يأمر بالعَدْل والإحْسان، فناداهم: أيُّ القرآن أجْمع؟ قال: فَمن يعْمل مثقال ذرةٍ خيراً يره، ومن يعْمل مثقال ذرّةٍ شراً يره، قال: نادِهِم، أيُّ القرآن أخْوَف: ليس بِأَمانِيِّكم ولا أمانِيِّ أهْل الكِتاب من يعمل سوءًا يُجْزَ به، قال عمر: نادِهـِم، أيُّ القرآن أرْجى؟ قال ابن مسْعود : يا عِبادِيَ الذين أسْرفوا على أنْفسهم لا تقْنطوا من رحمة الله، فقال عمر: نادِهِم، أفيكم ابن مسْعودٍ؟ قالوا: نعم.
فالذي اسْتَوْعَبَ القرآن كلَّه، إنّه لعالِم، فالماهر بالقرآن مع النبيّين والصِّديقين يوم القِيامة.
سئِلَ عليٌّ كرَّم الله وجْهه عن أصْحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقال:
عن أيِّهم تسْألون؟ فقالوا: أخْبِرنا عن سيّدنا عبد الله بن مسْعود، فقال سيّدنا عليّ: علم القرآن وعلم السنَّة ثم انتهى، وكفى به عِلْماً
إذا الإنسان درس القرآن وتعلَّمَهُ، ففيه كلُّ شيءٍ وهو كلامُ خالق الكَوْن، وهو الكِتاب المُقَرَّر، وحبْل الله المتين، والنور المُبين، والصِّراط المُسْتقيم.
حينما مات هذا الصحابيّ الجليل، كان الصحابة يسْألون: أترك مثلهُ؟ وكان الجواب: لا،
فسيّدنا أبو موسى الأشْعري، قال: لا تسألوني عن شيءٍ مادام هذا الحَبر فيكم
فإذا سُئِلَ الإنسانُ وكان من هو أعلمُ منه فالأدَبُ ألاَّ يجيب، أحْياناً يكون في الجلسة طبيب، ويسأل مريض سؤالاً، فإذا بك تجد من يجيب والطبيب أمامه، اِحْتَرم الطبيب، فأنت لا شيءَ أمامه، أحْياناً السؤال شرْعي وتجد من يتجرَّأُ ويجيب، هذا سوء أدب، والمفْروض إذا وُجِد من هو أعلم منك، تقول: سلْ فُلاناً، لذلك سيّدنا أبو موسى الأشْعري، قال: لا تسألوني عن شيءٍ مادام هذا الحَبر فيكم
يُسْتَنْبَط من هذا الكلام أنّ أصْحاب النبي كان يعْرف أحدهم حقَّ الآخر، والمؤمنون يتعاوَنون، ولا يتنافَسون، ولا يتحاسدون، ولا يتباغَضون.
وعن شقيقٍ، قال: كنت قاعِداً مع حُذَيْفَة، فأَقْبل ابن مسْعودٍ: فقال حُذَيْفَة:
إنَّ أشْبه الناسِ هَدْياً برسول الله صلى الله عليه وسلّم من حين يخْرجُ من بيْتِهِ إلى أنْ يرْجِع، ولا أدري ما يصْنع في أهْله لَهُوَ عبد الله بن مسْعودٍ؛ ووالله لقد عَلِمَ المَحْظوظون من أصْحاب مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلّم أنّ من أقْربهم إلى الله تعالى وسيلَةً يومَ القِيامة هو عبد الله بن مسْعودٍ
ماذا يقول ابن مسعود عن نفسه؟
يقول سيّدنا عبد الله بن مسْعودٍ عن نفْسه: والله الذي لا إله إلا هو، ما نزلَتْ آيَةٌ في كِتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلَتْ، وفيمَا نزَلَتْ، ولو أعلم أنَّ أحداً أعلم بِكِتاب الله منِّي تنالُهُ المَطِيُّ لأتَيْتُهُ
هذا هو المؤمن، إما أنْ تعرف، وإما أنْ تتعلم على من يعرف، وإياكَ أنْ تتكَبَّر، أما ألاّ يتعلَّم يدَّعي المعْرفة فهذا شيْطان،
ومن الناس من يدْري ويدْري أنَّهُ يدْري فهذا عالمٌ فاتَّبِعوه، ومنهم من يدْري ولا يدْري أنه يدْري فهذا غافِلٌ فنَبِّهوه، ومنهم مَن لا يدْري ويدْري أنه لا يدْري فهذا جاهِلٌ فَعَلِّموه، ولكنْ أخْطر واحد أنَّ منهم مَن لا يدْري ولا يدْري أنَّهُ لا يدْري فهذا شيْطانٌ فاحْذَروه، وهذا نِصْف العالِمِ، وهو خطيرٌ، لا هُوَ عالمٌ فيَنْتَفِعُ بِعِلْمِهِ، ولا هو جاهِلٌ فَيَتَعَلَّم.
عنايته بصحته حتى لا يضيع حق الله عليه:
قال عبد الله بن يزيد: ما رأيْتُ فقيهاً قطّ أقَلَّ صَوْماً من ابن مسْعودٍ، فقيلَ له: لمَ لا تصوم، فقال: إني أخْتار الصلاة على الصوم، فإذا صِمْتُ ضَعُفْتُ عن الصلاة
فَكُلّ شخْصٍ له مزاجُهُ، أحْياناً تجد شخْصاً يتوافق مزاجُهُ مع الصِّيام، وبِالمُقابل تجد أنَّ الآخر إذا صامَ تعَطَّل عن كُلّ أعْماله وتُجَمَّدُ، ولا يسْتطيع أنْ يفْعل شيئاً، فَسَيِّدُنا ابن مسْعودٍ كانَ واقِعِياً: إني أخْتار الصلاة على الصوم، فإذا صِمْتُ ضَعُفْتُ عن الصلاة، يبْدو أنَّ تِلاوَتَهُ وقِراءَتَهُ وصلاته وعمله الصالح لا ينْشط لها إلا وهو في الإفْطار، لذلك كان أصْحاب رسول الله صلى الله عليه وسلَّم في سَفَرٍ، بعضُهُم صام وبعضهم الآخر أفْطر، وأجْمَلُ شيءٍ في هَذه الرِّواية، قال: إنَّ الذين صاموا لم يأخُذوا على الذين لم يصوموا، والذين لم يصوموا لم يأخذوا على الذين صاموا، أما الآن إذا صام أحدُهُم عاشوراء، كلما الْتقى بِشَخْصٍ، يقول له: ألَسْتَ صائِماً اليوم؟ ألَسْتَ كذا وكذا؟ يُشْهِّر نفسه في هذا اليوم، ويرى أنَّ من لم يَصُمْهُ كأنَّهُ قد ارْتكب جريمة، وهناك أشْخاص ألَمَّ بهم المرض، وآخرون مُتْعَبون، وذاك معه قَرْحَة في المِعدة، فَكُلُّ واحدٍ له وضْعُهُ الخاص، فلا تتَدَخَّل، أنت عليك الفرائِض، فإذا وَجَدْته في رِمَضان مُفْطِراً فعليك أنْ تُؤاخِذَهُ، أما فيما عداه فَكُلُّ جِسْمٍ له مزاج ووضْع، هناك أعْمالٌ شاقَّة، اُنْظر إلى سيّدنا عبد الله بن مسْعود، قال: إني أخْتار الصلاة على الصوم، فإذا صِمْتُ ضَعُفْتُ عن الصلاة.
سؤال وجه إلى ابن مسعود :
مرَّ أحد الصحابة بِسَيِّدِنا عبد الله بن مسْعودٍ بِسَحَرٍ، وهو يقول: اللهمّ دَعَوْتني فَأَجَبْتك، وأَمَرْتني فَأَطَعْتُك، وهذا سَحَرٌ فاغْفِرْ لي
ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام: يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟
وهذه نصيحَتي لكم جميعاً، إذا ضاقَتْ الأُمور، وتريد من الله عطاءً أو فَرَجًا، وكانت الأمور مُعَسَّرة، فعليك ثُلُثُ الليل الأخير: يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟
قال ذلك الصحابيُّ الذي سمع ابنَ مسعود يدعو سحَرًا:
فلما أصْبَحْتُ غَدَوْتُ عليه وسألته، فقال: إنَّ يعْقوب لما قال لِبَنيهِ سوف أسْتَغْفِرُ لكم أخَّرَهُم إلى السَّحَر
اُنْظر إلى الفَهْم الدقيق
سيّدنا يعْقوب، قال: سوف أسْتغْفر لكم ربي، ولماذا لم يقُل: سوفَ أسْتغفر لكم الآن؟ قال: لأنَّهُ يعْلم أنَّ وقْتَ السَّحر وَقْتَ إِجابة
ولذلك دعا ابن مسعود في السَّحَر، قائلاً: اللهمّ دَعَوْتني فَأَجَبْتك، وأَمَرْتني فَأَطَعْتُك، وهذا سَحَرٌ فاغْفِرْ لي