من هو العظيم عند الله ؟
أصحاب النبي عليهم رضوان الله بمجموعهم يمثلون كل النماذج البشرية، ففي كل مجتمع غنيٌّ وفقير، قويٌّ وضعيف، شابٌ وكهلٌ وشيخ، صحيح ومريض، ذو نسب عالٍ، وذو ضآلة في النسب، هذه الحظوظ التي وزَّعها الله يبن البشر موجودة في كل مجتمع
لذلك يجب أن نعلم أن الإنسان إذا عرف الله واتصل به، واصطبغ بصبغته ارتقى إلى مرتبة عالية، فإذا كان غنيًّا اشتهيْتَ الغنى عليه، وإذا كان فقيراً لا ترى الفقر ضيراً على مؤمن، وإذا كان صحيحاً جعل صحته في سبيل الله، وإذا كان مريضاً رأيتَ فيه الصبر والسلوان، وإن كان وجيهاً استخدم وجاهته في الحق، وإن كان خاملا استغنى برضاء الله عن الدنيا، الذي أريد أن أؤكِّده لكم أنه بأيِّ حال أنت، بأيِّ وضعٍ اجتماعيٍّ، بأيَّة قوة، بأيِّ ضعف، بأيِّ غنى، بأيِّ فقرٍ، بأيِّ وجاهة، وبأيِّ خمول، بأي وَسَامةٍ، وبأيِّ دمامة، فإذا عرفت الله عز وجل، و طبَّقتَ منهجه، واصطبغت بصبغته كنتَ إنساناً عظيما .
قد يظن الناس واهمين أن الغنى يتناقض مع الإيمان، من قال ذلك؟ يمكن أن تكون أغنى أغنياء الأرض، وفي أعلى درجات الإيمان والقبول عند الله عز وجل، يمكن أن تكون من أقوى الأقوياء وأنت مؤمن، لماذا حدثنا ربنا عز وجل عن ذي القرنين؟ كان ملكاً، ولا يتنافى الملكُ مع الإيمان، فقد تكون فقيراً وأنت عند الله عظيم .
في نفسي معنى أرجو الله أن يمكنني من التعبير عنه، لا تقل: أنا ابن فلان، لا تقل: أنا لي نسبٌ رفيع، أو لي نسب وضيع، لا تقل: أنا فقير، لا تقل: أنا شاب، كن ابن من شئتَ، في أيِّ حالٍ شئتَ، وفي أيِّ طور شئت، وفي أيِّ مستوى شئتَ، فإذا عرفتَ اللهَ، وعرفتَ منهجه، وطبَّقتَ شرعَه، وأقبلتَ عليه، واصطبغتَ بصبغته، فأنت عند الله عظيم .
قافلة عبد الرحمن بن عوف:
مرة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم سُمِع في المدينة ضجيجٌ، وتعالى غبارٌ في الأفق، فسألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وقد ترامى إلى سمعها أن قافلة عظيمة زاحفة إلى المدينة: ما هذا الذي يحدث في المدينة؟ فقالوا لها: يا أم المؤمنين، إنها قافلة لعبد الرحمن بن عوف، جاءت من الشام تحمل تجارة له، قالت أم المؤمنين: قافلة تحدث كل هذه الضجَّة! قالوا: أجل يا أم المؤمنين، إنها سبعمئة راحلة .
تصوَّر قافلةَ شاحناتٍ عددُها سبعُمئة تراها على الساحل، فستضيق نفسك بها، و في عدِّها، قافلة واحدة لهذا الصحابي الجليل، فهزَّت أم المؤمنين رأسها وأرسلت نظراتها الثاقبة بعيدا كأنها تبحث عن شيء، عن ذكرى مرَّت بها، أو عن حديث سمعته، ثم قالت: أمَا إني سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: رأيتُ عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوًا
يعني زحفاً، عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوًا! ولماذا لا يدخلها وثباً وجرياً وركضاً وخبباً؟ فإنّه من أصحاب رسول الله، وإنه من السابقين السابقين، من أصحاب رسول الله الذين شهدوا بدراً وأُحداً والخندق، وهاجروا إلى الحبشة مرتين، وكان ثامن مسلم دخل الإسلام، أسلم على يد سيدنا أبي بكر، وهذا الصحابي الجليل من العشرة المبشرين بالجنة، ويدخلها حبواً! لكن سمعتْ رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنبي عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى، إنْ هو إلاّ وحيٌ يُوحَى .
أيها الأخوة، سيدنا عبد الرحمن بن عوف نقل إليه بعض الصحابة نقلاً، نقل نصيحة لا نقل نميمة، وهناك فرق كبير بين أنْ تنقل الخبر شامتا، وبين أن تنقله ناصحاً، وبالمناسبة أعجبني أخٌ كريم رأى أمرًا منكراً، فقد رأى إنسانا يقدم على منكر في مكان يرأسه رجلٌ طيِّب، فقال له: إنْ فعلتَ هذا فسأبلِّغ فلاناً، فإذا استدعاك فلانٌ فأنا الذي بلَّغتُه، أنا أعجبني هذا الموقف .
مرَّة غلامٌ صغير سمع عمَّه، يقول: لو أن محمداً صادق فيما يقول فنحن شرٌّ من الحُمُرِ ، عهْدُهُ بعمِّه أنه مؤمن، فإذا به كافر، فقد قال له: هذه كلمة كفر، والله يا عمَّاه ما رجلٌ تحت قبَّة السماء بعد رسول الله، أحبُّ إليَّ منك، ولكنني سأبلِّغ رسول الله، هذه كلمة كفر لا مجاملة فيها، فإذا تجاملنا مجاملات بكلام غلط، أو بكلام فيه إساءة وتجاوز، فهذا مجتمع المنافقين، ولا نرقى بهذه الطريقة، ولكن مجتمع المؤمنين فيه غيرة شديدة، والقصة لها وقت آخر، وذكر هذا الغلامُ الخبرَ للنبي عليه الصلاة والسلام، واستدعاه النبي عليه الصلاة والسلام فأنكر، قال يا رسول الله: إن هذا غلامٌ كذَّاب، أأنا أقول هذا الكلام؟ فنزل الوحي مصدقا قول الغلام، فأمسك النبيُّ بأذن الغلام متحبِّبًا: لقد صدَّقك الله من فوق سبع سموات، وكانت توبة هذا المنافق على يد هذا الغلام،
فهؤلاء الذين أوصلوا هذا الكلام إلى سيِّدنا عبد الرحمن ليسوا نمامين، ولكنهم ناصحون، ونقل بعضُ أصحابه مقالة عائشة رضي الله عنها .
فتذكَّر قول النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من مرَّة، وأكثر من صيغة، وقبل أن تُفَضَّ مغاليق الأحمال حثَّ خطاه إلى بيت عائشة، وقال لها: لقد ذكَّرتِني بحديث لم أنسه، ثم قال: أما إني أُشهدكِ أن هذه القافلة كلها بأحمالها وأقتابها وأحلاسها في سبيل الله، ثم قال:
والله لأَدْخُلَنَّها خَبَباً ليس حَبْواً .
كيف نوحد القول بين ما ورد في حديث رسول الله وقول عبد الرحمن بن عوف ؟
هناك مُشْكِلة، وهي أنَّ أُمَّنا عائِشَة تسْمع من النبي عليه الصلاة والسلام - وهو الذي لا ينْطق عن الهَوى- أنّ سيّدنا عبد الرحمن بن عوْف سيَدْخُل الجنَّة حَبْواً، أيُعقَل أنْ يقول عبد الرحمن مُتَحَدِّيًّا قولَ النبي عليه الصلاة والسلام: والله لأَدْخُلَنَّها خَببًا؟
حُلَّتْ هذه المُشْكِلة بِهذا الحديث الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلَّم لِسَيِّدنا بن عوف: يا ابن عَوْفِ إنك من الأغْنِياء، وإنَّك سَتَدْخُل الجنَّة حَبْواً، فأَقْرِض الله يُطْلِقُ لك قَدَمَيْك
أعْطاهُ الحل، إنْ لم تُنْفِق بِسَخاء تدْخُلُها حَبْواً، فإذا أَقْرَضْتَ الله عز وجل أطْلَقَ الله قَدَمَيْكَ فَدَخَلْتها خَبَباً وجَرْياً، القَضِيَّة حُلَّت، إذْ إنَّ الحلَّ معه، والنبي الكريم صلى الله عليه وسلّم ما أراد أنْ يُثَبِّطه، وما أراد أنْ يجعله يَيْأس، قال له: إنك غنِيّ، والأغْنِياءُ عادَةً تشْغَلُهُم أمْوالهم، وتَنْمِيَةُ أمْوالهم واسْتِثْمارها، والمال الوفير يحْتاج إلى وسائل رفاه، وهذه الوسائل تشْغَلُ صاحبَ المال عن ذِكْر الله، قال تعالى: ( كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى * إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى)
فالنبي لم يقصد عبد الرحمن بالذات، إنما قال: إنك غنيّ، والأغنياءُ عادَةً مشْغولون بأمْوالهم، فإذا آمنوا واسْتقاموا دَخَلوا الجنَّة حَبْواً، أَقْرِض الله يُطْلق لك قَدَمَيْك، فهو يعْرف الطريق ، ولما قال: سبعُمئة راحِلَة في سبيل الله، والله لأدْخُلَنَّها خَبباً، فالنبي صلى الله عليه وسلّم ما أراد أنْ يُثَبِّطه، ويجعل مصيرَه مصيراً محْتوماً،
المال وسيلة عند ابن عوف وليس غايته :
أيها الأخوة، هذا هو عبد الرحمن بن عوْفٍ، هذا هو الغنيُّ المؤمن، هذا الذي يكون سيِّد المال، وليسَ عبداً له، هذا الذي يسْتخدم المال في سبيل الجنَّة، في سبيل مرْضاة الله عز وجل، في سبيل أنْ يفوز بِجَنَّةٍ عَرْضُها السموات والأرض، في سبيل أنْ يرْضى الله عنه، هذا الصحابي الجليل هو أحدُ الثمانِيَّة الذين سبَقوا إلى الإسلام، عرضَ عليه أبو بكر الإسلام هو وعثمان بن عفان والزبير بن العَوام وطلْحة بن عُبَيد الله وسعْدُ بن أبي وقاص فمَا غُمَّ عليهم الأمر، ولا أبْطؤوا، بل سارَعوا مع الصِّديق إلى النبي عليه الصلاة والسلام يُبايِعونه، ويحْمِلون لِواءَهُ، معنى ذلك لما ينْشرحُ صَدْرك للحق فهذه علامة طيِّبة، حينها لا تتَرَدَّدُ،
ففي التاريخ الإسْلامي عشَرَةُ أشخاص يدْخلون الجنَّة على التحْقيق، وما سِواهُم على الرَّجاء، نحن نرْجو الله، وفرْقٌ كبير بين التحْقيق والرَّجاء، وهو من أصْحاب الشورى السِّتَة الذين اخْتارهم سيّدُنا عمر من بعْده،
نظرته التجارية :
وكان مَحْظوظاً في التِّجارة، وكان يقول: لقد رأَيْتُني لو رفَعْتُ حجَراً لَوَجَدْتُ تحته فِضَّةً وذَهَباً
مرَّةً سألوه: بِما حَقَّقْتَ هذه الثرْوة يا عبد الرحمن؟ قال: والله ما اسْتَقْللتُ رِبْحاً، ولا بِعْتُ دَيْناً
هذا تَوْجيهُ صحابِيٍّ جليل آتاهُ الله مالاً، وكان له ثلاثة أطْوار: فهُوَ إما في المسْجد، وإما أنه في غَزْوٍ مع رسول الله، وإما أنه في تِجارِتِه .
ثقته بالله:
إنّ الصحابة الكٍرام كانوا مٌثُلاً عُلْيا، فلما هاجَروا إلى المدينة أمرهم النبي صلى الله عليه وسلّم أنْ يتآخَوا اثْنَيْن اثْنَين، فسيّدنا بن عوفٍ كان نصيبُهُ سيّدنا سَعْد بن الربيع، وهو أنْصاري، وسيّدنا ابن عوف مُهاجِر، ولما انْتَقَل إلى المدينة كانَ بِلا مالٍ، تَصَوَّر أنَّ شَخْصاً ترك كلّ ثَرْوَته من أراضٍ ومصانع وسيارات ومسْكن غالي الثمن وأمْوالٍ ضَخْمة، ثمّ يذْهب إلى مكانٍ آخر وهو مُفْلِس، هكذا كان الصحابة، تركوا كلّ أمْوالهم وهاجَروا مع النبي صلى الله عليه وسلّم، فَسَيِّدُنا سَعْد بن الربيع قال له: يا أخي أنا أكثر أهل المدينة مالاً، فانْظُر شَطْرَ مالي فَخُذْهُ، فقال له عبد الرحمن بن عوفٍ: بارك الله لك في مالك، ولكن دُلَّني على السوق،
هؤلاء الصحابة الكِرام الأنْصار الذين أظْهروا أعْلى درجات المُؤاثرة قابَلَهُم المُهاجِرون بِأَعلى درجات العِفَّة.
لذلك لم يُسَجِّل التاريخ أنَّ مُهاجِراً واحداً أخذ شطْر مال أخيه الأنْصاري، فإذا كان الإنْسان ضَيِّقَ ذات اليد فله طريقان: الطريقُ الأكْمل أنْ تقول: يا رب اُرْزُقْني من فضْلك، ولا تُحْوِجْني إلى أحدٍ سِواك، ولا تجْعَلْ حاجتي إلا إليك، لأنّ الإنسان إذا أعْطى فَعَطاؤُهُ غير عطاء رب العالمين،
قيل: اِحْتَجّ إلى الرجل تكُنْ أسيرَهُ، واْستَغْنِ عنه تكُن نظيره، وأحْسِن إليه تكُن أميرهُ.
انفاقه في سبيل الله :
باعَ يوْماً أرْضاً بِأرْبعين ألْفَ دينار، فكانت ثلاثة أثلاث: ثلثٌ على أقْربائه من بني زهرة، وثلث على أُمَّهات المؤمنين، وثلث على فقراء المُسْلمين .
وقدَّم يوماً رضي الله عنه لِجُيوش المسلمين خمسُ مئة فَرَسٍ تشبه كلٌّ منها في أيامنا سيارة مَرْسيدَس، أو شاحنة مَرْسيدَس، شيءٌ ثمين، هناك مَن سَعَّرها خمسة ملايين، وحتى عشْرة ملايين .
مرَّةً قدَّم ألفًا وخمسمئة راحِلَة في سبيل الله، وعند مَوْتِهِ أوْصى بِخَمْسين ألف دينار في سبيل الله، وأَوْصى لكل من بَقِيَ ممن شهِدوا بدْراً بِأَرْبَعمئة دينار، حتى إنَّ عُثْمان بن عفان رضي الله عنه أخذ نصيبه من هذه الوَصِيَّة رغْمَ ثرائِهِ، وقال: إنَّ مال عبد الرحمن حلالٌ صَفْوٌ،
ما قيل عن إنفاق ابن عوف :
قَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،: تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَالْقَطِيفَةِ وَالْخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ
بلغ من سعة عطائه وعَوْنِه أنه كان يُقال: أهل المدينة جميعاً شُرَكاءُ لابن عوفٍ في ماله ،
وقد سَمِعْتُ اليوم قِصَّة عن رجلٍ غَنِيّ، كانت امْرأة تأتي في الساعة السابعة إلى مَكْتَبِه لِتُنَظِّف، وهو لا يعْرِفُها في شَكْلِها، إنما يسْمع عنها، ويُعْطيها أُجْرتها، مرَّةً جاء في الساعة السابعة لِأمرٍ اسْتِثْنائي، فرأى امْرأة مُسِنَّة تشْتغل، وتَمْسح، فقال لها: أنت كم تأخُذين؟ فقالت له: ألْفَيْن وخمسمئة في الشَّهْر، فقال لها: كم ولدٍ عندك؟ فقالت: أربعة، فقال لها: اذْهبي إلى بيْتِكِ، وارْعَيْ أوْلادك، وتعَالَي كلَّ شهْرٍ وخُذي خمْسة آلاف، قلْبه رقيق، ما تحَمَّل ذلك المشْهد، وهي على كِبَر سِنِّها تشْتغل، فالغَنيّ أحْياناً يصِلُ إلى الأوْج في إنْفاق ماله، لأنَّها المِسْكينة وصَلَتْ إلى مرْحلة التقاعُد، فالدنيا لا تخْلو من أهل الخير .
قالوا: أهل المدينة جميعاً شُركاءُ لابن عوفٍ في ماله، ثُلُثٌ يُقْرِضُهم، وثُلُثٌ يقْضي عنهم دُيونهم، وثُلُثٌ يصِلُهُم ويُعْطيهم، ألا تشْتهون غِنى مثل هذا الصحابي الجليل؟ .
الزاهد الغني:
سيِّدنا ابن عوف جيءَ له بِطعام الإفْطار، وكان صائِماً، فَلَما وقَعَتْ عَيْناهُ فَقَدَ شَهِيَّتَهُ، وبكى، لماذا يبْكي؟ قال: اسْتُشْهِدَ مُصْعب بن عُمَيْر، وهو خيرٌ مني، فَكُفِّن في بُرْدَةٍ إنْ غُطِّيَ رأْسه بَدَتْ رِجْلاه، وإنْ غطيت رِجْلاه بدا رأسه، واسْتُشْهِدَ حمزة، وهو خيرٌ مني فلم يوجد له ما يُكَفَّن فيه إلا بُرْدة، ثمّ بُسِطَ لنا من الدنيا ما بُسِط، وأُعْطينا منها ما أُعْطينا، وإني لأخْشى أنْ تكون قد عُجِّلتْ لنا حَسَناتُنا .
أقول لكم هذا الكلام: إذا كثر رفه المؤمن فهو في خوف مِن سوء المصير، أما إذا كان بالكفاف فهذه نِعْمة، هذه دار عمل وليس دار بَسْط ولا دار نعيم، هي دار ابْتِلاء وامْتِحان وطاعة ومُجاهدة والْتِزام، فالمؤمن الصادق إذا شعر أنَّ رفاهته أكثر مما يجب يحُسّ بِضيقٍ، حاله حال طالب دخل إلى المدْرسة، له أحْلى طاولة، وأحْلى كُرْسي، ومن جِهَة الشَّمس، هذه مدْرسة للعلم وليست للتَّشَمُّس .
واجْتمع بعض أصْحابه يوماً على طعامٍ عنده، وما كاد الطعام يوضَعُ أمامهم حتى بكى، فسألوه: ما يُبْكيك يا أبا محمد؟! فقال: لقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلَّم وما شَبِعَ هو وأهْلُ بَيْتِه من خُبْز الشعير، وما أرانا أننا أُخِّرْنا لما هو خيرٌ منا .
زرْتُ صديقاً يوماً وكان بَيْتُهُ صغيراً، فقال لي: لا تؤاخِذْنا لصِغر بيتنا، فقُلْتُ له: والله لو تقرأ عن بيْتِ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم الذي هو سيِّدُ الخلق وحبيب الحق لما استحييتَ ببيتك، كان إذا صلى قِيام الليل تحوِّل السيِّدة عائِشة رِجْلَيْها، لأنَّ غرفته لا تَتَّسِعُ لِصَلاته ونوْمه، ولما دخل عليه عديّ بن حاتم قذف إليه وِسادةً من أدم مَحْشُوَّةً ليفًا، وقال له: اجْلِسْ عليها، قُلْتُ بل أنت، فقال: بل أنت، فَجَلَسْتُ عليها وجلس صلى الله عليه وسلّم على الأرض، ليس في بيْتِ النبي إلا وِسادةٌ واحدة !!، هذه هي النبُوَّة، النبوَّة قُدوة وتَقَشُّفٌ وزُهْدٌ وليس ملكاً .
وفيّ حتى النهاية:
سيّدنا عمر قبل أنْ يتوفاه الله عز وجل مُتأثِّراً بِجِراحه اسْتأذن السيّدة عائِشة أمُّ المؤمنين أنْ يُدْفَن في حُجرة النبي عليه الصلاة والسلام، ثمَّ اسْتدرك وقال: أنا خليفة المسلمين، ولعلَّها قبلتْ خجَلاً مني، بعد أنْ أموت اسْألوها مرَّةً ثانِيَة، فإن قبِلتْ فافْعلوا، فهُوَ رضي الله عنه ما أراد أنْ يسْتخدم سُلْطته في أخذِ مُوافقَتِها، والسيّدة عائِشَة أرادَتْ أنْ تَخُصّ نفسها بِشَرف الدفْن في حُجْرة النبي.
فهذا الصحابي الجليل وهو على فِراش الموت أشارتْ إليه أنَّها تُوافقُ على أنْ يُدْفن في حُجْرَتها إلى جِوار النبي عليه الصلاة والسلام وأبي بكرٍ وعُمر، ولكنه رضي الله عنه كان على حياءٍ كبير، فقد اسْتَحْيا أن يكون مع هؤلاء الكِبار، ثمّ إنه كان على مَوْعِدٍ وثيق مع عثمان بن مظغون، إذْ تواثقا ذات يومٍ أَيُّهُما يموت بعد الآخر يُدْفَنُ إلى جِوار صاحِبِه، فهذا وعْدٌ .
وهو على فِراش الموت، قال: إني أخاف أنْ أُحْبَسَ عن أصْحابي لكثرة ما كان لي من مالٍ، مع كُلّ هذا الإنفاق وهذا السَّبْق والحُبّ والمؤاثرة، عندئذٍ ذكر قوْل النبي عليه الصلاة والسلام: عبد الرحمن بن عوْفٍ في الجنَّة
هذه البِشارة طَمْأنَتْ قلْبه وجعَلَتْهُ قريرَ العَيْن وتلا قولَه تعالى: ( الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)