بحث

علي بن أبي طالب1 توافق فطرتا أبيه وجده مع حقائق الدين

علي بن أبي طالب1 توافق فطرتا أبيه وجده مع حقائق الدين

بسم الله الرحمن الرحيم

عمه مثال تلاقي الفطره مع الحق:  

      أيها الأخوة، مع سيرة الخليفة الراشد علي كرم الله وجه، هذا الإمام الفتى الذي كان أصغرَ مَن آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم يومَ كان بمكة، وقبل الهجرة، له منبتٌ عتيد، له أبٌ اسمه أبو طالب وجدٌ اسمه عبد المطلب، وجميلٌ بنا أن نقف وقفتين عند هذين الأبوين لهذا الإمام الجليل، لأننا لو درسنا حياة هذين الأبوين لوجدنا، ماذا تعني كلمة الفطرة التي فُطِر الناس عليها؟.  

      فهذا الأب الجليل أبو طالب والد سيدنا علي حينما كان على فراش الموت أوصاهم بهذه الوصية،   

      وانظروا أيها الأخوة، كيف أن الإنسان حينما تصفو نفسه تلوح له الحقيقة؟ فحياتنا من كثرة التعقيد، ومن كثرة القيل والقال، ومن كثرة المشكلات عكَّرت صفاء فطرتنا،   

      فهذا الأب الكريم، وهو على فراش الموت، يقول وصيكم بتعظيم هذا البيت، فإن فيه مرضاة الرب، وقوام العيش،  

هذا الرجل لم تصلْه دعوة، بل عاش على الفطرة،   

صِلُوا أرحامكم ولا تقطعوها، فإن صلة الرحم منسأة في الأجل، اتركوا البغي فقد أهلك القرون مِن قبلكم،  

      البغي هو العدوان، البغي هو تجاوز الحد، البغي هو الظلم، والظلم ظلماتٌ كما تعلمون.  

يا معشر قريش أجيبوا الداعي، وأعطوا السائل، فإن فيهما شرفَ الحياة، وشرف الممات،  

      دعيت إلى شيء فأجبْ، سُئِلت فأعطِ، دعيت إلى حقيقةٍ ناصعةٍ تقبَّل، دعيتَ إلى خيرٍ عميمٍ فافعل،    

عليكم بصدق الحديث، وأداء الأمانة، ألا وإني أوصيكم بمحمدٍ خيراً،  

      بالفطرة رأى فتى صادقاً أميناً يدعو إلى الخير، ما جرب عليه قومه كذباً قط.  

      أيها الأخوة، السيدة خديجة قالت للنبي عليه الصلاة والسلام يوم جاءه الوحي:  واللهِ لا يخزيك الله أبداً، إنك تصل الرحم، وتقري الضيف، وتحمل الكل، وتعين على نوائب الدهر، فو الله لن يخزيك الله أبداً .  

      كيف عرفت هذه الحقيقة؟ الجواب أيها الأخوة، أن فطرة هذه المرأة سليمة، وكل واحد منكم لو رأى ببساطةٍ بالغة شاباً مستقيماً، صادقاً أميناً، منضبطَ المشاعر، منضبط الجوارح، يسعى لخير الناس، ينصحهم، يعين ضعيفهم، يغني فقيرهم، يقدِّم لهم كلَّ ما في وسعه، فإنّ أحدكم  يحكم بأن خالق الكون سيتولى هذا الشاب بالتوفيق، والتأييد، والنصر، لأنّ اللهَ سبحانه وتعالى يقول: (إ ِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً)  

      أيها الأخوة، ما أردتُ حين اتخذتُ مِن والد سيدنا علي كرم الله وجهه وهو عم النبي، ومن أبيه عبد المطلب، وهو جد النبي إلا لأريكم كيف أن الفطرة السليمة تلتقي مع حقائق الدين لقاء عفوياً؟ وأنت أيها الأخ الكريم بإمكانك أن تستنتج هذه الحقيقة، استقم على أمر الله، انصحْ، اخْدُمْ، وقدمْ كلَّ ما في وسعك لخير البشرية،  فوالله لا يخزيك الله أبداً، ليس في الكون إلا الله.  

      عندما سأل النجاشي سيدنا جعفرًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ماذا قال؟ قال ببساطة       

       أَيُّهَا الْمَلِكُ كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ وَنُسِيء الْجِوَارَ يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ  فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ وَأَمَرَ بِصِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ وَالْكَفِّ عَنْ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ وَنَهَانَا عَنْ الْفَوَاحِشِ وَقَوْلِ الزُّورِ وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَأَمَرَنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ قَالَ فَعَدَّدَ عَلَيْهِ أُمُورَ الْإِسْلَامِ  فَصَدَّقْنَاهُ وَآمَنَّا بِهِ وَاتَّبَعْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ فَعَبَدْنَا اللَّهَ وَحْدَهُ فَلَمْ نُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا وَحَرَّمْنَا مَا حَرَّمَ عَلَيْنَا وَأَحْلَلْنَا مَا أَحَلَّ لَنَا فَعَدَا عَلَيْنَا قَوْمُنَا فَعَذَّبُونَا فَفَتَنُونَا عَنْ دِينِنَا لِيَرُدُّونَا إِلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَأَنْ نَسْتَحِلَّ مَا كُنَّا نَسْتَحِلُّ مِنْ الْخَبَائِثِ  وَلَمَّا قَهَرُونَا وَظَلَمُونَا وَشَقُّوا عَلَيْنَا وَحَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ دِينِنَا خَرَجْنَا إِلَى بَلَدِكَ وَاخْتَرْنَاكَ عَلَى مَنْ سِوَاكَ وَرَغِبْنَا فِي جِوَارِكَ وَرَجَوْنَا أَنْ لَا نُظْلَمَ عِنْدَكَ .  

      عفةٌ عن المحارم، عفةٌ عن المطامع، نسبٌ عريق، كريمٌ بن كريم بن كريم بن كريم، ما عرف النبي صلى الله عليه وسلم في سلالته الطاهرة إلا كلَّ محتدٍ عريق ونسبٍ عظيم.  

      قال أبو طالب:    

ألا وإني أوصيكم بمحمدٍ خيراً فإنه الأمين في قريش والصادق في العرب، وهو الجامع لكل ما أوصيكم به، وقد جاءنا بأمرٍ، قبله الجنان، وأنكره اللسان،  

      القلب قَبِلَه، لأن الذي جاء به النبي عليه الصلاة والسلام مطابقٌ للفطرة، جاءنا بأمرٍ مطابقٍ للعقل، مطابقٍ للخير، مطابقٍ للحق، هذا حال قريش حينما تلقَّت دعوة النبي، قلبها قبل هذه الدعوة، ولسانها أنكر هذه الدعوة، مخافة أن تدع دين آبائها وأجدادها، ويخسر زعماؤها مراكزَهم،    

وايم الله لكأني أنظر إلى صعاليك العرب وأهل الأطراف والمستضعفين من الناس قد أجابوا دعوته، وصدقوا كلمته، وعظَّموا أمره، فخاض بهم غمرات الموت، ولكأني به وقد محضته العرب ودادها، وأعطته قيادها .  

      ما هذا التنبُّؤ؟ ما هذا الإدراك العميق؟ ما هذا الاستشفاف للمستقبل؟ لذلك الصعلوك الذي لا يعرف أحدٌ نسبه إذا عرف الله عزَّ وجل رفعه الله إلى أعلى عليين، وخفض من زها على الناس بنسبه وبماله وبمكانته إلى أسفل سافلين، من هو صهيبٌ؟ ومن هو بلالٌ؟ ومن هم هؤلاء الصحابة الفقراء الصغار الذين كانوا مستضعفين في الأرض؟   

      كلماتٌ بليغة بليغة، دقيقةٌ دقيقة، عميقةٌ عميقة قالها أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم وهو على فراش الموت، وهو والد سيدنا علي كرم الله وجهه،   

يقول أبو طالب:    

والله لا يسلك أحد سبيله إلا رشد، ولا يهتدي بهديه إلا سعد، ولو كان في العمر بقية لكففت عنه الهزاهز، ولدفعت عنه الدواهي،  

      ثم وضع عينيه على أهله الأقربين واختصهم بوصيةٍ أخرى، وقال لهم:   

وأنتم يا معشر بني هاشم أجيبوا محمداً وصدقوه تفلحوا وترشدوا .  

      هذا كلام أبي طالب، هذا كلام الفطرة، هذا كلام العقل، هذا كلام الإدراك الحصيف، هذا كلام العقل الراجح،   

موقف الأب من إيمان ابنه الفتى علي كرم الله وجهه:  

      توفي أبو طالب، وبقيت في خواطر سيدنا علي كلمات أبيه، عظموا الكعبة، صلوا الرحم، اتركوا البغي، أجيبوا الداعي، كونوا صادقين، عيشوا أمناء، أي أنه إذا كان من الممكن أن يكون هناك مؤشرٌ للإيمان، وهناك مؤشرٌ لرجاحة العقل، فإن العقربين يتحركان معاً، عقرب رجاحة العقل يتحرك كما يتحرك عقرب صدق الإيمان، قال رسول الله عليه الصلاة والسلام:  أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً.  

      في أيام الدعوة الأولى رأى أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم ولدَه علياً يصلي خفيةً وراء رسول الله عليه الصلاة والسلام، وكانت هذه أول مرة يعلَم فيها أن ابنه الصغير السن قد اتبع محمداً، وما اضطرب الطفل حينما رأى أباه يبصره مصلياً، ولما أتم صلاته ذهب تلقاء والده،   

       وقال له في صراحةٍ وثبات:  يا أبتِ لقد آمنتُ بالله وبرسوله، وصدقتُ ما جاء به واتبعته،   

      قال أبو طالب:  أما إنه لا يدعوك إلا إلى خير فألزمه .  

      فما أروع الأب في أيامنا هذه إذا علم أن ابنه التحق بمجلس علم، وأخذ عن أستاذٍ موثوق بعلمه، وأن هذا الابن سلك طريقاً يقوده إلى الفلاح، إلى طريق العفاف، إلى طريق الصدق، إلى طريق غض البصر، إلى طريق تحرير الدخل، ما أروع الأب الذي يقول لابنه: يا بني ألزم هذا المجلس، فهذا التعليم والتوجيه السليم لنا جميعًا.  

      يا أيها الآباء إني ليشتدُّ عجبي حينما أرى أباً راجح العقل إن رأى ابنه قد لزم مجلس علم، أو اتبع أهل الحق أقام عليه النكير، لماذا؟ أيرضيك أن يتقلب ابنك في متاهات الضلال؟ أيرضيك أن ينتقل ابنك من مكانٍ إلا مكان لا يرضي الله عزَّ وجل، وأن يصاحب رفقاء السوء، هل أنت راضٍ عنه إذاً؟.  

      مرةً ثانية  رأى أبو طالب ابنه يصلي، فقد رأى النبي عليه الصلاة والسلام يصلي وقد وقف عليٌ كرم الله وجهه على يمينه، ولمح من بعيدٍ ولده جعفراً فناداه، حتى إذا اقترب منه قال له:    

صِلْ جناح ابن عمك، وصلِّ عن يساره .  

      أي إن عليًّا عن يمينه، وأنت عن يساره، هذا درسٌ بليغٌ للآباء، فالأب الذي يرى ابنه قد اهتدى إلى سواء السبيل ينبغي أن يفرح فرحاً لا يقدَّر بثمن، ينبغي أن يغتبط لهذا الحدث، ينبغي أن يمتلئ قلبه سروراً، ولو أن أباً عرف مصير ابنه المهتدي لأدرك أنه حاز شرف الدنيا والآخرة، لذلك قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلمّ إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ وَإِنَّ وَلَدَ الرَّجُلِ مِنْ كَسْبِهِ.  

موقف عمه من ردة فعل قريش على خبر محمد:  

      فأبو طالب والد سيدنا علي كرم الله وجهه حينما تبيَّن له أن محمداً صلى الله عليه وسلم صادقٌ، وحينما جاؤوه يطلبون منه أن يقنع ابن أخيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يكُفَّ عن دعوته لئلا يسفه آلهة قريش ويسفه أحلامها،   

      قالوا له يا أبا طالب:  إن لك فينا سناً وشرفاً ومنزلةً، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا لا نصبر على هذا من شتم آبائنا، وعيب آلهتنا، وتسفيه آلهتنا، فإما أن تكُفَّه عنا، أو ننازله وإياك، حتى يهلك منا أحد الفريقين،   

      فلما عرض على ابن أخيه هذا العرض، قال قولته الشهيرة:  والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري ما تركت هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه.  

      هذه العبارة التي قالها النبي هي عبارةٌ خالدة، وهي تعني الثبات على المبدأ، الآن النموذج الرائج بين الناس، شخص يبحث عن مصالحه، يتلَّون ألف لونٍ ولون، ويغيِّر كلامه عشرات المرات، لكن الرجل الذي يأخذ بمجامع القلوب هو رجل المبدأ، فإما أن تكون صاحب مصلحةٍ أو صاحب مبدأ، والإنسان الثابت على مبدئه فيه عقلانية ورجولة، وهذا الموقف موقفُ النبي عليه الصلاة والسلام:         والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري ما تركت هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه.  

      عندئذٍ قال:  يا ابن أخي افعل ما بدا لك، واللهِ لن يصلوا إليك،  

      وكان من أشد الذين حموا النبي صلى الله عليه وسلم.  

      ذات مرةٍ رأى النبيَّ كئيباً حزيناً، فتحرَّى الأمر، فعلم أن قريشاً قد آذته، وبالغت في إيقاع الأذى به، فنهض من فوره حاملاً سيفه بيمينه، متأبطاً ذراع النبي بيساره، حتى إذا وقف على الذين آذوه، صاح فيهم:  والذي يؤمن به محمدٌ لئن قام منكم أحدٌ لأعالجنه بسيفي.  

الأذى الذي ناله الرسول بعد وفاة عمه:  

      وحينما توفي عم النبي أبو طالب بالغت قريش في إيذاء النبي، ونالت منه أشد النيل، وبعدها كان الإسراء والمعراج مسحاً لجراحات الماضي، وكان أبو طالبٍ شاعراً أريباً لبيباً، قال مرةً عن ابن أخيه:  

 لقد علموا أن ابننا لا مكــذّبٌ***لدينا و لا يعنى بقول الأباطـل  

 حليمٌ رشيدٌ عادلٌ غير طائـشٌ***يوالي إلهاً ليس عنه بغــافل  

  وأبيض يُستسقَى الغمام بوجهه***ثمال اليتامى عصمة للأرامـل  

      حينما اشتدت وطأة المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم وجَّه لعمه تحيةً بعد موته يستحقها، قال:         ما نالت مني قريشٌ شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب .  

      الحقيقة كان أبو طالب السند الخارجي، وكانت السيدة خديجة السند الداخلي، الإنسان له حياة خارج البيت، وله حياة داخل البيت، فزوجته كانت سنداً له وسكناً، والمرأة كما تعلمون معينة لزوجها،   

      قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ   إِنَّ الدُّنْيَا كُلَّهَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ .  

      المرأة سكن، الإنسان أحياناً إذا وفِّق في زواجه، وحظِيَ بزوجةٍ صالحةٍ مؤمنةً، فربما تخفف وتنسيه آلام العمل باهتمامها، ورعايتها وصبرها ورضاها باليسير.  

      فأريد أن أعلق تعليقاً دقيقاً، الله عزَّ وجل حينما ينصر عبداً لا ينصره بلا سبب، ينصره بأسبابٍ أرضية، عندما يقول ربنا عز وجل:  ( إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ

      كيف؟ بأنْ يلهم إنسانًا يعرفك حق المعرفة، فإنْ نالكَ أعداؤك بسوء يهبّ ليدافع عنك، وهو لا يدري أن الله سبحانه وتعالى وقَّت هذا الدفاع، وألهمه هذا الدفاع وقدَّر هذا الدفاع، وأنْجحه.  

      وإنّ الله عزَّ وجل إذا أراد أن ينصرك جعل أسباباً أرضيةً لذلك، وإذا أراد أن يخذل عبداً جعل أسباباً أرضيةً لخذلانه، والله عزَّ وجل هو مسبب الأسباب، وهو خالق الأسباب، لكن نصره وتأديبه وبطشه يتمّ وفق أسبابٍ أرضية، فيقول عليه الصلاة والسلام:  ما نالت مني قريشٌ شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب .  

      وقال مرةً يخاطبه بعد موته:  يا عم ما أسرع ما وجدت فقدك .  

      فقد كان له دور كبير في حماية النبي عليه الصلاة والسلام.  

جده مثال تلاقي الفطره مع الحق:  

      وثمة أمرٌ آخر، فجدُّ النبي عليه الصلاة والسلام عبد المطلب له قصةٌ مشهورةٌ أيضاً، تؤكِّد سلامة فطرة آبائه وأجداده، فقد أخرج البيهقي في دلائل النبوة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال،   

      قال عبد المطلب:    

      إني لنائم في الحجر إذ أتاني آت، فقال: احفر طيبة، قلت: وما طيبة؟ فذهب عني، فلما كان من الغد رجعت إلى مضجعي فنمت به فجاءني، فقال: احفر زمزم، فقلت: وما زمزم؟ قال: لا تنزف ولا تذم، تسقي الحجيج الأعظم عند قرية النمل، قال: فلما أبان له شأنها، ودل على موضعها، وعرف أن قد صدق غدا بمعول ومعه ابنه الحارث ليس له يومئذ غيره فحفر.  

      وما كاد يطلع النهار حتى ذهبا يغوصان في الأرض بمعاولهما، فتفجرت مياه النبع المبارك الخالد، الذي هيَّأه الله سبحانه وتعالى ليكون سُقيًا لحجاج بيت الله الحرام،   

      وموضوع زمزم موضوع يلفت النظر، كلُّ الأمطار التي تهطل بمكة وحوالي مكة لا تكفي لمدِّ مصادر هذا النبع، ولا يعلم إلا الله مصادر هذا النبع، وعروق هذا النبع، ومستودعات هذا النبع في أي  مكان، وتحت أي إقليم، ووراء أي جبل، وهذا لا يعلمه إلا الله، لكن الذي تعلمونه جميعاً، مهما كثر الحجاج فهم جميعاً يشربون من ماء زمزم، وله طعمٌ خاص، حتى إن الحجاج إذا توجهوا إلى المدينة المنورة يشربون من ماء زمزم، فكلُّ المياه هناك تنقل من نبع زمزم بالسيارات الكبيرة المخصصة لنقله.  

فجد النبي عبد المطلب هو الذي حفر بئر زمزم بعد أن رُدم، وكان قد فجّر في عهد سيدنا إبراهيم عليه السلام.  

      الحَدَث الشهير الذي تعلمونه جميعاً فهو حادثة الفيل، قال الله عزّ وجل:( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ *أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ)   

      فقد غزا أبرهة مكة ليهدم الكعبة، وجاء في جيشٍ لجب لا طاقة لقريشٍ بمقاومته، وفزعت قريش إلى شيخها وزعيمها عبد المطلب تسأله الرأي، وقد أدرك عجز قومه عن مجابهة الجيش الزاحف، فأمرهم أن يحملوا نساءهم وأطفالهم ومتاعهم ويغادروا مكة إلى شغاف الجبال، تاركين البلد الحرام مدينةً مفتوحةً يتولى ربُّ البيت حراستها، أما إذا حاول الجيش المقتحم أن يتسور الجبال وراءهم ليعتدي على أعراضهم فليسقطوا جميعاً صرعى قبل أن تُمَسَّ أعراضهم بسوء، والموقف نفسُه وقفه من أبرهة عندما طلب أن يتحدَّث إلى زعيم قريش، فذهب إليه عبد المطلب، وهنا ألقى على مسامعه كلمته المأثورة، حين سأله عن إبلٍ له،   قال:  أما تخشى أن يهدم هذا البيت؟   

      قال: أمّا الإبل فهي لي، وأما البيت فله ربٌ يحميه .  

      وإني لأجل في المؤمن غيرته على المسلمين، وغيرته على هذا الدين، ولكن أُطمئن كل يائسٍ، وكل ضعيفِ النفس، وكل من وهنت قوته، وكل من ضعفت نفسه أن لهذا الدين رباً يحميه، وأن الإسلام دين الله، وأن هذا الدين كالطود الشامخ، يصمد أمام كلِّ المكائد التي تبتغي أن تهدمه، لا ينبغي للمؤمن أن ييأس، قال تعالى:  ( وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ

      يُروى عن سيدنا خالد، أنه كان يقول: والله لو كانت أعداد جيوش الروم أضعاف ما هي عليه لم آبه لها، لكنه يؤلمني أن تصاب حدوة فرسي بعطب،  

      لأنه يعلم علم اليقين أن الله سينصره على هؤلاء جميعاً، فمعنويات المؤمن العالية مهمة جداً في إيمانه، أنت مع خالق الكون، أنت تنفِّذ تعليمات خالق الكون، أنت في مرضاة رب العالمين، واللهُ سبحانه وتعالى لا يتخلى عنك، فعليك أن تبذل المستطاع المتاح، ثم تفوِّض الأمر لله سبحانه، قال تعالى:  ( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ

      ولم يطلب أن تعدُّوا لهم القوة الكافية، والإنسان حينما يبذل قصارى جهده يتولى الله ما بقي عليه من نقصٍ فيرمِّمه سبحانه وتعالى.  

      حينما علم عبد المطلب خطورة الأمر وعزم أبرهة على هدم الكعبة، توجه إلى بيت الله الحرام فوراً، وأخذ بحلقتي باب الكعبة وناجى الله سبحانه وتعالى في إيمانٍ عجيب،   

      وقال: اللهم إن المرء يمنع رحله فامنع رِحالك، إن كنت تاركهم وكعبتنا فأمرٌ ما بدا لك .  

      كان عبد المطلب إذا أمسكت السماءُ المطرَ كان يضرع إلى الله عزّ وجل، ويقول:اللهم هؤلاء عبيدك، وأبناء عبيدك، وقد نزل بنا ما ترى، فأَذْهب عنا الجدب، وائتنا بالمطر والخصب،  

      هذا الموقف من عبد المطلب دليل الفطرة الصافية النقية التي لم تعكرها الشوائب.  

      وعبد المطلب هذا جد النبي عليه الصلاة والسلام، حينما بُشِّر بمولد النبي حفيده محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، حمل الوليد فوق ذراعيه وصدره وذهب مسرعاً به إلى الكعبة، حيث صلى صلاة الشكر وراح، يقول:  

الحمد لله الذي أعطانــــي***هذا الغلام الطيِّب الأردانِ  

قد ساد في المهد على الغلمانِ***أعيذه بالله ذي الأركـانِ  

حتى أراه بالغَ البنيانِ  

      ومما يؤثر عن هذا الجد، جد النبي، أنه قال لأبي طالب عم النبي، وهو والد سيدنا علي:  يا أبا طالب سيكون لابني هذا شأنٌ فاحفظه، ولا تدع مكروهاً يصِل إليه.  

 

الفطرة السليمة تلتقي مع هذا الدين الحنيف:  

      أيها الأخوة، هذه المواقف التي وقفها أبو طالب ووقفها عبد المطلب من حفيده سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، تدل على أن الفطرة السليمة تلتقي مع هذا الدين الحنيف، والدليل قول الله عزّ وجل:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ

      من معاني هذه الآية، أن الله سبحانه وتعالى يأمرنا أن نقيم وجوهنا، قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً  

      فإقامة الوجه أعلى درجات الاهتمام، أحياناً يكون أمام الإنسان عدَّاد، وهذا العداد ينبئ بخطر، كمقياس الضغط مثلاً، فالإنسان قلق جداً على ارتفاع ضغطه، فإذا أراد أن يقيس ضغطه تكاد عيناه تخرجان من محجريهما، وينظر إلى العقرب ليرى نسبة الضغط، فهذا المنظر يدل على اهتمام الإنسان، فمعنى:  ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً

      معنى حنيفاً أي مائلاً إليه، كارهاً لغيره، أن تقيم وجهك للدين حنيفاً، باهتمامٍ بالغ، بشعورٍ صادق، بحرصٍ كبير،   

      قال: هي نفسها فطرة الله التي فطر الناس عليها، فتطابقُ النفس مع أحكام الدين تطابقٌ عجيب، تطابق تام، والإنسان حينما يهتدي إلى الله يجد نفسه قد اطمأنتْ، والطمأنينة سببها أن الإنسان سلك في الطريق الذي أُعدّ لها،  

      فتصور سيارة تمشي في طريق وعر، صخور ناتئة، وحفر كثيرة، ورمال عميقة، فتجهد، أما إذا انتقلت إلى الطريق المعبَّد، تقول: هذا الطريق لهذه السيارة، هذا الطريق مصمم خصيصاً لهذه المركبة، تنطلق السيارة على الطريق المعبد بسرعةٍ، وهدوءٍ، وراحةٍ، وصوتٍ لطيفٍ، واستقرارٍ في أجهزتها، وعدم اضطرابٍ لحركاتها، أمّا إذا سلكت هذه المركبة طريقاً وعرةً فإن هذه الطريق تتناقض مع طبيعتها.  

      والمؤمن حينما يستقيم على أمر الله يجد نفسه، ويجد أن نفسه قد اطمأنت وقلبه قد استراح، أي إن كل أخ من أخواننا الكرام، إذا ذكر الساعات السعيدة التي تلت توبته، يقول لك: كدتُ أطير سعادةً، الصلح مع الله رائع جداً، التوبة إلى الله مسعدة، الانضمام إلى أهل الحق هو السعادة كلُّها، أن يشعر الإنسان أنه على الطريق الصحيح، وعلى المنهج الصحيح، فهذا شعور ينبئ بالسعادة الكبرى.  

      فلذلك أردت من هاتين القصتين، قصة أبي طالب وقصة عبد المطلب وهما عمُّ النبي وجده، أردت منهما أن الإنسان بعقله المنصف وبفطرته السليمة يلتقي مع الدين القويم الذي هو في حقيقته علاجٌ للنفس وشفاءٌ لها، وفي القرآن الكريم ورد الشفاء عدة مرات، أجسامنا شفاؤها في العسل، قال تعالى: فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ)  

      ونفوسنا شفاؤها القرآن، قال تعالى: ( وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ

 

من أقوال سيدنا علي بن أبي طالب وحكمه:  

      سيدنا علي كرم الله وجهه، وهو من الصحابة المرموقين كان ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان فتى يافعاً، وأنا حينما أرى فتى سلك طريق الإيمان، أقول في نفسي: لهذا الفتى مستقبلٌ عظيم، لأن الهدى يتراكم والقناعات تزداد والقيم تترسخ، ومن لم  تكن له بدايةٌ محرقة لم تكن له نهايةٌ مشرقة،   

      سيدنا علي له أقوال وهي في أعلى درجات الحكمة، فأعلى كلامٍ على الإطلاق بعد كلام النبي صلى الله عليه وسلم هو كلام الإمام عليٍ كرم الله وجهه، أُوتي فصاحةً ما بعدها فصاحة، أُوتي بلاغةً ما بعدها بلاغة، كان يقول: يا بُني العلم خيرٌ من المال لأن العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والمال تنقصه النفقة والعلم يزكو على الإنفاق، مات خُزَّان المال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة .  

      ومن أقول هذا الإمام الجليل:     فلينظرْ ناظرٌ بعقله أنّ الله أكرم محمداً أم أهانه؟ فإن قال: أهانه فقد كذب، وإن قال: أكرمه، فلقد أهان غيره حيث أعطاه الدنيا   

      ومن أقول هذا الإمام الجليل:  يا بني ما خيرٌ بعده النار بخير، وما شرٌ بعده الجنة بشر، وكل نعيمٍ دون الجنة محقور، وكل بلاءٍ دون النار عافية.  

      ومن أقوال هذا الإمام الجليل:  قِوام الدين والدنيا أربعة رجال: عالمٌ مستعملٌ علمه، وجاهلٌ لا يستنكف أن يتعلم، وغنيٌ لا يبخل بماله، وفقيرٌ لا يبيع آخرته بدنياه، فإذا ضيَّع العالم علمه استنكف الجاهل أن يتعلم، وإذا بخل الغني بماله باع الفقير آخرته بدنيا غيره .  

      له أقوال رائعة جداً يتحدث فيها عن الله عزّ وجل، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم،   

      وكان كما قال عليه الصلاة والسلام في الفضل والعلم، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم لِعَلِيٍّ: أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْكَ .  



المصدر: السيرة - سيرة الخلفاء الرشدين - سيدنا علي بن أبي طالب - الدرس (1-8) : جده وأبوه