بحث

علي بن أبي طالب4 حكم ومواعظ

علي بن أبي طالب4 حكم ومواعظ

بسم الله الرحمن الرحيم

 

ثلاث صفات للنجاح:  

      أيها الأخوة، مع سيدنا عليٍ بن أبي طالب كرم الله وجهه،   

      يقول:  صدر العاقل صندوق سره، والبشاشة حبالة المودة، والاحتمال قبر العيوب ،  

ثلاث صفات،   

      كما قال عليه الصلاة والسلام استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود  

البشاشة حبالة المودة، الوجه الطلق، الوجه البشوش،  

      هذا يسبب تأليف قلوب الناس لك، هذا يسبب اكتساب الأصدقاء،   

والاحتمال قبر العيوب  

      أنت فيمن حولك لك أصدقاء، لك أخوان، لك أقرباء، هؤلاء ليسوا معصومين، فإذا حاسبتهم على كل واحدة، ضج الناس من حولك وانفضوا عنك، أما إذا احتملت أخطاءهم، فهذا من كرم الأخلاق ومن علو المقام عند الله عزَّ وجل.  

 

وصفه للدنيا :  

      قال هذا الإمام الجليل:  إذا أقبلت الدنيا على أحدٍ أعارته محاسن غيره، وإذا أدبرت عنه، سلبته محاسن نفسه ،  

      فإذا وفّقك الله عزَّ وجل فكل مَن حولك في خدمتك، وإذا لم يوفقك فمحاسنُك وعقلك لا تنفعك، ومالك لا ينفعك، بل كل ما تملكه يتلاشى، لذلك فسر بعض المفسرين قول الله عزَّ وجل:( أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي)  

      آية عظيمة جداً، أي إذا ألقى الله عليك محبته، أي ألقى حبك في قلوب الخلق، هذه من أعظم النعم، أعظم نعمةٍ أن يمدحك الناس في غيبتك، لكنَّ الإنسان القوي قد يهابه الناس، ولكنهم في غيبته يذمونه، ويتحدثون عنه بما لا يريد، فمقياس نجاحك مع الناس لا ما يقال في حضرتك، بل ما يقال في غيبتك، ومِن أجمل التوجيهات اللطيفة لحديث رسول الله عليه وسلم:  إنّ أسرع الدعاء إجابةً دعوة غائب لغائب، أو دعوة الأخ لأخيه بظهر الغيب .  

      فأنت متى تمدح أخاك في غيبته أم في حضرته؟ لكن طبيعة الحياة والمجاملات تقضي مجاملته في حضرته، أما حينما تمدح أخاً في غيبته، فهذا دليلٌ قطعيٌ على أنه محسن، إذًا: هذا المحسن الذي يُمدَح في غيبته، وإذا دعوت له فأغلب الظن أن الله يستجيب له، بل إن أسرع الدعاء إجابةً دعوة غائبٍ لغائب، أو دعوة الأخ لأخيه في ظهر الغيب، إذًا: فاسعوا من خلال سلوككم أن يمدحكم الناس في غيبتكم لا في حضرتكم.  

بيانه في كيفية مخالطة الناس وكيفية الشكر للمنعم :  

      قال:  خالطوا الناس مخالطةً إن متم معها بكوا عليكم، وإن عشتم حنوا إليكم ،  

      بعض الناس قد يقبض يده، فأقرب الناس إليه يتمنى موته، وبعض الناسِ أحياناً يبسط يده، فأبعدُ الناس عنه يتمنى حياته، وشتان بين من يعيش بين أُناسٍ يفدونه بأرواحهم، وبين من يعيش مع أناسٍ ينتظرون موته.  

      قال:   إذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه شكراً للقدرة عليه ،  

      موضوع الشكر أيها الأخوة مِن أرقى الأحوال، ألا يكفينا أن الله عزَّ وجل يقول: ( مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً)  

      فإذا آمنتَ وشكرتَ فأنت على الصراط المستقيم، فأنت على المنهج القويم، فأنت باتجاه الهدف الصحيح، فأنت تحقق سر وجودك إذا آمنت وشكرت، الشكر مستويات:  

  1. أبسطها وأدناها أن تعرف أن هذه النعمة من الله.  
  2. أن يمتلئ قلبك امتناناً وحمداً لله.  
  3. أن ترد على هذه النعمة الجزيلة بخدمة الخلق.  

      لذلك أقول لكم دائماً: في اللحظة التي يستقر فيها الإيمان في القلب يعلن عن نفسه بحركةٍ نحو خدمة الخلق والدعوة إلى الحق.  

حرصه على الأخوة والحذر من فقدانهم :  

      يقول هذا الإمام الجليل:   أعجز الناسِ مَن عجز عن اكتساب الأخوان، وأعجزُ منه مَن ضيَّع من ظفر به منهم ،  

أقول لكم بصدق: وسائل وأساليب كثيرة، وجهود جبارة، ومواقف ذكية جداً، إذا فعلتها اكتسبت ود أخيك، لكنْ موقفٌ أحمقٌ واحد، أو موقفٌ غير مسؤول، أو موقفٌ فجٌ واحد يصرفه عنك، هذه الآية أرجو من الله عزَّ وجل أن تكون عندكم واضحة،       يخاطب الله النبي عليه الصلاة والسلام، يقول له يا محمد: ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ )

      من هو؟ هو سيد الخلق، وحبيب الحق، المعصوم، الذي يوحى إليه، الذي جاءه القرآن، المؤيَّد بالمعجزات، كل هذه الميزات لو أنه كان مع أصحابه فظاً غليظ القلب لانفض الناس من حوله، فأنت من؟ فإذا كنتَ مؤمناً فلا تملك أي ميزة، فإذا قسوت على الناس فمن باب أولى أن ينفض الناس من حولك، إذًا: التفاف الناس حولك، وانفضاضهم من حولك، مقياسان أشار القرآن إليهما،       قال الشاعر:  

ما كنت مذ كنت إلا طوع أخواني***ليست مؤاخذة الأخوان من شاني  

إذا خليلي لم تكثر إساءته فأيــن***موضع إحساني وغفرانـــي؟  

      أنا أقول لكم هذا الكلام: بطولة أحدكم تتجلى في اكتساب الأصدقاء، حتى إن كتباً أُلِّفت في العالم الغربي، وطُبِع منها عشرات الملايين مِن النسخ، كيف تكسب الأصدقاء؟ هم يبحثون عن صديقٍ لينتفعوا به، لكن المؤمن يبحث عن صديقٍ ليدله على الله، وشتان بين الهدفين.  

      النجاح شيء عظيم، قد تجد إنسانًا نجح في التجارة لكنه بدأ عاملاً، أو بدأ عاملاً متجولاً، وانتهى إلى تاجر يتكلم بألوف الملايين، فهذا نجح في التجارة، وأحياناً ينجح الإنسان في الصناعة، ويصبح صناعيًّا كبيرًا، وأحياناً ينجح في العلم فيأخذ أعلى الشهادات، ويكتب المؤلفات، ويلمع صيته، ثم ينال درجة نوبل مثلاً، هذا نجاح، فهناك نجاح بالعلم، ونجاح بالمال، حتى في مجال الدعوة إلى الله فهناك نجاح، فالنجاح شيء عظيم، والوصول إلى قمة النجاح لا بدَّ من أن يسلك طريقاً طويلة وشاقَّة وصاعدة وملتويةً، وفيها حفر، وفيها أشواك، وفيها حشرات، فإذا وصل إلى قمة الجبل أي إلى قمة النجاح، والله الذي لا إله إلا هو هناك عشرات الطرق الزلقة التي تجعله في قعر الوادي فليحذرْ ليبقى في قمة النجاح.  

      هذه الكلمة أتمنى من كل قلبي أن تكون في كيانكم، بطولتك لا في بلوغ قمة النجاح بل في البقاء في قمة النجاح، فهنا يقول سيدنا علي:  وأعجز منه من ضيَّع من ظفر به منهم  

       تذكرون أنّ هرقل حينما سأل أبا سفيان: أيتركه أصحابه؟ قال: لا. الإنسان تتنامى علاقاته، تتنامى محبته، يتنامى ولاؤه، يتنامى إكباره، تتنامى استفادته، فالتنامي دليل أن هذا الإنسان على حق، وأنه مطبِّقٌ للسنة فلو حصل انفضاض من حوله فلديه خلل واضح جداً.  

هذا الفصل يبين التوحيد الخالص :  

      قال رضي الله عنه:  من ضيعه الأقرب أتيح له الأبعد   

      إنّ الله رحيم فيمتحن الناس، وأقرب الناس قد يتخلى عنك، فإذا كنت مع الله سخَّر لك أبعد الناس، لذلك قالوا: إذا كان الله معك فمَن عليك، وإذا كان عليك فمَن معك؟  

      كن مع الله ولا تبالي، فإذا رضي الله عنك سخَّر خصومك وأعداءك لخدمتك، وإذا تخلى الله عنك، تخلى عنك أقرب الناس إليك.  

      وقال:  تذل الأمور للمقادير حتى يكون الحتف في التدبير،  

      قد يقع الإنسان في غضب الله، وقد يكون مع ذلك ذكيًّا جداً، وقد يكون متفوقًا جداً، وقد يكون مِمَّن يُعِدُّ لكل شيءٍ عدَّته، ثم يكون حتفه في تدبيره، أي إذا أراد الله إنفاذ أمرٍ أخذ من كل ذي لبٍ لبه، لذلك إذا كان الله معك فمن عليك، وإذا كان عليك فمن معك.  

 

تفسيره للأجل :  

      قال:   من جرى في عنان أمله عثر بأجله  

      حينمــا يفكر الإنسانُ تجـد خواطره تذهب عشرين سنة إلى الأمام، وأحياناً ثلاثين سنة، ولا يدري أن أجلّه بعد سنة واحدة، فهذا المتأمِّل أحمق، حتى إن النبي عليه الصلاة والسلام رسم خطًّا خارجًا من مستطيل، وهذا الخط بعضه داخل المستطيل، وبعضه خارج المستطيل، ثم قال:  هذا أجله وهذا أمله   

 

لا تبخس بحق أخيك أيها العبد الفقير :  

      يقول هذا الإمام الجليل: أقيلوا ذوي المروءات عثراتهم، فما يعثر منهم عاثرٌ إلا ويد الله بيده يرفعه  

      كلام جميل جداً، إنسان له ماض، فهذا حاطب بن أبي بلتعة صحابيٌ جليل، ضُبِط متلبساً بخيانةٍ عظمى، أرسل كتابًا إلى قريش مع امرأةٍ وهذا الكتاب يُفْشي سر رسول الله عليه الصلاة والسلام، يقول لقريش:   

إن محمداً سوف يغزوكم فخذوا حذركم، هذا الخبر في مقاييس العالم كله خيانةٌ عظمى يستحق الإعدام، جاء الوحي للنبي عليه الصلاة والسلام، وأخبره الخبر، فأرسل أحد أصحابه إلى المرأة وهي في الطريق فانتزع منها الكتاب، واستدعى النبي حاطب بن أبي بلتعة،   

       وقال له: ما هذا يا حاطب؟   

       فقال سيدنا عمر: يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق.   

      والقتل جزاء عادل له، ولكن هنا عظمة رسول الله عليه الصلاة والسلام،   

       قال: لا يا عمر إنه شهد بدرًا،   

      فالهدر أي أن تهدر للإنسان ماضيه، تهدر له عمله الطيِّب لإساءةٍ كبيرة أو صغيرة، فهذا ليس من المروءة، وقال حاطب: يا رسول الله ما كفرت ولا ارتددت، وذكر له عذره،   

      فالنبي الكريم قال:  إني صدقته فصدقوه، ولا تقولوا فيه إلا خيراً .  

      حتى إن كُتَّاب السيرة، قالوا:    

      نظر عمر إلى ذنبه، ونظر النبي إلى صاحب الذنب، فرأى أن ذنبه لحظة ضعفٍ طارئة ألمّت به، فأعانه على نفسه، وأنهضه، وصلح عمله، وأرسله بعد حين رسوله الشخصي إلى بعض الملوك، واستحق أعلى مراتب الإيمان .  

      ماذا يقول هذا الإمام الجليل؟  أقيلوا ذوي المروءات عثراتهم فما يعثر منهم عاثر إلا ويد الله بيده يرفعه  

      أي إن الله عزّ وجل وفيٌّ، فإذا كان لك ماضٍ طيِّب، إذا كانت لك استقامتك، وأعمالك الصالحة، ودعوتك إلى الله، ثم حدث خطأ أخذَ الله عزّ وجل بيدك ليؤدبك، ولكن الله عزّ وجل لا يتخلى عنك، وهذا من أجلِّ الطمأنينة.  

      فيا أيها الأخوة الكرام، فالله عزّ وجل ينمي الخير القليل، ويأخذ بيدِ المؤمن كلما عثر، أو كلما زلَّت به قدمه، إذًا: فالله عزّ وجل في عليائه يأخذ بيدِ المؤمن إذا عثر، أفأنت لا تغفر له؟ ولا ترحمه؟ ولا تعفو عنه؟ هذا كلامٌ كما يقال يكتب بماء الذهب.  

يلفت نظر المتأمل على انتهاز فرص الخير :  

      قال:  قُرنت الهيبة بالخيبة، والحياء بالحرمان، والفرصة تمر مرّ السحاب، فانتهزوا فرص الخير  

      إنّ في الإنسان صفتين وهما: صفة الحياء، وصفة الخجل، الحياء فضيلة لكن الخجل صفة مذمومة، فسيدنا علي أشار إلى أن الخجل أحياناً ترافقه الخيبة، استحى أن يطالب بحقه، استحى أنْ يتقدم بطلب، واستحى أنْ يتكلم، واستحى أنْ يعرض ما عنده، هذا الحياء أوصله إلى الخيبة، وهذا الخجل نقله إلى الحرمان، والفرص تمرُ سريعاً ولا تتكرر، فانتهزوا فرص الخير، فالأذكياء دائماً ينتهزون الفرص، قال الشاعر:  

إذا هبت رياحك فاغتنمها***فإن الريح عادتها السكـون  

وإن درَّت ناقتك فاحتلبها***فما تدري الحليب لمَن يكون؟  

      هذا كلام طيب، فالخجل يقودك إلى الخيبة، والخجل أيضاً ينقلك إلى الحرمان، والفرص تمرُ مرّ السحاب فانتهزوا فرص الخير، هذا الكلام يؤكد قولَ النبي عليه الصلاة والسلام حينما قال:   أنا مدينة العلم وعليٌ بابها .  

كفارة الذنب:  

      قال:   إن من كفارات الذنوب العظام إغاثة اللهفان، والتنفيس عن المكروب  

      أي إن إغاثة اللهفان مِن كفارات الذنوب العظام، فأنتم تسمعون أن امرأةً بغياً سقت كلباً يأكل الثرى من العطش فغفر الله لها، فاللهفان إذا أغثتَه غفر الله لك،  قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفضل المعروف إغاثة الملهوف .  

      حدثني أخ، فقال لي: كنت أركب مركبتي، وقد أتيت من مكان بعيد، فوصلت إلى بلدة صغيرة الساعة الثانية عشر ليلاً، فرأيت امرأةً وزوجها ومعهما طفلٌ صغير، يبدو أنه مريض، فوقفتُ لهما، وأسعفت الطفل الصغير من المستشفى، إلى الطبيب، إلى الصيدلي، حتى تماثل، وذهب عنه الخطر، وبقيت معهما حتى الساعة الخامسة صباحاً، وهو مرهق، ويقول لي وهو صادق: عشرة أيام، وأنا منغمسٌ في سعادةٍ لا توصف، من كفارات الذنوب العظام إغاثة الملهوف، والتنفيس عن المكروب.  

      وعلماء النفس، يقولون:  إن الذي يكذب يكشف نفسه من فلتات لسانه ، وقد قال الإمام عليٌ كرم الله وجهه: ما أضمر أحدٌ شيئاً إلا ظهر في فلتات لسانه، وصفحات وجهه،  

       ولحكمةٍ بالغة جعل الله صفحة الوجه مرآة النفس، فإنك ترى في الوجه المودة، وترى التسامح، وترى العفة، وترى الحقد، وترى الكراهية، كل ما يعتلج في النفس يطبع على صفحة الوجه، وكأن الوجه وجه النفس.   

 

نصحه للعابد :  

      ويقول هذا الإمام الجليل:  أفضل الزهد إخفاء الزهد  

      الشيطان له وساوسُ لا تنقطع، فإذا صليت الليل، فلا تقل: صليت قيام الليل، أو تصدقت، فكلما أخفيت أعمالك الصالحة كان هذا عوناً لك على أن تستخدمها في الإقبال على الله.   

      فإذا سكتّ أخرستَ الشيطان، لذلك افعل بعض العبادات التي لا يستطيع الشيطان أن يقول لك: إنك ترائي بها، أفضل الزهد إخفاء الزهد.  

 

احذر الاستدراج بك يا مسكين :  

      قال:   إذا كنت في إدبارٍ، والموت في إقبالٍ، فما أسرع الملتقى  

      إذا وجدتَ سيارتين باتجاه واحد، وإحداهما أسرع من الثانية، فإن اللقاء يكون صعبًا، وقد يكون اللقاء مستحيلاً، وقد تزداد المسافة بينهما سعةً وبُعْدًا، أما إذا كان ثمّة مركبتان تتحركان باتجاهين متعاكسين، فما أسرع اللقاء ولو أنهما بطيئتان، فماذا يقول هذا الإمام الجليل؟ يقول:  إذا كنت في إدبار فالإنسان يتقدم به السن، وهو في إدبارٍ عن الدنيا، والموت في إقبال فما أسرع المُلتقى، لذلك أخطر حدث في حياتنا هو نهاية العمُر، وختام العمل، قال تعالى: يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي   

      ويقول هذا الإمام الجليل:   الحذر الحذر فو الله لقد ستر حتى كأنه قد غفر  

      أي أن الله أرخى الحبل، يقول لك: لم يحدث لي شيء، ليس مِن كلمة أغبى من هذه الكلمة، اقترف المعاصي، وكسب المال الحرام، وتعامل بالربا، ونظر إلى ما لا يحل له، ثم يقول: لم يصِبْني مكروهٌ، لكنّ الإمـام قـال:  الحذر الحذر فو الله لقد ستر حتى كأنه قد غفر  

      أي أن الله يرخي الحبل، لأنه لو عاقبك بعد المعصية، وأكرمك بعد الطاعة لأُلغي الاختيار، ودخلنا في الجبر والاضطرار.   

 

الخير والشر :  

      يقول هذا الصحابي الجليل:  فاعل الخير خيرٌ من الخير، وفاعل الشر شرٌ من الشر  

      هذا الذي ألقى على هيروشيما قنبلة ذرية سواء الذي ألقى، والذي أمر بإلقاء هذه القنبلـة، وها قد مضى عليها خمسون عامًا وأكثر، وآثارها انتهت، والبلدتان الآن قد عُمِرَتا، وتمتلئان بالناس، والقضية أصبحت في طِّي النسيان، هل يعفى صاحب الشر من العقاب؟ لا، يبقى الإثم الذي يعذَّب به في النار إلى أبد الآبدين، وأنت أنشأتَ مستشفى، أو أنشأت ميتمًا، أو بنيت مسجدًا، وعملت أعمالاً جليلة، لا أقول لك تنقضي سريعاً، وانتهت هذه الأعمال، فأنت أفضل منها لأنك تسعد بهذه الأعمال إلى أبد الآبدين، نقطة مهمة جداً، فالشر ينتهي بانتهاء العالم، والخير ينتهي بانتهاء العالم، ولكن ما الذي يبقى؟ يبقى فاعل الشر في جهنم وبئس المصير، وفاعل الخير في جناتٍ عرضها السموات والأرض.  

 

حكم متنوعة :  

      قال:   مَن أطال الأمل أساء العمل   

      ضعف اليقين والأمل آفتان خطيرتان تضعف الإنسان،   

      سيدنا علي رضي الله عنه، يقول لابنه الحسن:  يا بني احفظ عني أربعة وأربعة، لا يضرك ما عملتَ معهُن، إن أغنى الغنى العقل، وأكبر الفقر الحمق، وأوحش الوحشة العجب، وأكرم الحسب حسن الخلق ،   

      أيْ أغنى شيء تمتلكه هو العقل، وأشد الناس فقراً من كان أحمقَ، وأوحش الناس من أُعجب بنفسه، فانفض الناس مِن حوله، أي إنه متكبر، أكرم الحسب حسن الخلق.  

      واسمعوا لهذا التعليل، قال:  سيئةٌ تسوؤك خيرٌ عند الله من حسنةٍ تعجبك   

      عمل عملا طيبًا ما شاء الله، فقد أصابه الغرور فلا أحد يستطيع أن يكلمه، وأصبح فوق الناس، وأصبح الناس عنده كلهم كفارًا، لا والله، لو قصَّرت تقصيرًا، وهذا التقصير حملك على التواضع، والتذلل، والعبودية لله كان أفضل منه.  

 

من أذل نفسه للئيم فقد أهانها :  

      قال: من حذَّرك كمن بشَّرك  

      أي إذا حذرك إنسان، وكان مخلصًا، واستجبت له فكأنما أكرمك، وبشرك بالنجاة، قال:  فوت الحاجة أهون من طلبها إلى غير أهلها  

      أي إذا أنت وقفت موقفاً ذليلاً، وبذلت ماء وجهك أمام إنسان لئيم، ولو شعرت بكرامتك لآثرت أن تفوتك هذه الحاجة على أن تقف هذا الموقف، ولهذا الإمام الجليل قول مشهور وهو: والله والله مرتين، لحفر بئرين بإبرتين، وكنس أرض الحجاز في يومٍ عاصفٍ بريشتين، ونقل بحرين زاخرين بمنخلين، وغسل عبدين أسودين حتى يصيرا أبيضين، أهون عليّ من طلب حاجةٍ من لئيمٍ لوفاء دين،  

      لأن  فوت الحاجة أهون مِن طلبها إلى غير أهلها  

      وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ومن جلس إلى غنيٍ فتضعضع له ذهب ثلثا دينه .  

من مواعظه أيضاً :  

      قال:   لا تستحيِ من إعطاء القليل فإن الحرمان أقل منه  

      قال:  إذا تم العقل قل الكلام، الإنسان يزين كلامه، يتكلم فيغنم، أو يسكت فيسلم، هذا هو العقل.  

      قال:   ن نصَّب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومعلِّم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومؤدبهم .  

      قال:  نَفَسُ المرء خطاه إلى أجله ، وقال:  كل معدودٍ منقضٍ، وكل متوقعٍ آت ، ما دام الشيء يُعدُّ فسوف ينتهي يومًا مِن الدهرِ، الواحد يعيش ستين سنة، أو سبعين سنة، ثم ينتهي وينقضي.  

 

كلمته عن القضاء والقدر :  

      ومن أروع ما قال هذا الإمام الجليل في القضاء والقدر عندما سأله أحد السائلين:    

      أكان مسيرنا إلى الشام بقضاءٍ من الله وقدر؟ وبعد كلامٍ طويل، قال:  ويحك لعلك ظننت قضاءً لازماً، وقدراً محتوماً، لو كان كذلك لبطُل الثواب والعقاب، وسقط الوعد والوعيد، إن الله تعالى أمر عباده تخيراً، ونهاهم تحذيراً، وكلَّف يسيراً، ولم يكلف عسيراً، وأعطى على القليل كثيراً، ولم يُعْصَ مغلوباً، ولم يُطَعْ مكرهاً، ولم يرسل الأنبياء لعباً، ولم ينزل الكتاب للعبادِ عبثاً، ولا خلق السموات والأرض وما بينهما باطلاً، ذلك ظنُّ الذين كفروا، فويلٌ للذين كفروا من النار .  

      هل كان هذا الإمام جبرياً في عقيدته؟ أبداً، إنه يؤمن أن الإنسان مخير، لو كان هناك جبر لبَطُل الوعد والوعيد، والثواب والعقاب، والجنة والنار، والتكليف والأمانة والتبعة والمسؤولية، وأصبح إرسال الأنبياء لعبًا، وإنزال الكتب عبثًا،   

      وانتهى كل شيء، فما مِن إنسان يعتقد عقيدة الجبر إلا زلَّ وضلَّ .  

 

قيمة المرء ما يحسنه :  

      قال:  قيمة كل امرئ ما يحسنه،  

      أما في آخر الزمان فقيمة المرء متاعه، أي ثمن بدلتك، ونوع سيارتك، وموقع بيتك، ومساحته، وأثاثه، والتحف، وقد يكون صاحبُ هذا المتاع أحقرَ إنسان، يقول سيدنا علي:  قيمة المرء ما يحسنه، أما في آخر الزمان قيمة المرء متاعه ، والإنسانُ في زمن التخلف يستمد مكانته من المظاهر الخارجية.  

      وكان سيدنا علي رضي الله عنه فَطِنًا، فمرة أثنى عليه أحدُهم، وكان منافقًا، فقال له:  أنا دون ما تقول، وفوق ما في نفسك.  

نصيحته لأهل العلم :  

      قال:   مَن ترك قول لا أدري أصيبت مقاتله ،  

      اسمعوا هذا الكلام الدقيق، قل: لا أدري وأنت في أعلى درجات العلم، قال:  من قال لا أدري فقد أفتى  

      إذا سألت واحدًا، وقال لك: واللهِ لا أدري، فإن هذا عالم، لأنه من شدة ورعه خاف أن يتكلم بشيء من غير علم، فقال:  من ترك لا أدري فقد أصيبت مقاتله ، أي أنه انتهى، فقد أَضاع علمه ومكانته، والإمام مالك جاءه وفد من المغرب العربي، سار إليه ثلاثة أشهر، ومعهم ثلاثون سؤالاً، فأجاب عن سبعة عشر، والباقي قال فيها: لا أدري، معقول وأنت إمام؟، قال لهم:  قولوا لمن في المغرب الإمام مالك لا يدري ، بهذه البساطة.   

 

اسمع أيها القلب :  

      وقال هذا الإمام الجليل:  عجبت لمن يقنط ومعه الاستغفار!  

      لماذا القنوط؟ قل: أستغفر الله.  

       وقال:   من أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن أصلح أمر آخرته أصلح الله له أمر دنياه، ومن كان له من نفسه واعظٌ كان عليه من الله حافظ ،  

      واللهِ هذا الكلام يكتب بماء الذهب،  من أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس ، فإنْ يكون قلبك عامرًا مع الله فالكل يحبونك،  ومن أصلح أمر آخرته أصلح الله له أمر دنياه ، أي تأتيه الدنيا وهي راغمة، ومن كان له من نفسه واعظٌ كان عليه من الله حافظ.  

      وقال هذا الإمام الجليل: إن هذه القلوب تمل كما تمل الأبدان فابتغوا لها طرائف الحكم ،  

      أي إن للموجه الراقي الداعي أنْ يمرح ويمزح، فالمرح أحياناً يكون مفيد جداً يلين القلوب ويجدد النشاط، وعلى الإنسان أنْ يكون بسَّامًا ضحَّاكًا، وكان النبي يمزح مع أصحابه، ولا يمزح إلا حقاً.  



المصدر: السيرة - سيرة الخلفاء الرشدين - سيدنا علي بن أبي طالب - الدرس (4-8) : أمارته وحكمه