تتحلى هذه الشخصية الفذة بصفة نادرة، الإنسان دائماً في الأعم الأغلب، إذا تفوق يصيبه الغرور، الغرور من لوازم المتفوقين, فإنسان لا يستطيع الغرور أن يتسلل إليه, وهو في قمة المجتمع فهذه شخصية فذة، فقد دخل الإسلام بحفاوة النبي البالغة، وصحبه الكرام، كان دخوله حدثًا كبيرًا، وكان عليه الصلاة والسلام يقول: “اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ بِأَحَبِّ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ إِلَيْكَ بِأَبِي جَهْلٍ أَوْ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ وَكَانَ أَحَبَّهُمَا إِلَيْهِ عُمَرُ”. ولما دخل في الإسلام صار المسلمون يعبدون الله جهراً بعد أن كانوا يعبدونه سراً، إذاً: ترك أثرًا واضحًا في إسلامه . النبي عليه الصلاة والسلام نعته بالفاروق، والنبي عليه الصلاة والسلام إذا نعت إنسانًا بصفة عالية فهي حق، لأنه فرق بإسلامه بين الحق والباطل، وبين الملاينة والمواجهة، ثم يصبح هذا الصحابي الجليل خليفة المسلمين، وكل هذه الميّزات ما سمح للغرور أن يطوف حول نفسه .
لما خطب هذا الخليفة العظيم على المنبر، ألقى خطبته المشهورة، فإذا به يقول: "أيها الناس، لقد رأيتني وأنا أرعى غنم خالات لي من بني مخزوم، نظير قبضة من تمرٍ أو من زبيب" ثم ينزل هذا الخليفة من على المنبر بين دهشة الناس واستغرابهم, فما علاقة هذا الكلام بخطبته؟ يتقدم أحد الصحابة، وهو سيدنا عبد الرحمن بن عوف، ويقول له: “يا أمير المؤمنين, ما أردت بهذا الكلام؟ وما علاقته بالخطبة؟ وما مناسبته؟ وما سببه ؟ فيقول عمر: ”ويحك يا ابن عوف، خلوت بنفسي فقالت لي: أنت أمير المؤمنين، وليس بينك وبين الله أحد, فمن ذا أفضل منك؟ فأردت أن أعرفها قدرها" .
سيدنا عمر, كان يقول: "لقد كنا ولسنا شيئاً مذكوراً حتى أعزَّنا الله بالإسلام، فإذا ذهبنا نلتمس العزَّة في غيره أذلنا الله" الحقيقة أنّ العرب في الجاهلية ما كانوا شيئًا مذكورًا، قبائل متفرِّقة، تعيش فوضى في حياتها، فوضى في علاقاتها، فوضى في كسب المال، يعيشون في تخلُّف شديد، وفي خشونة بالغة، وفي عِداء مستمر .
الأحنف بن قيس, قال: "كنت مع عمر بن الخطاب فلقيه رجل، قال: يا أمير المؤمنين انطلق معي فأعنِّي على فلان فقد ظلمني ، سيدنا عمر رفع دُرَّته، وخفق بها رأس هذا الرجل، وقال له: تدعون أمير المؤمنين، وهو معرَّضٌ لكم، مقبلٌ عليكم، حتى إذا شُغِل بأمرٍ من أمور المسلمين أتيتموه أعنِّي أعنِّي، فانصرف الرجل غضبان أسفاً، فقال عمر: عليَّ بالرجل ، فلما عاد ناوله مخفقته، وقال له: خذ واقتص لنفسك مني، قال الرجل: لا والله، ولكني أدعها لله ، وانصرف ، قال الأحنف: وعُدتُ مع عمر إلى بيته، فصلى ركعتين، ثم جلس يحاسب نفسه، ويقول: ابنَ الخطاب كنت وضيعاً فرفعك الله، كنت ضالاً فهداك الله، كنت ذليلاً فأعزَّك الله، ثم حملك على رقاب الناس، فجاءك رجل يستعين بك فضربته، فماذا تقول لربك غداً ؟ " .
فكان سيدنا عمر, يقول: "ليت أم عمر لم تلد عمر، ليتها كانت عقيما" من شدة خوفه من الله عزَّ وجل, ومن شدة توقيره له, وكان في حياته هاجس يومي، كان يقول دائماً : "لماذا فعلت هذا يا عمر؟" يخشى أن يعمل عملاً يحاسبه الله عليه, فأبعدَ نفسَه عن كل المباحات التي يمكن أن تجره إلى خطأ .
عندما توفى النبي عليه الصلاة والسلام، قال له سيدنا الصديق: "يا عمر هات يدك نبايع لك" لكن عمر تخلّص منها ناجياً, إذْ قال: "بل إيَّاك نُبايع فأنت أفضل مني, قال أبو بكر: وأنت أقوى مني يا عمر، قال عمر: إن قوتي لك مع فضلك".
عندما بويع سيدنا عمر بالخلافة، وقف مكان سيدنا الصديق على المنبر، فتذكر أنّ الصديق وقف هنا، فنزل درجة، فلما نزل درجة أثار انتباه الحاضرين، فقال سيدنا عمر: "ما كان الله ليراني أن أرى نفسي في مقام أبي بكر" , فليس معقولاً أن أقف على درجته.
ذات مرة سأل عمر عمَّاله في الأقاليم، فقال بعضهم: "أمّا بلدُ كذا فإنهم يرهبون أمير المؤمنين، ويخافون بأسه، وأما بلد كذا، فإنهم جمعوا أموالاً كثيرة، تنوء بها السفن، وهم في الطريق إليك، وأمّا بلد كذا فإن بها قوماً صالحين، يدعون الله لك، ويقولون: اللهم اغفر لعمر، وارفع درجته" أي أنه قد جاءته معلومات من الأقاليم، فبلد يرهبونه، وبلد يدعون له، وبلد جمعوا أموالاً طائلة ساقوها إليه، فقال سيدنا عمر معقباً: "أما من خافني فلو أريد بعمر الخير ما خِيف منه ( هذه صفة ذم )، وأما الأموال التي تنوء بها السفن فلبيت مال المسلمين ليس لعمر, ولا لآل عمر شيء، وأما الدعاء الذي سمعتم بظهر الغيب فذلك ما أرجوه" ارتاحت نفسه لمن دعا له بظهر الغيب فهذه الدعوة مباركة ومستجابة .
مرة قال لعبد الرحمن بن عوف: “يا عبد الرحمن لقد لِنتُ للناس، حتى خشيت الله في اللين، ثم اشتددت، حتى خشيت الله في الشدة، وايم الله لأنا أشد منهم فرقاً وخوفاً، فأين المخرج؟ ” أي أنا خائف أكثر منهم، خائف أنْ أحاسَب على الشدة، وخائف أنْ أحاسَب على اللين، ثم يبكي، فيقول عبد الرحمن بن عوف, وهو يتملَّى هذا المشهد ملياً: "أف لهم من بعدك " أي أعان الله من بعدك، لقد أتعب من سيجيء من بعده .
ذات مرة كان جالسًا مع أصحابه، فاقتحم المجلس رجل مكروب، تغشاه وعثاء السفر، وحين اقترب من الناس، رآهم وسمعهم يقولون لأحدهم: "يا أمير المؤمنين" فيتّجه صوبَ هذا الأمير، ويقول له في مرارة: " أَأنت عمر؟ ويل لك مِن الله يا عمر, ثم يمضي لسبيله غير وان، ولا مكترث، لحق به الحاضرون في غيظ وحنق، ولكن عمر يناديهم ويأمرهم أن يعودوا لمجلسهم ، ويهرول هو وراءه وقلبه يرتجف . لحقه حتى أدركه، فقال له: ويلي من الله، لماذا يا أخا العرب؟ فيجيبه الرجل: لأن عمالك وولاتك لا يعدلون بل يظلمون، ويسأل عمر: أي عمّالي تعني؟ فقال: عاملك على مصر، اسمه عياض بن غَنم، ولا يكاد عمر يسمع تفاصيل الشكوى، حتى اختار من أصحابه رجلين يقول لهما: اركبا إلى مصر، وأتياني بعياض بن غَنم " كان شديدًا على ولاته، ويحاسبهم دون هوادة .
إذا لقي صبياً في الطريق يأخذه بيده، ويقول له وعيناه تبكيان: " ادعُ لي يا بني فإنك لم تذنب بعد " فالعظماء مع شدة عظمتهم تجدهم متواضعين حتى مع الصبيان .
سمّاه علماء السيرة: “جبَّار الجاهلية، عملاق الإسلام ”كان يؤمّ الناس في الصلاة فَيَسمع بكاءه ونشيجَه أصحاب الصف الأخير, مرة هرول وراء بعير أُفلت من حظيرته، ويلقاه عليُّ بن أبي طالب فيسأله: “إلى أين يا أمير المؤمنين؟ فيجيبه: بعير ند من إبل الصدقة أطلبه, فيقول له علي كرَّم الله وجهه: لقد أتعبت الذين سيجيئون من بعدك، فيجيبه عمر بكلمات: والذي بعث محمداً بالحق, لو أن عنزةً ذهبت بشاطئ الفرات, لأُخذ بها عمر يوم القيامة” أي أن إدراكه للمسؤولية كان بدرجة تفوق حد الخيال . ودائماً نشيده: "كنت وضيعاً فرفعك الله، كنت ضالاً فهداك الله، كنت ذليلاً فأعزَّك الله، فماذا تقول لربك غداً؟"
كان سيدنا عمر على فِراش الموت, وكان في حيرة شديدة لمن يسلِّم له هذه الأمانة، أي الخلافة، فقال له المغيرة بن شُعبة: "أنا أدلُّك عليه يا أمير المؤمنين، قال: من هو؟, قال: عبد الله بن عُمر، فقال عمر: لا أرب لنا في أموركم، إني ما حملتها ( أي الخلافة ) فأرغب فيها لأحدٍ من أهل بيتي، إن كانت خيراً فقد أصبنا منها، وإن كانت شراً فبحسب آل عمر أن يحاسب منهم رجل واحد، ويسأل عن أمر أمة محمد عليه الصلاة والسلام، ألا إني قد جَهِدت نفسي، وحرمت أهلي، وإن نجوت كفافاً، لا وزر ولا أجر، فإني لسعيد " فسيدنا عمر رفض أن تكون الولاية من بعده لعبد الله بن عُمر، وهو ابنه .