الصحابة الذين رضي الله عنهم على كثرتهم يمثلون النماذج الإيمانية التي ينبغي أن يكون عليها المؤمن. نحن مع عملاقٍ كبير من عمالقة الإسلام، والعملقة هنا عملقة إيمانية، مع عملاقٍ كبير من المؤمنين الذين عاصروا النبي عليه الصلاة والسلام, والذين صحبوه بصدقٍ وإخلاص، هذا الصحابي الجليل شخصيَّته شخصيةٌ فذَّة، كلما درسنا من سيرته تنكشف لنا جوانب لم نكن نعرفها من قبل، حتى إن علماء التاريخ في شتّى بقاع الأرض يحتفلون بهذا الخليفة العظيم، لأنه يمثّل أحد القيم الإنسانية الخالدة، وقد سمعت أنه في بعض البلاد الغربية متحف كبير مكتوب على بابه كهف العدالة، وفي هذا المتحف نماذج من سيرة هذا الخليفة الراشد .
في قصة إسلام هذا الخليفة أحداث مثيرة، فذات يوم لاهب خرج هذا الرجل العملاق من داره وسيفه على عاتقه ميمماً وجهه شطر دار الأرقم حيث كان النبي عليه الصلاة والسلام, ونفر من أصحابه المؤمنين يذكرون الله هناك، وفي الطريق يلقاه نعيم بن عبد الله فيرى ملامحه تتفجّر بأساً ونقمة، فيقترب من عمر, ويقول: "إلى أين يا عمر؟ فيجيبه: إلى هذا الصابئ الذي فرّق أمر قريش، وسفه أحلامها، وعاب دينها، وسبّ آلهتها فأقتله“ سيدنا عمر ظن أن هذا الذي يعنفه قد أسلم أيضاً، فقال له: ”لعلك صبأت, إن تكن فعلت فو اللات والعزى لأبدأن بك" ونعيم يعرف تماماً أن ابن الخطَّاب يعني ما يقول، فينهي الحوار بعبارةٍ تلوي زمام عمر إلى جهة أخرى، لأنه لم يحتمل وقعها الشديد، قال: “ألا تعلم يا عمر أن أختك وزوجها قد أسلما وتركا دينك الذي أنت عليه؟ أخته فاطمة بنت الخطاب, إذًا: ماله ولدار الأرقم، وقد اقتحم الخطر دارَه وعرينَه، وهكذا توجه إلى دار أخته ليسوي معها الحساب، قرع الباب قرعاً رهيباً، وقيل:”من ؟ قال: عمر, أما خبّاب فسارع إلى مخبأ قصي في الدار، وأما أخت عمر وزوجها فقد استقبلاه لدى الباب يغشاهما ذهول المفاجأة، ولم تنس بنت الخطاب في هذه الغمرة الداهمة الصحيفة الكريمة التي بها آيات الله فخبّأتها تحت ثيابها من شدة خوفها من عمر، قال عمر: ما هذه الهينمة التي سمعت عندكم؟ (سمعت صوت قراءة) أجابا: لا شيء، إنها نجوى وأحاديث، قال لهما: سمعت أنكما صبأتما, قال سعيد: أرأيت يا عمر إن كان الحق في غير دينك؟ ولم يمهله عمر، فوثب عليه في عنفوانه, وأخذ برأسه يجرّه ويلويه, ثم ألقاه أرضاً، وجلس فوق صدره، أي أن كل الضغط النفسي الذي في عمر صبَّه على زوج أخته، وحينما تقدَّمت أخته لتدافع عنه أصابتها لطمة أدمت وجهها، عندئذ صاحت به وكأنها بوق سماوي, يا عدو الله, أتضربني على إيماني بالله الأحد؟ ألا ما كنت فاعلاً فافعل, فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله “ ، توقف، عندئذ قال لأخته: ”هات الصحيفة التي كنتما تقرأان بها لأنظر ما فيها، وتجيبه أخته: كلا إنه لا يمسّه إلا المطهّرون، اذهب واغتسل وتطهَّر" "ويمضي عمر ليغتسل، ويعود إلى أخته، ويأخذ الصحيفة مِن يديها، ويقرأ فإذا فيها: ﴿طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى *إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى* وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ ويتابع فإذا في هذه السورة: ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي * إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى﴾ سيدنا عمر صار إنسانًا آخر، عانق الصحيفة وقبَّلها، ونهض واقفاً, وقال: لا ينبغي لمن هذه آياته أن يكون له شريك يُعبد معه، دلوني على محمد , سيدنا خبَّاب بن الأرت خرج من مخبئه ، وهرول صوب عمر صائحاً, أبشر يا عمر؟ فو الله لقد استجيب دعاء رسول الله لك، فهو قد سمع الدعاء: “ اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِأَحَبِّ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ إِلَيْكَ بِأَبِي جَهْلٍ أَوْ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ وَكَانَ أَحَبَّهُمَا إِلَيْهِ عُمَرُ ”. وحينما التقى عمر بالنبي عليه الصلاة والسلام، قال للنبي عليه الصلاة والسلام: يا رسول الله ألسنا على الحقّ في مماتنا ومحيانا ؟ قال: بلى يا عُمر، والذي نفسي بيده إنكم لعلى الحق إن مِتُم وإن حييتُم , فقال عمر: ففيم الاختفاء إذاً؟ والذي بعثك بالحق لتخرجن ولنخرجن معك ، بعد أن كُشف له الغِطاء, ورأى الحقيقة الناصعة, ودخل النور إلى قلبه, قال هذا الصحابي الجليل: والله لن أترك مكاناً جلست فيه بالكُفر إلا جلست فيه بالإيمان" .
ما الذي حصل حتى انقلب اندفاعه اندفاعاً آخر؟ قد يقول أحدكم: أيعقل هذا؟ أيكون الإيمان بين عشية وضحاها؟ أيدخل الإيمان إلى قلب الإنسان في طرفة عين؟ فالسحرة ألم يستعن بهم فرعون ليدحضوا الحق الذي جاء به موسى؟ وكيف انقلبوا فجأة من أُناسٍ يعملون لصالح الكُفر إلى أُناسٍ قد آمنوا في أعلى درجات الإيمان؟ لأن فرعون حينما علم أنهم قد آمنوا مع موسى هددهم بالقتل والصلب والتعذيب، فما زادوا عن أن قالوا له: ﴿فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾. أحياناً الإنسان يسلك سبيلاً طويلاً جداً حتى يصل إلى الإيمان، سنوات تلو سنوات يفكِّر في آيات الله, ويجاهد نفسه وهواه إلى أن يصل إلى إشراقة الإيمان، وأحياناً تنقدح إشراقة الإيمان في قلب مؤمن في وقت قصير جداً، فما العلاقة بين هذا الأمد الطويل وبين هذا الأمد القصير؟ الجواب دقيق جداً، في الإنسان عنصر اسمه عنصر الصدق، أن تكون صادقاً مع نفسك في طلب الحقيقة، أن تكون الحقيقة غاليةً عليك جداً بحيث لا تنام الليل إلى أن تصل إليها، ويستعمل بعض العلماء كلمة الصدق, للتعبير عن مدى جدية الإنسان في طلب الحقيقة، وعن مدى إصراره في طلب الحقيقة، وعن مدى اندفاعه إليها، فإذا زاد الصدق أحرق المراحل، الله سبحانه وتعالى كما يقول بعض العلماء: "طليق الإرادة والفعل، فإذا عَلِم من إنسان صدقاً عالياً جداً, أعطاه في وقت يسير ما لا يعطي الأقل صدقاً في وقت طويل" لذلك قال بعض العلماء: "المراتب العُليا لا لمن سبق, ولكن لمن صدق" . إذا وجدت شخصًا لا يصلّي، لا يعتقد بالدين, لكنه شهم، صاحب مروءة، صادق، قلبه رحيم، فتوقَّعْ له كلَّ خير، وانتظرْ منه أن يكون من كبار المؤمنين، لأن هذا الخُلُق لا يقود صاحبه إلا إلى الإيمان، لذلك لما رأى النبي عليه الصلاة والسلام رجلاً قد أسلم, وكان في الجاهلية ذا أخلاقٍ عالية, فقال عليه الصلاة والسلام: "أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنْ خَيْرٍ" .
النبي عليه الصلاة والسلام كان يدرك قيمة هذا الصحابي، قيمة هذا الرجل قبل أن يسلم ، النبي عليه الصلاة والسلام أوتي فهماً عميقاً، وأوتي إدراكاً دقيقاً، وأوتي خبرة في الأشخاص، هو يدرك أن هذا الإنسان لو أسلم لخرج منه خير كثير، هذا الصحابي كان لفترة زمنية من ألدّ أعداء الدين، من ألدّ أعداء النبي عليه الصلاة والسلام، ولا أدلّ على ذلك مِن أنه ذهب ليقتله، ويريح الناس منه، ولكن حينما أسلم كان من أكبر المدافعين عن الدين، ومن أكبر الصحابة الذي خدموا هذا الدين. من سمات هذا الصحابي الجليل أنه كان إذا تكلم أسمع، وإذا مشى أسرع، وإذا ضرب أوجع، وإذا أطعم أشبع، قالوا: “هذا الصحابي لم يخف قطُّ في حياته أبداً، ولم يختلج جنانه الصامد أمام رهبة أو فزع”. “في الجاهلية كانت حربه للإسلام تكاد وحدها تعدل أذى قريش جميعها, وفي الإسلام صارت حربه للوثنية تكاد تعدل مقاومة الإسلام بأسره ” حجمه كبير جداً، إذا اتجه إلى الحق بكل إمكاناته، وحينما كان يحارب هذا الدين فحربه لهذا الدين تعدل حرب قريش كلها، وحينما حارب الوثنية بعد أن أسلم حربه يعدل مقاومة الإسلام كله للوثنية. لذلك حينما يقول بعض العلماء: "هو عملاق الإسلام" وهو في الحقيقة كان عملاقًا في الشكل، كان فارع الطول، عريض المنكبين، قوي البنية . يقول عبد الله بن مسعود: “ما زلنا أعزةً منذ أسلم عُمر، كان إسلامه فتحاً، وكانت هجرته نصراً، وكانت إمارته رحمةً، وما نستطيع أن نصلّي بالبيت حتى أسلم عمر ”. قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ؟ قال: "أَكْرَمُهُمْ أَتْقَاهُمْ . قَالُوا : يَا نَبِيَّ اللَّهِ لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ . قَالَ : فَأَكْرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ . قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ . قَالَ : فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونِي ؟ قَالُوا : نَعَمْ . قَالَ : فَخِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الإِسْلامِ إِذَا فَقُهُوا" .