بحث

عمر بن الخطاب1 حياته في الجاهليه وتبدله من الكفر إلى الإيمان

عمر بن الخطاب1  حياته في الجاهليه وتبدله من الكفر إلى الإيمان

بسم الله الرحمن الرحيم

 من مصادر التشريع:  

      أيها الأخوة، مع سيرة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه، لا تنسوا أن النبي عليه الصلاة والسلام، يقول:   فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ  

      قبل أن نمضي في الحديث عن سيرته ينبغي أن نقف وقفة قصيرة عند حقيقة أساسية، هذه الحقيقة هي أن أصول الإسلام تبدأ بالقرآن الكريم، وهو وحي السماء إلى الأرض، وتأتي سنة النبي القولية بيان وتفصيل لهذا الأصل الأول، قال تعالى:  ( لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ

      وتأتي سيرته العملية تجسيد لفهم النبي عليه الصلاة والسلام لكتاب الله، وتجسيد لبيان ما في كتاب الله الكريم، بقي في أصول الإسلام أصل رابع وهو أن صحابة رسول الله رضوان الله تعالى عليهم، رضي الله عنهم بنص القرآن الكريم،   

      إذاً: هؤلاء الصحابة على كثرتهم يمثلون نماذج إيمانية كلُّها مقبولة، فهذا الغني، وهذا الفقير، وهذا الشيخ الكبير، وهذا الشاب الصغير، وهذا الذي نشأ في نعم لا تعد ولا تحصى، وهذا الذي هاجر، وهذا الذي مرض، وهذا الذي عَمَّر طويلاً، وهذا الذي مات في سن الشباب، هذا الذي مات حتف أنفه، وهذا الذي مات في ساحة المعركة، هؤلاء الصحابة الذين رضي الله عنهم على كثرتهم يمثلون النماذج الإيمانية التي ينبغي أن يكون عليها المؤمن.  

      لذلك نحن مع عملاقٍ كبير من عمالقة الإسلام، والعملقة هنا عملقة إيمانية، مع عملاقٍ كبير من المؤمنين الذين عاصروا النبي عليه الصلاة والسلام، والذين صحبوه بصدقٍ وإخلاص، هذا الصحابي الجليل شخصيَّته شخصيةٌ فذَّة، كلما درسنا من سيرته تنكشف لنا جوانب لم نكن نعرفها من قبل، حتى إن علماء التاريخ في شتّى بقاع الأرض يحتفلون بهذا الخليفة العظيم، لأنه يمثّل أحد القيم الإنسانية الخالدة، وقد سمعت أنه في بعض البلاد الغربية متحف كبير مكتوب على بابه كهف العدالة، وفي هذا المتحف نماذج من سيرة هذا الخليفة الراشد.  

مكانة عمر بن الخطاب في الجاهلية:  

      أيها الأخوة، كان يعقد في مكة سوق عُكاظ، أي مؤتمر أدباء، مؤتمر للشعراء، يتبــارى الشعراء فيما بينهم، ويعرضون قصائدهم على المؤتمرين والمشاهدين، وكان شيخ كبير من شيوخ هذا المؤتمر أو هذا السوق (عكاظ) قافلاً إلى بلدته،   

      فالتقى بمن يقول له:  هل علمت النبأ العظيم يا أخا العرب؟   

      فقال هذا الشيخ: وأي نبأ عظيم؟   

      قال:  ذلك الرجل الأعسر اليسر،   

      ويتساءل الشيخ قائلاً: الذي كان يصارع في سوق عكاظ؟   

      قال: أجل هو، قال: ما باله يا فتى؟   

      قال: لقد أسلم واتبع محمدًا .  

      إن الإنسان أحياناً يتحرك حركة لا يلتفت إليها أحد، وهناك  أشخاص عظماء إذا تحركوا حركة ملؤوا الدنيا بأخبارهم، فهذا الصحابي الجليل كان شديد البأس في الجاهلية، ويفيق هذا الشيخ من دهشته،   

      ويقول:  أما والحق ليوسعنهم خيراً أو ليوسعنهم شراً    

      يعني رأى شخصية فذة، قوية، مصممة، همّتها عالية، والحقيقة لقد أوسعهم خيراً.  

من سمات عمر بن الخطاب:  

       من سمات هذا الصحابي الجليل أنه كان إذا تكلم أسمع، وإذا مشى أسرع، وإذا ضرب أوجع، وإذا أطعم أشبع،   

      قالوا:  هذا الصحابي لم يخف قطُّ في حياته أبداً، ولم يختلج جنانه الصامد أمام رهبة أو فزع  هذا الصحابي الجليل تنطبق عليه الآية الكريمة:  ( يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ)  

      علماء النفس قالوا:  هناك تسعون بالمئة من الجنس البشري متوسطو القدرات، وخمسة بالمئة متفوقو القدرات، وخمسة بالمئة أيضاً مقصرون في قدراتهم  فكان هذا الصحابي الجليل من المتفوقين.  

تقييم النبي له قبل الإسلام:  

      النبي عليه الصلاة والسلام كان يدرك قيمة هذا الصحابي، قيمة هذا الرجل قبل أن يسلم، النبي عليه الصلاة والسلام أوتي فهماً عميقاً، وأوتي إدراكاً دقيقاً، وأوتي خبرة في الأشخاص، هو يدرك أن هذا الإنسان لو أسلم لخرج منه خير كثير،   

      هذا الكلام يسوقنا إلى تعليقٍ طريف هو أن المسلمين بعضهم يحمله الإسلام، وبعضهم الآخر يحمل الإسلام، ينهضون به، فإذا أردت أن تكون عند الله مرضياً لا تكن ممن يحملك الإسلام، بل كن ممن يحمل الإسلام، يحمله دعوة، يحمله تطبيقاً، يحمله خدمة، يحمله غيرة، يحمله نشراً، يحمله تجسيداً، شتَّان بين من يحمل الإسلام، وبين من يحمله الإسلام، هذا الصحابي كان لفترة زمنية من ألدّ أعداء الدين، من ألدّ أعداء النبي عليه الصلاة والسلام، ولا أدلّ على ذلك مِن أنه ذهب ليقتله، ويريح الناس منه، ولكن حينما أسلم كان من أكبر المدافعين عن الدين، ومن أكبر الصحابة الذي خدموا هذا الدين، لذلك كان عليه الصلاة والسلام يدعو ويقول: اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِأَحَبِّ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ إِلَيْكَ بِأَبِي جَهْلٍ أَوْ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ وَكَانَ أَحَبَّهُمَا إِلَيْهِ عُمَرُ .  

      وهذا يقودنا مرة ثانية إلى التفوّق، فلا تكن من عامة الناس، ولا تكن على هامش الحياة، ولا تكن إنساناً لا يقدم ولا يؤخّر، لا ينفع ولا يضر، لا يعرف أحدًا ولا يعرفه أحد، تفوّق لأن أبواب البطولة مفتّحة لكل الناس، والنظرية التي تقول:  بأن ذكاء الإنسان محدود، وأن قدراته محدودة هذه نظرية باطلة  حل محلها نظرية أخرى، وهي أن في الإنسان قدرات كامنة إذا فجرت جاءت بالمعجزات، وأنجزت الحضارات.  

      أيها الأخوة، الشيء الذي كان متاحاً للصحابة الكرام متاح لكم أيضاً، الله هوهو، كتابه بين أيديكم، فرص الأعمال الصالحة ما أكثرها، أعمال الدعوة، أعمال الخدمة، أعمال الإنفاق، أعمال الرعاية، والقوانين التي قنَّنها الله هي هي، إذا أخلصت له، وأقبلـت عليـه، واصطلحتَ معه ترى العجب العجاب، ترى العجب العجاب في سعادتك التي لم تكن تعرفها، في الطمأنينة التي كنت تفتقدها، في التوازن الذي كنت بحاجة إليه، في هذا اليسر في أعمالك الذي تلحظه بشكل صارخ، قال تعالى:  ( فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى)   

      الوعود التي وعد الله بها المؤمنين هي وعود من قِبل خالق الكون، ولزوال الكون أهون على الله من ألا تقع، فإذا لم تجدها فشك في إيمانك، بل جدد إيمانك، كما قال الله عزَّ وجل:  ( فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ)           

      سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه ألا يعد خامس الخلفاء الراشدين، سيدنا صلاح الدين الأيوبي الذي رد أوروبا بأكملها ألا يعد سادس الخلفاء الراشدين، إن باب البطولة مفتوح دائماً، ما عليك إلا أن تتحرك، وإلا أن تصدِق، وإلا أن تعطي ربّك كل جهدك وطاقتك، وكل قدراتك، وكلَّ ما تملك، وهذا معنى قوله تعالى:  ( وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)   

سر الفرق بين هجرة النبي وهجرة عمر:  

      النبي عليــه الصلاة والسلام، شخص واحد، جاء الحياة وغادرها، وترك الهدى في معظم بلاد الأرض، قلب المجتمعات البشرية رأساً على عقب، نشر الفضيلة، نشر الرحمة، نشر الهدى وهو واحد، الله عزَّ وجل حاضر وناظر إليك،   

       يقول عبد الله بن مسعود:  ما زلنا أعزةً منذ أسلم عُمر،   

       كان إسلامه فتحاً، وكانت هجرته نصراً، وكانت إمارته رحمةً، وما نستطيع أن نصلّي بالبيت حتى أسلم عمر.  

      لكن هذا الكلام إياكم أن تفهموه فهما آخر، أيكون عمر أشجع من رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ لا والله،  

       كنا إذا حمي الوطيس كنا نلوذ برسول الله عليه الصلاة والسلام،   

      فلم يكن أحد أقرب إلى العدو منه، لكن اسمعوا هذه الحقيقة:   

      سيدنا عمر يمثّل نفسه، لكن النبي عليه الصلاة والسلام مشرع، فلو لم يأخذ الحيطة، ولو لم يأخذ الأسباب لعد اقتحام الأخطار سنة، ولعد أخذ الأسباب حراماً، هذا هو الفرق، سيدنا عمر ليس مشرعاً فإن أصاب فلنفسه، وإن أخطأ فعليها، لكن النبي عليه الصلاة والسلام مشرع،   

      هذا يقودنا دائماً إلى الفرق بين الحكم الشرعي والموقف النفسي، سيدنا الصديق شرب لبناً ثم علم بعد أن شربه أنه مال حرام فتقيأه، يا ترى تقيؤ الطعام حكم شرعي أم موقف شخصي؟ موقف شخصي يدل على شدة ورعه، سيدنا الصديق أعطى كل ماله لرسول الله عليه الصلاة والسلام،   

       قال: يا أبا بكر ماذا أبقيت لنفسك؟   

       قال: الله ورسوله  

      هذا موقف يدل على أعلى درجات التضحية، هل هو حكم شرعي؟ لا، لأن معظم الناس لا يستطيعونه، الشرع جاء مع الخط العريض، مع الأكثرية المتوسطة لا مع الأقلية المتفوقة.  

 وصف ما جاء في قوة الخطاب:   

      يقول بعض كتَّاب السير الذاتيـة:  في الجاهلية كانت حربه للإسلام تكاد وحدها تعدل أذى قريش جميعها، وفي الإسلام صارت حربه للوثنية تكاد تعدل مقاومة الإسلام بأسره  حجمه كبير جداً، إذا اتجه إلى الحق بكل إمكاناته، وحينما كان يحارب هذا الدين فحربه لهذا الدين تعدل حرب قريش كلها، وحينما حارب الوثنية بعد أن أسلم حربه يعدل مقاومة الإسلام كله للوثنية.  

      لذلك حينما يقول بعض العلماء:  هو عملاق الإسلام  وهو في الحقيقة كان عملاقًا في الشكل، كان فارع الطول، عريض المنكبين، قوي البنية، فبعض كتَّاب السير أرادوا أن يسحبوا هذه العَمْلَقة في جسمه إلى العملقة في إيمانه.  

      أيها الأخوة، يجب أن تعلموا أن هناك فرقاً دقيقاً بين التطرف والتفوق، الإنسان إذا تطرف خرج عن الوسط، قال تعالى:  ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً)  

      معنى وسط غير وسْط، إذا كان حرف السين ساكناً أي بمكان متوسط، تقول: هذا الرجل وسْط بين رجلين، أما وسط، أي معتدل لا إلى التهور ولا إلى الجُبن، لا إلى إنفاق المال إسرافاً ولا إلى منعه تقتيـراً، لا إلى الخمول المميت ولا إلى التهور المقيت، فالوَسَط هو الاعتدال، والحقيقة دائماً وسط بين طرفين.  

      فهذا الصحابي الجليل لم يكن متطرفاً بل كان متفوقاً، فكأن التطرف حركة أفقية، بينما التفوق حركة عمودية، وأنا أهيب بكم أن تبتعدوا عن التطرف، وأن تقتربوا من التفوق، كلما زدت من إخلاصك، زدت من استقامتك، زدت من بذْلك وتضحيتك، زدت نفسك في طلب العلم تفوقت، وكلما أخذت فرعاً من فروع الدين، وبالغت به على حساب فروع الدين الأخرى فقد وقعت بالتطرف والغلو، ونعوذ بالله من التطرف، ولا أكتمكم أن تاريخ المسلمين، ولا سيما في عصور التخلف، كان سلسلة مواقف متطرفة تبعتها ردود فعل متطرفة، نحن نبحث عن التفوق لا عن التطرف.  

      وقد ذكرت لكم من قبل أن الله سبحانه وتعالى في آيتين اثنتين ينهانا عن الغلو في الدين، ومن أدق تعاريف الغلو في الدين: أن المغالي يأخذ كُلِية من كُليَّات الدين فيجعلها الدين كلّه، أو يأخذ فرعاً من فروع الدين فيجعله كُلِيَة من كُلِيَّات الدين، أو يعتقد بشخص فيرفعه فوق مقامه بكثير، هذا غلو.  

      الحقيقة سأريكم مثل مبسط في الفرق الدقيق بين التطرّف والتفوّق، لو أن طفلاً عمره عشر سنين، نموه بشكل متوازن تفوّق، أما أن تنموَ بعض الخلايا نمواً عشوائياً على حساب الخلايا الأخرى فهذا صار مرضاً خطيراً،  

      فالتطرف نمو غير طبيعي، نمو غير منضبط بجانب على حساب جانب، لكن التفوق نمو طبيعي متوازن، فالمتفوق ينمو عقله، وينمو قلبه، ويرقى عمله، فلديه توازن،   

      أما إذا نما العقل على حساب القلب وقعنا في السفسطة، وإذا نما القلب على حساب العقل ربما وقعنا في الزندقة، وإذا نما العقل والقلب وتخلَّف العمل فقد ضيعنا الحياة الدنيا في القيل والقال، وإذا كان هناك في العالم الإسلامي صحوة فأخطر شيء نخشاه على هذه الصحوة التطرف لا التفوق.  

قصة إسلام عمر:  

      في قصة إسلام هذا الخليفة أحداث مثيرة، فذات يوم لاهب كما يقول كتاب السيرة خرج هذا الرجل العملاق من داره وسيفه على عاتقه ميمماً وجهه شطر دار الأرقم حيث كان النبي عليه الصلاة والسلام، ونفر من أصحابه المؤمنين يذكرون الله هناك،   

وفي الطريق يلقاه نعيم بن عبد الله فيرى ملامحه تتفجّر بأساً ونقمة، فيقترب من عمر، ويقول:  إلى أين يا عمر؟   

      فيجيبه: إلى هذا الصابئ الذي فرّق أمر قريش، وسفه أحلامها، وعاب دينها، وسبّ آلهتها فأقتله    

      سيدنا عمر ظن أن هذا الذي يعنفه قد أسلم أيضاً،   

      فقال له:  لعلك صبأت، إن تكن فعلت فو اللات والعزى لأبدأن بك   

      ونعيم يعرف تماماً أن ابن الخطَّاب يعني ما يقول، فينهي الحوار بعبارةٍ تلوي زمام عمر إلى جهة أخرى، لأنه لم يحتمل وقعها الشديد،   

      قال:  ألا تعلم يا عمر أن أختك وزوجها قد أسلما وتركا دينك الذي أنت عليه؟   

      أخته فاطمة بنت الخطاب، إذًا: ماله ولدار الأرقم، وقد اقتحم الخطر دارَه وعرينَه، وهكذا توجه إلى دار أخته ليسوي معها الحساب، قرع الباب قرعاً رهيباً،   

       وقيل: من؟   

      قال: عمر،   

      أما خبّاب فسارع إلى مخبأ قصي في الدار، وأما أخت عمر وزوجها فقد استقبلاه لدى الباب يغشاهما ذهول المفاجأة، ولم تنس بنت الخطاب في هذه الغمرة الداهمة الصحيفة الكريمة التي بها آيات الله فخبّأتها تحت ثيابها من شدة خوفها من عمر،   

      قال عمر: ما هذه الهينمة التي سمعت عندكم؟ ( سمعت صوت قراءة )   

       أجابا: لا شيء، إنها نجوى وأحاديث،   

      قال لهما: سمعت أنكما صبأتما،   

       قال سعيد: أرأيت يا عمر إن كان الحق في غير دينك؟   

      ولم يمهله عمر، فوثب عليه في عنفوانه، وأخذ برأسه يجرّه ويلويه، ثم ألقاه أرضاً، وجلس فوق صدره، أي أن كل الضغط النفسي الذي في عمر صبَّه على زوج أخته، وحينما تقدَّمت أخته لتدافع عنه أصابتها لطمة أدمت وجهها، عندئذ صاحت به وكأنها بوق سماوي،   

       يا عدو الله، أتضربني على إيماني بالله الأحد؟ ألا ما كنت فاعلاً فافعل، فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.  

      هنا حصل التبدل، هنا حصلت في نفس عمر حادثة غريبة جداً، هذا الاندفاع الشديد ضد هذا الدين الجديد توقف، عندئذ   

      قال لأخته:  هات الصحيفة التي كنتما تقرأان بها لأنظر ما فيها،   

       وتجيبه أخته: كلا إنه لا يمسّه إلا المطهّرون، اذهب واغتسل وتطهَّر  

      تغيَّر عمر، قبل قليل كان إنسانًا مخيفًا موظَّفًا للباطل ضد الحق، حينما صاحت بوجهه افعل ما أنت فاعل، إنني أشهد أنه لا إله إلا الله وأن محمَّد رسول الله، تبدل،  ويمضي عمر ليغتسل، ويعود إلى أخته، ويأخذ الصحيفة مِن يديها، ويقرأ فإذا فيها :  ( طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى *إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى* وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى)  

      ويتابع فإذا في هذه السورة:  ( إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي * إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى)  

      سيدنا عمر صار إنسانًا آخر، عانق الصحيفة وقبَّلها، ونهض واقفاً،   

       وقال: لا ينبغي لمن هذه آياته أن يكون له شريك يُعبد معه،   

      دلوني على محمد، سيدنا خبَّاب بن الأرت خرج من مخبئه، وهرول صوب عمر صائحاً، أبشر يا عمر؟ فو الله لقد استجيب دعاء رسول الله لك،   

      فهو قد سمع الدعاء:  اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِأَحَبِّ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ إِلَيْكَ بِأَبِي جَهْلٍ أَوْ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ وَكَانَ أَحَبَّهُمَا إِلَيْهِ عُمَرُ .  

      وحينما التقى عمر بالنبي عليه الصلاة والسلام،   

       قال للنبي عليه الصلاة والسلام: يا رسول الله ألسنا على الحقّ في مماتنا ومحيانا؟   

       قال: بلى يا عُمر، والذي نفسي بيده إنكم لعلى الحق إن مِتُم وإن حييتُم،   

       فقال عمر: ففيم الاختفاء إذاً؟ والذي بعثك بالحق لتخرجن ولنخرجن معك،   

      بعد أن كُشف له الغِطاء، ورأى الحقيقة الناصعة، ودخل النور إلى قلبه،   

       قال هذا الصحابي الجليل: والله لن أترك مكاناً جلست فيه بالكُفر إلا جلست فيه بالإيمان .  

      لذلك يصحب التوبة ثلاثة أشياء:   

      العلم، والحال، والعمل، فالعلم يورث حالاً، والحال يورث الندم، لكن عن العمل، قالوا: هو ثلاثة أنواع، إصلاح في الماضي، وإقلاع في الحاضر، وعزيمة في المستقبل.  

       قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ؟   

       قال:  أَكْرَمُهُمْ أَتْقَاهُمْ.   

       قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ.   

       قَالَ: فَأَكْرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ.   

       قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ.   

       قَالَ: فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونِي؟   

       قَالُوا: نَعَمْ.   

       قَالَ: فَخِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الإِسْلامِ إِذَا فَقُهُوا  .  

      ما الذي حصل حتى انقلب اندفاعه اندفاعاً آخر؟ قد يقول أحدكم: أيعقل هذا؟ أيكون الإيمان بين عشية وضحاها؟ أيدخل الإيمان إلى قلب الإنسان في طرفة عين؟ فالسحرة ألم يستعن بهم فرعون ليدحضوا الحق الذي جاء به موسى؟ وكيف انقلبوا فجأة من أُناسٍ يعملون لصالح الكُفر إلى أُناسٍ قد آمنوا في أعلى درجات الإيمان؟ لأن فرعون حينما علم أنهم قد آمنوا مع موسى هددهم بالقتل والصلب والتعذيب، فما زادوا عن أن قالوا له:  ( فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى

إشراقة الإيمان والزمن ؟  

      أحياناً الإنسان يسلك سبيلاً طويلاً جداً حتى يصل إلى الإيمان، سنوات تلو سنوات يفكِّر في آيات الله، ويجاهد نفسه وهواه إلى أن يصل إلى إشراقة الإيمان، وأحياناً تنقدح إشراقة الإيمان في قلب مؤمن في وقت قصير جداً، فما العلاقة بين هذا الأمد الطويل وبين هذا الأمد القصير؟   

      أيها الأخوة، الجواب دقيق جداً، في الإنسان عنصر اسمه عنصر الصدق، ولا أعني بالصدق أن تقول كلاماً يطابق الواقع، فهذا مفهوم آخر للصدق لا أعنيه إطلاقاً،   

      الصدق الذي أريده أن تكون صادقاً مع نفسك في طلب الحقيقة، أن تكون الحقيقة غاليةً عليك جداً بحيث لا تنام الليل إلى أن تصل إليها، ويستعمل بعض العلماء كلمة الصدق، للتعبير عن مدى جدية الإنسان في طلب الحقيقة، وعن مدى إصراره في طلب الحقيقة، وعن مدى اندفاعه إليها، فإذا زاد الصدق أحرق المراحل،   

      نحن في النظام العام لا يمكن أن نعطي طالب الإجازة إلا بعد أربع سنوات في الدراسة، في بعض البلاد الراقية بالمقياس المادي تعرف أن هناك أُناسًا متفوقين، لذلك تسمح لأحدهم أن يجتاز هذه الأعوام الأربعة بثلاثة أعوام، لكن نحن ليس لدينا في النظام التعليمي إنسان في وقت قصير جداً ينال أعلى شهادة، فهذا مستحيل، لكن الله سبحانه وتعالى كما يقول بعض العلماء:    

      طليق الإرادة والفعل، فإذا عَلِم من إنسان صدقاً عالياً جداً، أعطاه في وقت يسير ما لا يعطي الأقل صدقاً في وقت طويل  لذلك قال بعض العلماء:  المراتب العُليا لا لمن سبق، ولكن لمن صدق .  

      في حياتنا المعاصرة مرض خطير، ولكن اسمه لطيف المجاملة، المجاملة تعني مجتمع لا يتناصح أفراده أبداً، مجتمع تسوده المصالح لا المبادئ، مجتمع كل واحدٌ منه ينتمي إلى ذاته وإلى مكاسبه فلا يعنيه من أمر الناس شيئاً، لذلك مما يقال عن الأذكياء غير الأتقياء أنهم يملكون قدرة على التلوّن عجيبة، إن جلسوا مع زيدٍ من الناس أشعروه أنهم أقرب الناس إليه، وإن جلسوا مع عبيد أشعروه أنهم أقرب الناس إليه، وإن جلسوا مع أصحاب مبادئ معيّنة تمثَّلوا هذه المبادئ وأثنوا عليها حتى تظنّ أنهم من أصحابها، هذه المجاملة أو هذا النفاق هو الذي يؤخِّر نشر الحق.  

      إذا وجدت شخصًا لا يصلّي، لا يعتقد بالدين، لكنه شهم، صاحب مروءة، صادق، قلبه رحيم، فتوقَّعْ له كلَّ خير، وانتظرْ منه أن يكون من كبار المؤمنين، لأن هذا الخُلُق لا يقود صاحبه إلا إلى الإيمان،   

      لذلك لما رأى النبي عليه الصلاة والسلام رجلاً قد أسلم، وكان في الجاهلية ذا أخلاقٍ عالية، فقال عليه الصلاة والسلام:           أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنْ خَيْرٍ .  

      أخواننا الكرام، الناس في محيط ما بين أقربائهم، وفي محيط أعمالهم، وفي محيط علاقاتهم، إذا رأيتَ الشخص الصادق الأميــن، صاحـب المروءة الذي لا تأخذه في الله لومة لائم، إن رأيت في إسلامه تقصيراً، أو في إيمانه تقصيراً، فاطمعْ بهذا، ودلَّه على الله، لأنه إذا أسلم وآمن، فكلُّ هذا الخير أصبح في خدمة المسلمين.  

العداوة تكون للمبدأ الذي يعتنقه الشخص وليس لذاته:  

      بالمناسبـة عندما جاء عُمير بن وهب إلى المدينة ليقتل النبي عليه الصلاة والسلام، ومعه سيفٌ مسموم، ورآه عمر، وعرف في وجهه الشر، وقاده إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال:  يا رسول الله هذا عُمير جاء يريد شراً  والقصة تعرفونها، حينما أسلم عُمير، ماذا قال عمر؟   

      قال:  والله دخل عُمير إلى النبي، والخنزير أحبُّ إليَّ منه، وخرج من عنده وهو أحبُّ إليَّ من بعض أولادي.   

      أقول لكم: إذا كان الشخص عدوًّا للدين فاجرًا منافقًا مستهزئًا، لو رأيته تاب إلى الله، واصطلح معه، إن لم ينقلب بغضك له محبّة فلست مؤمناً، علامة إيمانك أنك لا تعادي الأشخاص بذواتهم، ولكن تعادي اتجاهاتهم، فإذا رجع عنها فهو أخوك حقاً، فهذه علامة الإيمان.  



المصدر: السيرة - سيرة الخلفاء الرشدين - سيدنا عمر بن الخطاب - الدرس (1-7) : حياته في الجاهلية وتبدله من الكفر إلى الإيمان