بحث

عمر بن الخطاب2 عملاق الإسلام ورعه وأدبه مع الله

عمر بن الخطاب2  عملاق الإسلام ورعه وأدبه مع الله

بسم الله الرحمن الرحيم

 سيدنا عمر لم ينسى من كان وفضل الله عليه:  

      أيها الأخوة الكرام، مع سيرة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لما خطب هذا الخليفة العظيم على المنبر، ألقى خطبته المشهورة، فإذا به يقول:    

       أيها الناس، لقد رأيتني وأنا أرعى غنم خالات لي من بني مخزوم، نظير قبضة من تمرٍ أو من زبيب    

ثم ينزل هذا الخليفة من على المنبر بين دهشة الناس واستغرابهم، فما علاقة هذا الكلام بخطبته؟ يتقدم أحد الصحابة، وهو سيدنا عبد الرحمن بن عوف،   

       ويقول له:  يا أمير المؤمنين، ما أردت بهذا الكلام؟  وما علاقته بالخطبة؟ وما مناسبته؟ وما سببه؟       

       فيقول عمر:  ويحك يا ابن عوف، خلوت بنفسي فقالت لي: أنت أمير المؤمنين، وليس بينك وبين الله أحد، فمن ذا أفضل منك؟   

      فأردت أن أعرفها قدرها.  

      فأحدكم يكون في أول حياته شابًا مغمورًا لا أحد يعرفه، طالب مدرسة أمله أنْ يأخذ شهادة عالية، فيصبح طبيبًا مثلاً، دخله كبير، ويشعر بقيمته الاجتماعية، لعله بهذا يتيه على الناس، لعله بهذا ينسى أنه كان شاباً فقيراً، وقد فضَّل الله عليه فجعله بهذا المنصب، بهذه الشهادة، بهذا الدخل، وهناك تجار كانوا فقراء فصاروا أغنياء، فالإنسان إذا نسي ماضيه، فهذا مِن كفر الجميل   

فإذا كان الإنسان فيما مضى فقيرًا، لا أحد يعرفه، وليس له زوجة، وليس له ولد، وليس له مأوى، ثم تفضل الله عليه، وأخذ الشهادة، وتعين في الوظيفة، أو صار طبيبًا أو مهندسًا، وأخذ الناس، يقولون له: الدكتور فلان، المهندس فلان، فلا ينظر إلى نفسه أنه كسب ذلك بذكائه، وإنما ذلك فضل الله عليه، الإنسان كلما تذكر ماضيه، فهذا التذكُّر يعينه على شكر نعم الله عليه، والإنسان تحت ألطاف الله عزَّ وجل، فكل أمره وسلامته بيد الله.  

      يملك خبرة في موضوع يعيش منها كريمًا، فلو أن نقطة دم تخثرت في أحد شرايين المخ، لنسي عندها كل معلوماته، ولَفَقَد ذاكرته، فهناك فقد ذاكرة كلي، وفقد ذاكرة جزئي، لو أن الإنسان اختل عقله، لما عاد له محل في بيته مع أولاده، أصبح محله في مستشفى الأمراض العقلية، ولو أنّ إنسانًا وقع له حادث سير، وأصيبَ بشلل في نصفه الأسفل، أو في العمود الفقري لخسر كل شيء، فالإنسان تحت ألطاف الله عزَّ وجل.  

      فالإنسان لا ينظر إلى آخر أوضاعه، دائماً يرجع إلى أقل أوضاعه، إلى بداياته، فإذا أقام موازنة بين البدايات وبين النهايات، يرى فضل الله العظيم عليه، لذلك دائماً تذكّر قوله تعالى:  ( وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً)  

      إذا دخل الإنسان إلى بيته، أو خرج منه، رأى نفسه طليقة، محبوبة، معززة، مكرمة، هذه كلها نعم، أنعم الله بها عليه، رأى صحته تامة، أولاده لهم سمعة طيبة، سيرتهم محمودة، زوجته ترضيه، فكل أمرِه خير،   

      سأل الملك وزيرَه:  مَن الملِك؟ فقال الوزير: أنت، فقال الملِك: لا، بل الملك من كان له بيت يؤويه، وزوجة ترضيه، ورزق يكفيه.  

      هذه الموازنة أجروها دائماً بين البدايات والنهايات، من أجل أن تحب الله عزَّ وجل، لذلك يقول عليه الصلاة والسلام:         أَحِبُّوا اللَّهَ لِمَا يَغْذُوكُمْ مِنْ نِعَمِهِ وَأَحِبُّونِي بِحُبِّ اللَّهِ وَأَحِبُّوا أَهْلَ بَيْتِي بِحُبِّي.  

      والعلماء قالوا:  تمام النعمة الهُدى  فالنعم المادية لا تتم على صاحبها إلا بالهدى، لأن النعم بلا هدى تنقطع بالموت، لكن بالهدى تستمر إلى ما بعد الموت.  

      مرة حدثني أخ، قام بإنشاء مشروع خيري، معهد تدريب مهني للفتيات الفقيرات، وكان البيت في منطقة راقية، فكان ثمنه كبيرًا، فكل فتاة فيه تتعلم الخياطة، فقد تكون متسوِّلة فتصير منتجة، وهذا عمل طيِّب، وهذا الشخص المحسن الذي قدَّم البيت بمبلغ ضخم وجهَّزه، أقاموا له حفل تكريم على هذا العمل، فقال لي شخص: لقد ألقيت كلمة انفردت بها من بين كل المتكلمين، قلت لهذا المحسن: أنا لا أثني على إحسانك، ولكن أدعوك إلى أن تشكر الله عزَّ وجل، أنْ جعلك تعطي، ولم يجعلك تأخذ من جمعيتنا مساعدة شهرية.  

      كلام طيب، كان من الممكن أن يكون واقفًا على الباب، وينتظر مساعدة شهرية، فعندما يكرم الله عزَّ وجل إنسانًا، ويجعله يعطي بدلاً من أن يأخذ، يجعله يتكلم بدلاً من أن يسمع، يجعله قدوة، فهذا فضل من الله عزَّ وجل، لا تقل: أنا متفوق، بل قل: إنّ الله سمح لي أنْ أذكره، فأطلق لساني في ذكره، وسمح لي أن جعل الهدى على يدي، وهذا من فضل الله على الإنسان، فالإنسان كلما توفرت له النعم ليذوب شكراً لله عزَّ وجل.  

إخلاص عمر وميزاته :  

      تتحلى هذه الشخصية الفذة بصفة نادرة، الإنسان دائماً في الأعم الأغلب، إذا تفوق يصيبه الغرور، الغرور من لوازم المتفوقين، فإنسان لا يستطيع الغرور أن يتسلل إليه، وهو في قمة المجتمع فهذه شخصية فذة، فقد دخل الإسلام بحفاوة النبي البالغة، وصحبه الكرام، كان دخوله حدثًا كبيرًا، وكان عليه الصلاة والسلام يقول:  اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ بِأَحَبِّ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ إِلَيْكَ بِأَبِي جَهْلٍ أَوْ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ وَكَانَ أَحَبَّهُمَا إِلَيْهِ عُمَرُ.  

      ولما دخل في الإسلام صار المسلمون يعبدون الله جهراً بعد أن كانوا يعبدونه سراً، إذاً: ترك أثرًا واضحًا في إسلامه.  

      هناك شيء آخر، النبي عليه الصلاة والسلام نعته بالفاروق، والنبي عليه الصلاة والسلام إذا نعت إنسانًا بصفة عالية فهي حق، لأنه فرق بإسلامه بين الحق والباطل، وبين الملاينة والمواجهة، وكان هذا الصحابي الجليل عملاق الإسلام يقترح على النبي بعض الاقتراحات فينزل بها الوحي، تصبح قرآناً يُتلى إلى يوم القيامة، ويسمونها علماء السيرة موافقات عمر، إذاً: هذه ميِّزة أيضاً، ثم يصبح هذا الصحابي الجليل خليفة المسلمين، وكل هذه الميّزات ما سمح للغرور أن يطوف حول نفسه.  

      وفي أيامنا إذا حقَّق شخص أقل تفوُّق فلا أحد يستطيع أن يكلّمه، وإنْ جمع شيئًا من المال، وصار غنيًّا تعالى على الناس، أو حقّق لنفسه شيئًا من القوة صار يتيه بها على الناس، أو تميَّز بشيء من الوسامة صار يزدري الآخرين، فالتفوُّق من أخطارِه الغرور، والغرور مدمِّر.  

      سيدنا عمر، كان يقول:     لقد كنا ولسنا شيئاً مذكوراً حتى أعزَّنا الله بالإسلام، فإذا ذهبنا نلتمس العزَّة في غيره أذلنا الله  

      الحقيقة أنّ العرب في الجاهلية ما كانوا شيئًا مذكورًا، قبائل متفرِّقة، تعيش فوضى في حياتها، فوضى في علاقاتها، فوضى في كسب المال، يعيشون في تخلُّف شديد، وفي خشونة بالغة، وفي عِداء مستمر.  

 محاسبته لنفسه:  

      أدق شيء في حياة هذا الصحابي الجليل، أن كلمةً كانت تتردد على لسانه كل أوقاته :   ما تقول يا عُمر لربِّك غداً  

      لماذا أعطيت؟ لماذا منعت؟ لماذا تجهَّمت؟ لماذا ابتسمت؟ لماذا رضيت؟ لماذا غضبت؟ لماذا طلَّقت؟ لماذا خاصمت؟ كل موقف له سؤال، فسيدنا عمر دائماً وأبداً، يقول:  ما تقول يا عُمر لربِّك غداً؟.  

      وأنا أتمنى على نفسي وعليكم كلما تحركنا حركة أن نهيئ لله جواباً يوم القيامة، لمَ أعطيت ولدك بيتاً، ولم تعطِ أخاه؟ لمَ زوَّجت هذه الفتاة بأعلى درجة، والثانية لم تفعل معها ذلك؟ فإذا واحد منا في حركته اليومية، في شرائه، في بيعه، في نشاطاته، في بيته، في خلوته، في كل موقف يفعله يهيئ لله عزَّ وجل جوابًا، فهذا يكون إنسانًا نرجو الله أن ينجو من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة.  

      الأحنف بن قيس، قال:    

      كنت مع عمر بن الخطاب فلقيه رجل،   

      قال: يا أمير المؤمنين انطلق معي فأعنِّي على فلان فقد ظلمني،   

       سيدنا عمر رفع دُرَّته، وخفق بها رأس هذا الرجل، وقال له: تدعون أمير المؤمنين، وهو معرَّضٌ لكم، مقبلٌ عليكم، حتى إذا شُغِل بأمرٍ من أمور المسلمين أتيتموه أعنِّي أعنِّي،   

      فانصرف الرجل غضبان أسفاً،   

       فقال عمر: عليَّ بالرجل، فلما عاد ناوله مخفقته، وقال له: خذ واقتص لنفسك مني،   

      قال الرجل: لا والله، ولكني أدعها لله، وانصرف،   

      قال الأحنف: وعُدتُ مع عمر إلى بيته، فصلى ركعتين، ثم جلس يحاسب نفسه، ويقول:   

       ابنَ الخطاب كنت وضيعاً فرفعك الله، كنت ضالاً فهداك الله، كنت ذليلاً فأعزَّك الله، ثم حملك على رقاب الناس، فجاءك رجل يستعين بك فضربته، فماذا تقول لربك غداً؟.  

      سمّاه علماء السيرة:  جبَّار الجاهلية، عملاق الإسلام    

      كان يؤمّ الناس في الصلاة فَيَسمع بكاءه ونشيجَه أصحاب الصف الأخير،   

      مرة هرول وراء بعير أُفلت من حظيرته،   

       ويلقاه عليُّ بن أبي طالب فيسأله:  إلى أين يا أمير المؤمنين؟  

          فيجيبه: بعير ند من إبل الصدقة أطلبه،   

       فيقول له علي كرَّم الله وجهه: لقد أتعبت الذين سيجيئون من بعدك،   

       فيجيبه عمر بكلمات: والذي بعث محمداً بالحق، لو أن عنزةً ذهبت بشاطئ الفرات، لأُخذ بها عمر يوم القيامة     

      أي أن إدراكه للمسؤولية كان بدرجة تفوق حد الخيال.  

      ودائماً نشيده:     كنت وضيعاً فرفعك الله، كنت ضالاً فهداك الله، كنت ذليلاً فأعزَّك الله، فماذا تقول لربك غداً؟       

خشيته من ربه :  

      سيدنا عمر كان موحِّدًا، ومن أعلى درجات التوحيد،   

      مرة كان مع أبي موسى الأشعري قال:    

       يا أبا موسى هل يسرُّك أننا أسلمنا مع رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهاجرنا معه، وخضنا معه كلَّ المعارك؟ هل يسرُّك أن عملنا هذا كلَّه يُردُّ علينا لقاء أن ننجوَ كَفافاً، لا لنا ولا علينا؟    

      يعني أن أعمالنا فيها قصور،   

       فيجيبه أبو موسى:  لا والله يا عُمر، فلقد جاهدنا، وصلَّينا، وصمنا، وعمِلنا خيراً كثيراً، وأسلم على أيدينا خلق كثير، وإنا لنرجو ثواب ذلك     

      أيهما أكثر عملاً صالحاً سيدنا عمر أم أبو موسى الأشعري؟ سيدنا عمر، صاحب العمل العظيم، يتمنّى أن ينجو كفافاً، لا له ولا عليه،   

       فيجيبه عمر قائلاً:  أما أنا فو الذي نفس عمر بيده لوددتُّ أن ذلك يردُّ عليّ، ثم أنجو كفافاً، رأساً برأس، لا لي ولا علي.  

      ماذا نفهم من هذا الموقف الذي وقفه سيدنا عمر؟ نفهم من هذا الموقف أنه يخشى الله خشيةً لا حدود لها، وأنه يعرف عظمة الله عزَّ وجل ولا يرى عمله أمام هذه العظمة.  

      الحقيقة أنّ الإنسان قد ينطلق في الدين ببواعث منوعة، فهناك بواعث الفزع، وبواعث الحب، والحب أرقى، تجد إنسان يخاف من النار، وإنسان يخاف من المصيبة، وإنسان يخاف من مرض الخبيث، وإنسان يخاف من مرض القلب، وإنسان يخاف من الإهانة، فتراه ينطلق مستقيماً على منهج الله بدافع الخوف، لكن بعض الصحابة كان الذي يدفعهم إلى الله عزَّ وجل الحب، حب الله وتوقيره والحياء منه،   

      لذلك لو لم يخف عمر ما عصى الله، لو لم يكن للإثم عقوبة ما أثم، لو قال الله له:    اعمل ما شئت فقد غفرت لك. ما خطر في باله أن يعمل إلا ما يرضي الله.  

      فإذا الواحد من المؤمنين تجاوز مرحلة الخوف إلى مرحلة الحُب، إلى مرحلة طلبِ ما عند الله عزَّ وجل، إلى مرحلة الشوقِ إلى الله عزَّ وجل، فهذه مرتبة جيدة جداً.  

      فكان سيدنا عمر يعلم أن نعمة الإيمان والهدى والإمارة، إنما هي محض فضل من الله عزَّ وجل، وأن الله كان قادراً على أن يختصَّ بهذه النعمة غيره، وأن يخص بها سواه، أما وقد آثره بها، إذاً: فهذه فضلٌ مِنَ الله عزَّ وجل، هذا الذي أتمناه عليكم، إذا خصّك الله بشيء، جعلك عالمًا، جعلك طليق اللسان، وتنطق بالحق، جعلك في مركز اجتماعي مرموق، جعل لك في الأسرة مكانة، أي أنك صرت كبير الأسرة، فهذا فضل من الله عزَّ وجل، لا تعتقد أن هذا الشيء الذي حصلته بخبرتك وذكائك، بل هو فضل من الله ونعمة.  

      فكان سيدنا عمر، يقول:  ليت أم عمر لم تلد عمر،  

      ليتها كانت عقيما  من شدة خوفه من الله عزَّ وجل، ومن شدة توقيره له، أما نحن، فنقول: الحمد لله الذي ولدت أم عمر عمر، أليس كذلك؟ لأننا استفدنا منه الكثير، وأعطانا مثلاً أعلى، وكان في حياته هاجس يومي، كان يقول دائماً :  لماذا فعلت هذا يا عمر؟  يخشى أن يعمل عملاً يحاسبه الله عليه، فأبعدَ نفسَه عن كل المباحات التي يمكن أن تجره إلى خطأ.  

نصحه لأحد ولاته :  

      كتب مرة لعامله على البصرة عتبة بن غزوان، وهذا الكتاب مهم جداً، ويتضح منه بعض الحقائق، قال له:  

       لقد صحبت رسول الله عليه الصلاة والسلام فعززت به بعد الذِلَّة، وقويت به بعد الضعف، وقد صرت أميراً مسلَّطاً، وملكاً مطاعاً، تقول: فيُسمع منك، وتأمر فيطاع أمرك، فيالها من نعمة إن لم ترفعك فوق قدرك، وتبطرك على من دونك، تحوط من النعمة تحوطك من المعصية، فهي أخوفها عندي عليك أن تستدرجك، وأن تخدعك فتسقط سقطةً تصير بها إلى جهنَّم، أعيذك بالله، وأعيذ نفسي من ذلك  هذه ليست نعمة، أصبحت نقمة.  

      وهذه الفكرة مهمة جداً، فمن الممكن أن تكون النعمة نفسها مزلقًا إلى الهلاك، فالنعمة هذه إذا رفعتك فوق ما أنت له أهل، أو جعلتك تتكبَّر على خلق الله، فلو كان الأمر كذلك فالمشكلة كبيرة جداً.  

نصحه للصحابة أيضاً :  

      مرة سيدنا عمر رأى لحمًا معلَّقًا بيدي جابر بن عبد الله،   

       قال له:  ما هذا يا جابر؟   

       قال :  هو لحم اشتهيته فاشتريته،   

       فقال: أو كلما اشتهيت اشتريت، أما تخاف أن يقال لك يوم القيامة:  ( أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا)   

      مرة زاره حفص بن أبي العاص، وكان سيدنا عمر جالسًا إلى طعامه،   

       فقال له:  تفضل    

      ولكن حفصًا نظر فرأى قديداً يابساً يأكل منه عمر، فلم يشأ يجشّم معدته مشقَّة هضمه، فاعتذر شاكراً، فأدرك سيدنا عمر سر عزوفه عن الطعام،   

       فقال له: ما يمنعك من طعامنا؟   

       فقال له: والله إنه طعامٌ خشن، وإني راجع إلى بيتي فأصيب طعاماً ليناً قد صُنع لي،   

       قال ردًّا عليه: أتراني عاجزاً أن آمر بصغار الماعز فيلقى عنها شعرها، وآمر برقاق البر فيخبز خبزاً رقاقاً، وآمر بصاعٍ من زبيبٍ فيلقى في سَمن، حتى إذا صار مثل عين الحجل صُبَّ عليه الماء فيصبح كأنَّه دم غزال فآكل هذا وأشرب هذا    

      نحن لا نعرف هذه الأكلة، ولكنها تبدو معروفة في عهد سيدنا عمر،   

       فقال له حفص وهو يضحك:  إنَّك بطيِّب الطعام لخبير،   

       فقال عمر: والذي نفسي بيده لولا أن تنقص حسناتي لشاركتكم في لين عيشكم، ولو شئت لكنت أطيبكم طعاماً، وأرفهكم عيشاً، نحن أعلم بطيب الطعام من كثير من آكليه، ولكننا ندعه ليومٍ تذهل فيه كل مرضعةٍ عما أرضعت، وتضع كل ذات حملٍ حملها، وإني لأستبقي طيباتي، لأني سمعت الله تعالى يقول عن أقوام:  ( أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا)  

انظر إلى أدبه مع الصديق :  

      عندما توفى النبي عليه الصلاة والسلام،   

       قال له سيدنا الصديق:  يا عمر هات يدك نبايع   

       لك لكن عمر تخلّص منها ناجياً، إذْ قال:  بل إيَّاك نُبايع فأنت أفضل مني،   

       قال أبو بكر: وأنت أقوى مني يا عمر،   

       قال عمر: إن قوتي لك مع فضلك    

      أرأيتم كيف يعرفون أقدار بعضهم البعض؟ فليست بينهم عداوة ثأر.  

      عندما بويع سيدنا عمر بالخلافة، وقف مكان سيدنا الصديق على المنبر، فتذكر أنّ الصديق وقف هنا، فنزل درجة، فلما نزل درجة أثار انتباه الحاضرين،   

       فقال سيدنا عمر:  ما كان الله ليراني أن أرى نفسي في مقام أبي بكر،   

      فليس معقولاً أن أقف على درجته، يقولون: سيدنا عثمان لم ينزل درجة، ووقف محل سيدنا عمر دون أن ينزل، فأَحَد خلفاء بني أمية سأل أحدهم:  لماذا لم ينزل عثمان درجة؟ فقال له: لو فعلها لكنت في قعر بئر لأنه لو نزل كل خليفة درجة فسنضّطر إلى أن نحفر الأرض ليقف الخلفاء.  

الأقاليم وعمر:  

      ذات مرة سأل عمر عمَّاله في الأقاليم، فقال بعضهم:    

      أمّا بلدُ كذا فإنهم يرهبون أمير المؤمنين، ويخافون بأسه،   

      وأما بلد كذا، فإنهم جمعوا أموالاً كثيرة، تنوء بها السفن، وهم في الطريق إليك،   

      وأمّا بلد كذا فإن بها قوماً صالحين، يدعون الله لك، ويقولون: اللهم اغفر لعمر، وارفع درجته     

      أي أنه قد جاءته معلومات من الأقاليم، فبلد يرهبونه، وبلد يدعون له، وبلد جمعوا أموالاً طائلة ساقوها إليه،  

       فقال سيدنا عمر معقباً:    

       أما من خافني فلو أريد بعمر الخير ما خِيف منه ( هذه صفة ذم )،   

       وأما الأموال التي تنوء بها السفن فلبيت مال المسلمين ليس لعمر، ولا لآل عمر شيء،   

       وأما الدعاء الذي سمعتم بظهر الغيب فذلك ما أرجوه    

      ارتاحت نفسه لمن دعا له بظهر الغيب فهذه الدعوة مباركة ومستجابة.  

خوفه من الإمارة على أهل بيته :  

      كان سيدنا عمر على فِراش الموت، وكان في حيرة شديدة لمن يسلِّم له هذه الأمانة، أي الخلافة،   

       فقال له المغيرة بن شُعبة:  أنا أدلُّك عليه يا أمير المؤمنين،   

       قال: من هو؟     

       قال: عبد الله بن عُمر،   

       فقال عمر: لا أرب لنا في أموركم، إني ما حملتها -  أي الخلافة  - فأرغب فيها لأحدٍ من أهل بيتي، إن كانت خيراً فقد أصبنا منها، وإن كانت شراً فبحسب آل عمر أن يحاسب منهم رجل واحد، ويسأل عن أمر أمة محمد عليه الصلاة والسلام، ألا إني قد جَهِدت نفسي، وحرمت أهلي، وإن نجوت كفافاً، لا وزر ولا أجر، فإني لسعيد  

       فسيدنا عمر رفض أن تكون الولاية من بعده لعبد الله بن عُمر، وهو ابنه.  

      مرة قال لعبد الرحمن بن عوف:    

       يا عبد الرحمن لقد لِنتُ للناس، حتى خشيت الله في اللين، ثم اشتددت، حتى خشيت الله في الشدة، وايم الله لأنا أشد منهم فرقاً وخوفاً، فأين المخرج؟     

      أي أنا خائف أكثر منهم، خائف أنْ أحاسَب على الشدة، وخائف أنْ أحاسَب على اللين، ثم يبكي،   

      فيقول عبد الرحمن بن عوف، وهو يتملَّى هذا المشهد ملياً:  أف لهم من بعدك        

      أي أعان الله من بعدك، لقد أتعب من سيجيء من بعده.  

شدته في الإمارة على ولاته :  

      ذات مرة كان جالسًا مع أصحابه، فاقتحم المجلس رجل مكروب، تغشاه وعثاء السفر، وحين اقترب من الناس، رآهم وسمعهم يقولون لأحدهم:    

       يا أمير المؤمنين  فيتّجه صوبَ هذا الأمير، ويقول له في مرارة:  أَأنت عمر؟ ويل لك مِن الله يا عمر،   

      ثم يمضي لسبيله غير وان، ولا مكترث، لحق به الحاضرون في غيظ وحنق، ولكن عمر يناديهم ويأمرهم أن يعودوا لمجلسهم، ويهرول هو وراءه وقلبه يرتجف.   

      لحقه حتى أدركه،   

       فقال له: ويلي من الله، لماذا يا أخا العرب؟   

      فيجيبه الرجل: لأن عمالك وولاتك لا يعدلون بل يظلمون،   

       ويسأل عمر: أي عمّالي تعني؟   

      فقال: عاملك على مصر، اسمه عياض بن غَنم،   

      ولا يكاد عمر يسمع تفاصيل الشكوى، حتى اختار من أصحابه رجلين   

       يقول لهما: اركبا إلى مصر، وأتياني بعياض بن غَنم    

      كان شديدًا على ولاته، ويحاسبهم دون هوادة.  

بكاء عمر أثناء القرآن :  

      كان سيدنا عمر إذا سمع القرآن يبكي بكاء غير معقول، فكلما التقى بأبي موسى الأشعري،   

       يقول له:  يا أبا موسى اتل علينا آيات من كتاب الله،   

       ويقول: ذكرنا بربنا يا أبا موسى ، فيقرأ أبو موسى، ويبكي عمر.  

      أخواننا الكرام، إذا قرأ أحدُكم القرآن، ولم يرتعش، أو يقشعر جلده، ولم تدمع عينه إطلاقاً، فو الله هناك مشكلة في حياته، هذا الكتاب فيه روحانية.   

      إذا لقي صبياً في الطريق يأخذه بيده، ويقول له وعيناه تبكيان:    

       ادعُ لي يا بني فإنك لم تذنب بعد    

      فالعظماء مع شدة عظمتهم تجدهم متواضعين حتى مع الصبيان.  

صفات عمر :  

      وحينما كان يستقبل الموت،   

       قال لابنه عبد الله:  يا عبد الله خذ رأسي عن الوسادة وضعه فوق التراب، لعلَّ الله ينظر إلي فيرحمني   

      أكثر آية كان يتأثر فيها، قوله تعالى:  ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ

      هذا الكلام موجَّه لنا جميعًا، حياتنا ليست عبثاً، الحياة لها رسالة كبيرة، يجب أن نطلب العلم، وأن نتعرَّف إلى الله، وأن نعرف منهج الله، وأن نطبِّق هذا المنهج، يجب أن نأمر بالمعروف، وأن ننهى عن المنكر، وأن نعمل صالحاً.  

      كان نومه قليلاً، وكان أكله تقوتًا، وكان لبسه خشنًا، وكان يقظان دائماً،   

       وكان يقول:  إذا نمت الليل أضعتُ نفسي، وإن نمتُ النهار ضيَّعتُ رعيَّتي،   

وكلما التقى برجل، يقول له:  قل لي بربك ولا تكذبني، كيف تجد عمر؟ أتحسب أن الله راض عنه؟ أتُراني لم أخن الله ورسوله فيكم؟    

      فهو يرجو من الله السلامة، ليس إلا.  

      أيها الأخوة، كلما كان حسابك لنفسك شديداً، كان حسابك يوم القيامة يسيراً، فإذا حاسبتها حساباً يسيراً، كان حسابك يوم القيامة عسيراً، وأنا أنصح لكم أن تحاسبوها حساباً شديداً، ركعتان من ورع خير من ألف ركعة من مخلِّط.  



المصدر: السيرة - سيرة الخلفاء الرشدين - سيدنا عمر بن الخطاب - الدرس (2-7) : عملاق الإسلام ورعه ,ادبه مع الله