أيها الإخوة الكرام ... درس اليوم عن الصحابي الجليل سيدنا عثمان بن عفَّان .
ما هو المقياس الذي يجب أن نفهم به العظام
أيها الإخوة الكرام ...
يجب أن نقرأ سيرتهم بمقياسهم لا بمقياسنا
بادئ ذي بدء لا يستطيع أن يؤرِّخ للأبطال إلا من كان بطلاً ، لماذا ؟ لأن أخطر ما في تأريخ الأبطال أن تفهمهم بمقياسٍ آخر ، أن تفهم أصحاب المبادئ بمقياس أصحاب المصالح ، أن تفهم أصحاب القيم بمقياس أصحاب الحاجات ، والأهداف الأرضية ، فإذا تدخَّلت المقاييس الحديثة في التاريخ القديم فقد نصل إلى نتائج ليست واقعية ، وليست صحيحة ، فهذا الصحابي الجليل سيدنا عثمان نال منه بعض أعداء الدين بعض النيل ، ولو أننا درسنا تاريخ هذا الصحابي الجليل دراسةً على ضوء عصره ، لا على ضوء مقاييس نعيشها اليوم ، قد تكون مقاييسُنا مقاييس مادية ، وقد تكون مقاييسنا أساسها المصالح ، لكن لو نظرنا إلى هذا الصحابي الجليل بمقياس عصره ، بالقيم التي عاشها ، والقيم التي أمضى حياته من أجلها لعرفنا قدر هذا الصحابي الجليل .
فلكل عصر قيَمُه ومقاييسه ، لا نستطيع أن نفهم عظمة أصحاب رسول الله إلا إذا كنا معهم بالقيم التي عاشوها ، بالصفاء الذي عاشوه ، بالإخلاص الذي تمثَّل في سلوكهم ، وهناك أمثلة أوضح من ذلك ؛ أن سيدنا عمر عزل سيدنا خالدًا ، فلماذا عزله ؟ فهل هو خائف منه أم غير خائف منه ؟ هل خاف أن يقوم بعمل تكتُّل ضده ، أو يتنكّر له ، أو يقوم بانقلاب عليه ، كل هذه الأفكار أفكار معاصرة ، هذه لا تليق بصحابة رسول الله ، فسأل سيدنا خالدٌ لسيدنا عمر : " لمَ عزلتي يا أمير المؤمنين ؟ " قال له : " والله ما عزلتك إلا مخافة أن يفتتن الناس بك ، لكثرة ما أبليت في سبيل الله " .
لأن النصر في جميع المعارك التي قادها اقترن في أذهان الناس بسيدنا خالد ، فخاف على الناس أن يتوهَّموا أن النصر من عند سيدنا خالد ، وهو من عند الله ، فعزله ، وأراهم كيف أن النصر لا يتغيَّر ، فبين أن يفهم إنسان هذا الحادث فهماً معاصراً ، فهمًا مصلحيًّا ، فهمًا أساسه الخوف ، أو القلق ، أو السيطرة ، أو الأنانية ، وبين أن يفهم أنّ هذا الحادث أساسه إنقاذ عقيدة التوحيد .
يجب أن نصطفي
فنحن علينا أن نأخذ من تاريخ المسلمين الصفحات المشرقة كي تكون هذه الصفحات باعثاً لنا ، وحافزناً على البطولة ، أما أن نُعنى بتاريخنا على أنّه حالةٌ لا تُرضي فلعله افتراء ، ولعله تزوير، ولعله مبالغة ، هذه الصفحات التي يمكن أن تشوِّش علينا يجب ألاّ نلتفت إليها ، هذا التاريخ كما قلت لكم من قبل هو عبءٌ علينا ، وليس حافزاً لنا ، فنحن إذا قرأنا التاريخ الإسلامي نريد أن نستشفَّ روح التاريخ ، أن نستشفَّ عظمةَ الأبطال كي يكون هؤلاء الأبطال مُثُلاً عُليا أمامَنا ، أما أن نعنى بالجزئيَّات والتفاصيل التي قالها زيد ، وأنكرها عُبيد ، ووردت في الكتاب الفُلاني ، أو الكتاب الآخر ، فهذا ليس مما يعنينا إطلاقاً ، الإنسان عليه أن يصطفي لأن الوقت قصير والمهمة خطيرة .
فتصوَّر أنّ إنسانًا لديه مكتبة ضخمة جداً ؛ بمساحة أربعة جدران ، وبارتفاع السقف ، كلها زاخرةٌ بالكتب ، وعنده امتحانُ تَخَرُّجٍ بعدَ شهر ، ومقرراً عليه أربعة كتب ينبغي أن يؤدي امتحاناً لينجح فيها ، لو أنه أمضى وقته في تصفُّح هذا الكتاب وذاك الكتاب ، ونسي الكتاب المقرر ، فما أفلح ولا أنجح ، فما دام الوقت محدودًا ، والمهمة خطيرة ، والنتائج باهرة فعلى الإنسان أن يصطفي .
إذًا نحن لا يعنينا من التاريخ وقائعه ، وجزئيَّاته ، تعنينا روح التاريخ ، لا يعنينا من الشخص لونه ولون عينيه ونوع شعره وطوله ، تعنينا بطولته ، الذي يليق بنا أن نضع أيدينا على الجوهر لا على العَرَض ، أن نقف على اللُب لا على القشور ، فلكل شيء قشور ولباب ، فالبطل والعاقل هو الذي يمسك بلُبِّ الأشياء لا بقشورها، هذه أول نقطة في دراسة سيرة سيدنا عثمان رضي الله عنه .
قصة1:عطاءة لله
دخل على سيدنا عثمان بن عفَّان ذي النورين رجلٌ من أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ، وعند هذا الصحابي الجليل رجلٌ يعطيه عطاءً ، فالداخل بكى ، قال له : " لمَ تبكي ؟! قال : يا أمير المؤمنين كنتُ عند عمر ، وجاء هذا بالذات فلم يعطه ، وها أنت تعطيه ، سبحان الله تغيَّر الزمان !! فما كان مِن هذا الخليفة العظيم إلا أن قال له : عمر منع لله ، وأنا أُعطي لله " .
إذًا فهذا اختلاف اجتهاد ، لهذا أنا أقول دائماً : إنّ الله سبحانه وتعالى أجلُّ وأعظمُ مِن أن يجتهد عبدٌ اجتهاداً مخلصاً ، ويرفضه الله عزَّ وجل، أصبت ، أو لم تُصب ، فما دام الاجتهاد مخلصًا ، فلان اجتهد أن هذا يرضي الله ففعله ، فلان اجتهد أن هذا لا يرضي الله فلم يفعله ، مادام الاثنان يريدان وجه الله عزَّ وجل ، فالله عزَّ وجل أكرم وأعظم أن يرفض مجتهداً مخلصاً باجتهاده ، هذا الكلام يسع الناس جميعاً .
كان سيدنا عثمان شخصًا أخلاقيًّا
فسيدنا عثمان بن عفان كان شخصًا أخلاقيًّا ، فلما سمع بدعوة النبي عليه الصلاة والسلام سارع إلى تصديقها ، والإيمان بها ، فكان خامس صحابي من أصحاب رسول الله دخل الإسلام ، فحينما أسلم كان أحد خمسةٍ دخلوا في دين الله ، هناك قصة قصيرة ، يقول كتّابُ السيرة :" كان محمد صلى الله عليه وسلَّم قبل أن يكون رسولاً يملأ الأفئدة الذَّكية الصافية روعةً وتأثيرا ، وكان لعثمان فؤادٌ من هذا الطراز ، يحمل لمحمد صلَّى الله عليه وسلَّم أروع الصور وأبهاها " .
وكما قيل في المثل العربي : " إنَّ الطيور على أشكالها تقع " ، و " قل لي من تصاحب أقل لك من أنت " ، قل لي من يعجبك أقل لك من أنت ، قل لي من تُكبر أقل لك من أنت ، قل لي من تحب أقل لك من أنت ، قل لي على من تتحدَّث أقل لك من أنت ، فالشخص الذي يملأ إعجابك أغلب الظن هو على شاكلتك ، أو أنت على شاكلته ، فقد تعجبون ما هذا السر في مبادرة الصحابة للإيمان برسول الله ؟ لأنهم أخلاقيِّون ، فهم أشخاص من مستوى رفيع ، الشخص العظيم يحب العظيم ، العالم يحب العالم ، المؤدَّب يحب المؤدَّب ، فكان النبي عليه الصلاة والسلام عند سيدنا عثمان يملأ كلَّ مشاعره وتفكيره بأخلاقه ، وبأمانته ، وباستقامته .
وأنا أقول لكم أيها الإخوة دائماً ، والله بإمكانك أن تكون أكبر داعية ، وأنت ساكت دون أن تنبس بكلمة ، فلك سمت ، لك سمعة ، لك سلوك ، لك كلام منطقي ، لك كلام مهذَّب ، ولو أقام معك شخص خمس سنوات لم يسمع منك مُزاحًا سيِّئ ، ولم يسمع كلمة نابية ، أو تعليقًا ساخرًا ، وما سمع تهكُّمًا أبداً ، بل أنت دائماً جادٌّ ، فهذا الذي يجهد أن يكون كاملاً هو داعيةٌ إلى الله ، وهو لا يدري ، داعيةٌ بكل معنى لهذه الكلمة ، هذا الكلام استنبطته من أن هذا الصحابي الجليل سارع إلى الإيمان برسول الله ، لا لأنه سمع منه الكثير ، وناقشه كثيراً ، فالقضية أقوى من ذلك ، فأخلاق النبي الوضيئة ، وسماته العظيمة ، وسمعته الطيبة ، وكماله هي التي جذبتْ أصحابه إليه، فقوة الجذب تكون أحياناً بالتواضع ، وتكون أحياناً بالكرم ، وأحيانًا بإطعام الطعام ، وبالتسامح ، وبالعطف ، وبالرحمة ، وبالإنصاف ، وبالعدالة .
وقد يخطر ببالي أن صهر النبي الكريم صلَّى الله عليه وسلَّم (أبا العاص) وقع أسيراً في قبضته، وقد جاء ليقاتله وأصحابه ، وهو زوج ابنته ، فلما استعرض النبي الأسرى نظر إليه ، ووقف عنده ، وقال : " واللهِ يا أبا العاص ما ذممناك صهراً " ، ماذا فعلت هذه الكلمة في نفسه ؟ ما هذا الإنصاف ؟ إنسان جاء ليقاتلك ويتمنّى أن يقتلك ، لكن كان زوجاً طيّباً لابنتك ، فالنبي عليه الصلاة والسلام ما نسي له هذه الميزة ، فقال : " والله يا أبا العاص ما ذممناك صهراً " لعل هذه الكلمة تركت أعمق الأثر في نفس هذا الزوج ، وقد كان وقتها مشركاً ، وهذه الكلمة المنصفة هي التي رفعته ورفعته إلى أن صار من أصحاب النبي عليهم رضوان الله .
قصة2: الرؤيا الصادقة
سيدنا عثمان رأى رؤيا ، قال : ذات يومٍ ، وهو قادمٌ من الشام جلس يقيل في مكانٍ ظليل ، أي يستريح ، غلبه النوم هو ورفاقه ، فإذا به يسمع في حُلُمه منادياً ينادي النائمين : " أن هُبّوا أيقاظاً فإن أحمد قد خرج بمكة " .
أقول لكم هذا الكلام وأرجو أن يبقى في أذهانكم : " الرؤيا الصادقة جزءٌ من ستٍ وأربعين جزءًا من النبوة " أي أن الله عزَّ وجل لكرامتك عليه أحياناً يُريك رؤيا إعلامية مباشرة ، هذه الرؤيا إيَّاكم أن تستهينوا بها ، إيَّاكم ألا تكترثوا بها ، إذا كانت هذه الرؤيا واضحة وضوح الشمس، نداءٌ يدعوك في النوم إلى طاعة الله ، إلى سلوك طريق الإيمان ، فاعلم علم اليقين أن هذه الرؤيا هي إعلامٌ من الله عزَّ وجل ، كيف أن الأنبياء يأتيهم الوحي ، الرؤيا الصادقة جزءٌ من ستةٍ وأربعين جزءًا من النبوة ، ما بقي من النبوة هذه الأيام إلا الرؤيا الصالحة ، يراها الرجل الصالح ، أو تُرى له ، فإذا رأى المسلمُ رؤيا صالحة واضحة تماماً وضوح الشمس ، تأتي كفلق الصبح ، عليه أن يعبِّرها ، ويتفاءل بها .
سيدنا عثمان سمع في منامه منادياً يقول : " أيها النائمون أن هُبّوا أيقاظاً فإن أحمد قد خرج بمكة "، هذه بشرى .
كان سخياً إلى درجة لا تصدَّق
كان هذا الصحابي الجليل سخياً إلى درجة تأخذ بالألباب ، كان سخياً إلى درجة لا تصدَّق ، ففي بعض مواقف سخائه أمام النبي عليه الصلاة والسلام ، قال عليه الصلاة والسلام : " ما ضرَّ عثمان ما صنع بعد اليوم ، الَّلهم ارض عن عثمان ، فإني عنه راضٍ " .
هل توجد مرتبة أعلى من هذه المرتبة ، أن يقول النبي عليه الصلاة والسلام : الَّلهم ارض عن عثمان فإني أمسيت عنه راضٍيًا ، هل هناك مرتبة أسمى مِن أنْ يقول النبي عليه الصلاة والسلام :" ما ضرَّ عثمان ما صنع بعد اليوم " ، هذا القول قد يفهم فهماً معكوساً ، وهو أنه بعد أن أنفق هذه النفقة لو ارتكب كل المعاصي ، فهذه المعاصي لا تضرّه ، ليس هذا هو المعنى ، هذا السخاء الكبير جعله على درجة من القرب كبيرة جداً ، هذه الدرجة لن تسمح له أن يفعل شيئاً ، هذه الدرجة العالية من القُرب لن تسمح له أن يقترف ذنباً ، أي أن كل أفعاله لا تمتُّ إلى الذنوب بصلة، ما ضرَّ عثمان ما صنع بعد اليوم .
قصة 3: كان أشد الصحابة حياء
نحن تكلَّمنا من قبل وقلنا : إن المزية لا تعني الأفضلية ، فهذا الإنسان طبعه شديد الحياء ، فلو رأى النبي على حاله تلك مبدِيًا فخذَه لما دخل ، وطبعاً سيدنا الصديق إنسان عظيم جداً ، فنوع العلاقة تختلف عن نوع علاقة سيدنا عثمان بسيدنا رسول الله ، فكل صحابي له نمط ، وله طبع وسلوك معيَّن ، فالنبي كان يعرف أصحابه واحداً واحداً .
فلو فرضنا أنك دخلت بيتَ إنسان فلبس بذلته الرسمية مسرعًا ، وتهيأ لك ، وقام بحسن استقبالك ، فهل تقابله بثياب البيت ؟ لا تقدر ، فما دام تهيأ بهذا التهيّؤ واهتم بهذا الاهتمام ، فأنت تجد أنه من المناسب أنْ تقابل اهتمامه بك باهتمام مماثل ، ففوراً ترتدي ثيابك ، أما إذا كان الشخص في بينك ، وبينك وبينه محبةً رائعة ، فدخلت إليه ، وكان يرتدي ثياباً نظيفة أنيقة مرتَّبة، ولكن لم يغيِّر ثيابه ، فلو جاءك أنت ، وما غيَّرت ثيابك فلا مانع ، لكنَّ ثوبَ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان محسوراً عن فخذه الشريف ، ودخل سيدنا الصديق ، ولم يغيِّر من وضعه ، ودخل بعدها سيدنا عمر فلم يغيِّر كذلك ، ولما دخل سيدنا عثمان أسدل الثوب ، فهذه حالة خاصَّة، وعللها رسولُ الله عليه الصلاة والسلام .
النبي عليه الصلاة والسلام يقول في وصف هؤلاء الصحابة الكرام : " أرحم أمتي أبو بكر ، وأشدها في دين الله عمر ، وأشدُّها حياءً عثمان".
يقولون : إنّ العلماء مثل الفواكه ، فهذه زائدة الحلاوة ، وهذه قليلة الحموضة ، وهذه فيها طعم معيَّن ، فكذلك أصحاب النبي كالفواكه ، كل واحدٌ منهم له طبع ، وله نموذج ، وله أسلوب في التعامل مع الآخرين "أرحم أمتي أبو بكر ، وأشدها في دين الله عمر ، وأشدها حياءً عثمان".
سيدنا عثمان له مكانة اجتماعية كبيرة جداً
سيدنا عثمان له مكانة اجتماعية كبيرة جداً في قومه ، بدليل أن النبي عليه الصلاة والسلام عندما نشبَ سوءُ تفاهم بينه وبين قريش أرسل أحبَّهم إلى قريش ، وهو سيدنا عثمان ، وهو يتمتع بكياسة وحكمة ومكانة اجتماعية وبعلوِّ قدر .
قصة4 : تعذيب عمه له عندما أسلم
لذلك إذا كان الإنسان من عامة الناس ضُيِّق عليه ، وعذِّب فهذا حال ، وإذا كان الإنسان من علية القوم ضغط عليه ، وخدشت كرامته فالأمر مختلف ، فهذا له أجر أكبر ، لأنه شيء لا يُحتمل، فسيدنا عثمان يروى أن الحكم بن أبي العاص أوثقه بالحبال ، وبالسلاسل، وصرخ في وجهه : " أترغب عن ملة آبائك إلى دينٍ محدث ، والله لا أُحل وثاقك أبداً حتى تدع ما أنت عليه من هذا الدين " ، فيجيب عثمان بن عفان الذي عرف طريق الله عزَّ وجل بكلامٍ ثابت الجنان : " والله لا أدع دين الله أبداً ، ولا أُفارقه " ، ويوالي الحكمُ تعذيبَ عثمان وهو عمّه ، ويوالي عثمان إصراره على دين الله .
فهذا الكلام له معنى ، فالإنسان إنْ آمن بالله عزَّ وجل فلا بد أنْ يُمتحن ، وليس مِن إنسان يؤمن بالله عزَّ وجل إلا وله معارضة ، هناك من يسخر منه ، هناك من يضغط عليه ، أحياناً الأب كان ينوي تزويج ولدِه ، فلما تمسَّك بالدين ألغى تزويجه ، كان ينوي أن يعطيه عطاءً ، فلما أصرَّ على موقفه حرمه ، هذا شيء ثابت ، وعلى كل مؤمن أنْ يوطِّن نفسه أنه إذا عرف الله حقيقةً ، واستقام على أمره فعلاً ، فهناك مضايقات ، وهناك امتحانات ، وهناك ابتلاء ، من أجل أن ترتفع الدرجات , فهذا الضغط لا بدَّ منه .
هجرة سيدنا عثمان للحبشة مع زوجته بنت رسول الله
النبي عليه الصلاة والسلام من شدة رحمته بأمته رأى أن أصحابه لا قِبل لهم بهذا التعذيب ، وبهذه المضايقة التي يتحملونها من قريش ، فأمرهم بالهجرة إلى الحبشة ، وكان هذا الصحابي الجليل عثمان بن عفان وزوجته بنت رسول الله ، التي زوَّجه إيَّاها بعد الإسلام ، أوَّل من هاجر إلى الحبشة ، لذلك وقف النبي عليه الصلاة والسلام يودِّعه هو وابنته
قال رسول الله : " إنهما لأول من هاجر إلى الله بعد نبي الله لوط " .
هذا كلام النبي عليه الصلاة والسلام .
بعض أعمال سيدنا عثمان في المدينة :
شراءه بئر رومه من اليهودي
عندما هاجر النبي صلَّى الله عليه وسلَّم إلى المدينة لم يستقرّ بها حتى فاجأته مشكلة المياه في المدينة ، فالمياه كانت قليلة جداً ، وكان بالمدينة عينٌ تفيض بماءٍ عذبٍ طيِّب المذاق ، تدعى بئر رومة ، ويملكها رجل يهودي ، يبيع ملء القربة بمدٍ من قمحٍ أو شعير ، فالماء ثمين جداً ، وتمنّى النبي عليه الصلاة والسلام لو يجد بين أصحابه من يشتري البئر حتى تفيض ماؤها على المسلمين بغير ثمن ، وسارع عثمان رضي الله عنه إلى تحقيق رغبة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ، فعرض على اليهودي صاحب البئر أن يبيعها له فأبى ، فساومه عثمان على نصفها ، واشترى النصف باثني عشر ألف درهم ، وهو مبلغ ضخم ، على أن تكون لليهودي يوماً ولعثمان يوماً ، فكان المسلمون يستسقون في يوم عثمان ما يكفيهم يومين ، وهكذا رأى اليهودي نفسه ، وقد خسر زبائنه وسوقه التي كانت رائجة ، عندئذٍ عاد يعرض على عثمان أن يشتري النصف الثاني ، فاشتراه ، وأصبحت البئر كلُّها للمسلمين يشربون منها الماء العذب بقدر ما يحتاجون بلا ثمن ،و هذا أول عمل قام به .
لذلك فموضوع السبلان ، أي هذا الذي يوقف سبيلَ ماءٍ في مسجدٍ ، أو في بيتٍ ، أو في طريقٍ هذا عمل طيِّب ، أن تشرب كأس ماء صافيًا عذبًا بلا مقابل ، هذه نعمةٌ لا يعرفها إلا من سافر خارج هذه البلدة ، ففي بعض البلاد ، وحتى في أيام الحج ، الماء الذي يستعمل في البيت لا يشرب إطلاقاً ، فهو مجمَّع في حوض على مستوى أرض البناء ، فإذا ألقيت على هذا الحوض نظرةً وجدت الأعشاب ، وبعض الحشرات ، وهذا الماء يضخ إلى الأعلى ، ويسيل في الصنابير، ومن المستحيل أن تشربه ، فلا بد أن تشتري هذه القوارير من أجل أن ترتوي ، وكل قارورة ثمنها يبلغ ثلاثة ريالات ، أي ما يساوي خمسين ليرة ، بينما هنا في الشام والحمد لله نفتح حنفية الماء فينزل الماءُ من غير حساب ، وبثمن زهيد جداً ، فموضوع الماء العذب الزلال أمرٌ يهم الناسَ ، فتوفير المياه للناس ، وأن يشربوا ماءً طيباً عذباً فراتاً سائغاً فهذا شيء ثمين جداً ، وهذا أول عمل قام به سيدنا عثمان ، فاشترى هذه البئر ، وجعلها للمسلمين ، يشربون بغير حساب ، معنى ذلك أنه دفع ثمنها البالغ أربعة وعشرين ألف دينار.
وسّع المسجد النبوي
ولما كثر المسلمون الداخلون في دين الله بالمدينة صار المسجد يضيق بهم ، فتمنّى النبي عليه الصلاة والسلام لو يجد من بين أصحابه من يشتري الرُقعة المجاورة كي تُضَمَّ إلى المسجد ، أي كما يحدث في كل زمان ، فقد أمَّن مشروع المياه ، وثانيًا قام هذا الصحابي الجليل واشترى بيتًا إلى جوار المسجد ، وضمَّه إلى المسجد ، فتم توسيع المسجد ، وبالمناسبة في الحياة ثلاث أنواع من القوة قوة العلم ، وقوة المال ، وقوة السلطان ، وهذه القوى الثلاث يمكن أن توظَّف في سبيل الله ، والدار الآخرة ، فإذا ملَكَ إنسان المال ، والمال شقيق الروح ، فينبغي أن تتيقَّنوا أن الذين يملكون المال يستطيعون أن يصلوا به إلى أعلى المراتب ، وذوو العلم يستطيعون بعلمهم أن يصلوا إلى أعلى المراتب ، والأقوياء إذا وضعوا قوَّتهم في خدمة الضعفاء وكانوا منصفين بقوَّتهم يصلون إلى أعلى المراتب ، فالقوة ؛ قوة المال ، وقوة السلطان ، وقوة العلم ، هذه القوى الثلاث يمكن أن توظَّف في سبيل الله ، والدار الآخرة .
وسع البيت الحرام
وحينما فتح الله مكة للنبي عليه الصلاة والسلام ، وعاد إليها ظافراً كريماً ، رأى أن يوسِّع البيت الحرام ، فعرض على أصحاب بيتٍ ملاصقٍ للمسجد أن يتبرعوا لتوسعته ، فاعتذروا بأنهم لا يملكون غيره ، وليس لهم مالٌ يشترون به سواه ، ومرة ثالثة كان عثمان الذي لم يَكَد يبلغ مسامِعَه النبأُ حتى سارع إلى صاحب الدار الواسعة العريضة ، واشتراها منه بعشرة آلاف دينار ، فتمَّ توسيع الحرم النبوي ، والحرم المكي كذلك ، ووفَّر الماءَ بلا مقابل للمسلمين بالمدينة ، وهذه كلها أعماله الطيبة .
فمرة دخلت إلى مسجد ، فأيّ مسجد والحمد لله فيه دروس علم ، وفيه خطب وفيه حلقات ذكر، فوجدت أنه لولا الذين بنوا هذا المسجد ، وجعلوه مكاناً لطاعة الله ، ومكاناً للعمل الصالح ، لولا هؤلاء الذين جمعوا التبرعات ، وأنشأوا المخططات ، وصبوا السقف ، وطيَّنوا ، وزخرفوا ، ومدوا السجاد والكهرباء ، وهذه أعمال عظيمة جداً ، لولا هؤلاء لما اجتمعنا في هذا المكان ، فالعمل الصالح يحتاج إلى ظرفٍ يحتويه ، فإذا كانت الدعوة إلى الله عملاً عظيمًا ، والصلوات والذكر والتدريس هي أعمالٌ عظيمة كذلك ، فليس أقلَّ عظمةً من هذا العمل إلا من أسس هذا البناء ، وساهم فيه ، فتوسعة المسجد شيء ثمين جداً .
تجهيزه لجيش العسرة
وفي العام التاسع الهجري ولَّى هِرقل الإمبراطور الروماني وجهه صوب الجزيرة العربية ، متلمِّظاً برغبةٍ شريرة في العدوان عليها ، والتهامها ، وكان الدين الجديد برسوله العظيم ، ورجاله الشجعان البواسل قد ملؤوا حياته وحياة بيزنطة كلها قلقاً وخوفاً ، أي أن المؤمنين أصبحوا مصدر قلق للرومان ، فهذا الإمبراطور بعد أن انتصر على بلاد فارس قرر أن يسير إلى الجزيرة العربية، ليستولى عليها ، فأمر قوَّاته بالاستعداد وانتظار أمره بالزحف ، وترامت الأنباء إلى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم ، فنادى أصحابه للتهيّؤ للجهاد ، وكان الصيف حاراً يصهر الجبال ، وكانت البلاد تعاني من الجدب والعسر فيما تعاني ، فإذا قاوم المسلمون بإيمانهم وطأة الحر القاتل ، وخرجوا إلى الجهاد عبْرَ الصحراء الملتهبة ، فمِن أين لهم العتاد والنفقات الباهظة التي يحتاجها القتال؟ .
فالقضية خطيــرةً جداً .. فهذا إمبراطور روماني حاقد ، توجَّه إلى بلاد الفرس ، وانتصر عليهم، فأصابته نشوة النصر ، وقد سمع أن هناك نبياً وديناً جديداً ، وحوله أصحابٌ أشداء مقاتلون ، لقد أقلقتْ أخبارُ النبي وأصحابه هرقل ، فأراد أن يتوجَّه إلى الجزيرة العربية ليقضي على هذا الدين الجديد ، ويستأصل شأفتهم ، ويلتهمهم ويستتبَّ له الأمر .
فرأى النبي عليه الصلاة والسلام أنّه لا بدَّ أن يذهب لملاقاتهم ، وإلا يستضعفونه ، وهذه الغزوة التي كانت في أشهر الصيف ، والوقت شديد الحرارة ، والبلاد مجدبةٌ ، فالسنة سنة محل ، فلا مال لديهم ولا عتاد كافٍ بين أيديهم ، فنظر النبي عليه الصلاة والسلام إلى الصفوف الطويلة العريضة من الذين تهيَّؤوا للقتال وقال : " من يجهِّز هؤلاء ، ويغفر الله له " .
فكل واحد منهم يحتاج إلى فرس ليركبه ، وسيف ، وعتاد ، ومؤونة ، هذا اسمه جيش العسرة، وما كاد عثمان يسمع نداء النبي صلَّى الله عليه وسلَّم حتى سارع إلى مغفرة الله ورضوانه ، وهكذا وجدت العُسرة الضاغطة عثمانَها المعطاء ، وقام رضي الله عنه بتجهيز الجيش كلِّه ، حتى لم يتركه بحاجةٍ إلى خطام بعيرٍ أو عِقال فرسٍ ، يقول ابن شهاب الزهري : "قدَّم عثمان لجيش العسرة في غزوة تبوك تسعمائةٍ وأربعين بعيراً ، وستين فرساً أتمَّ بها الألف " ، وبالتعبير الحديث ألف مدرَّعة .
ويقول حذيفة : " جاء عثمان إلى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم لتجهيز جيش العُسرة بعشرة آلاف دينارٍ ، صبَّها بين يدي النبي صلَّى الله عليه وسلَّم ، فجعل النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يقلِّبها بيده ويقبلها ، ويقول : " غفر الله لك يا عثمان ما أسررت ، وما أعلنت ، وما هو كائنٌ إلى يوم القيامة" .
طبعاً موقعة تبوك لم يقع فيها قتال بين الطرفين ، فهذا الإمبراطور جاءه ما يشغله عن مهاجمة الجزيرة ، فصرف النظر عن الدخول إلى الجزيرة ، وكفى الله المؤمنين القتال ، ولكن هناك تعليقٌ لطيفٌ ، فسيدنا عثمان ، ومع أن الحرب لم تقع ، والجيش لم يحارِب ، لم يسترد شيئاً مما أعطى ، وهذا الذي أعطاه بقي للمسلمين ، فالإنسان إذا أعطى أعطى ، فالعائد من هبته كالعائد في قيئه .
وكان بعض كتَّاب السيرة يقولون : " إنه كان يبدو وكأن عثمان بن عفان هو الممول الوحيد للأمة الجديدة والدين الجديد " .الممول الوحيد ، دور عظيم ، فهناك شخص أعطاه الله طلاقة لسان ، وهناك شخص ليست عنده هذه الطلاقة ، ولكن عنده المال ، أنت بالمال ترقى ، وبالتعليم ترقى ، وبنصرة الضعيف ترقى ، يجب أن تتفوَّق في شيء ، وأن تبذله في سبيل الله حتى ترقى ، هذا هو الهدف ، تفوَّق في شيء ؛ بخبرة ، باختصاص ، بحرفة ، بمال ، بقوة ، بسلطان ، بعلم ، وأنفقه في سبيل الله
نعْمَ المال الصالح للعبد الصالح
هذا هو سيدنا عثمان ، اشترى البئر ، ووسَّع المسجد النبوي ، ووسَّع الحرم المكي ، وجهَّز جيشًا بكامله ، والله إنّ المال لنعمةٌ ، وقد ورد : " نعْمَ المال الصالح للعبد الصالح " ، وقال أحد الصحابة : “ حبَّذا المال أصون به عرضي ، وأتقرَّب به إلى ربّي ”.
واللهِ أيها الإخوة ، لا أعجب إلا من غنيٍ يضنُّ بماله في سبيل الله ، فهذا المال لمن تتركه ؟ لأولادٍ طائشين ينفقونه على المعاصي والآثام ، وعلى شرب الخمور ، وارتياد الملاهي ، ونوادي الليل ، تعيش فقيراً لتموت غنياً !! أين عقلك ؟ فالغني عنده إمكانية ليسبق الناس كلُّهم بإنفاق ماله، وبإمكانه أن يمسح الدموع من آلاف العيون ، وأن يدخل السرور لقلوب آلاف البيوت ، وذات يومٍ دخلت بيتا ، وكان الأخ صاحب البيت مصابًا بمرض عُضال ، ويحتاج لإجراء عملية تكلِّف ربع مليون ليرة ، وهو موظَّف فقير ، وقد دخل أولاده أمامي ، وعليهم كآبةً واضحة تغشى وجوههم ، وقد علم بحاله إنسان محسن ، فاتصل بالطبيب الأول ، وقال له : اتصل بفلان ، وحَدِّدْ له موعداً لإجراء العملية ، فقال لي : يا أستاذ ، والله ، وأنا قاعد في البيت جاءني اتصال هاتفي ، وعرَّفني صاحبُه باسمه ، وأنه الدكتور فلان ، فقال له : أنا مكلَّف بإجراء عملية لك مجاناً ، فهناك جهة لم تعلن عن اسمها ، قد تكفَّلت بإجراء العملية ، والعملية باهظة ، ومن فضل الله عزَّ وجل قام هذا الطبيب بإجراء هذه العملية بنجاحٍ باهر ، وتماثل المريضُ للشفاء ، وسبحان الله ، ومن غرائب الصدف أنْ زرتُه في البيت بعد العملية ، وواللهِ رأيت الفرحة على وجوه أبنائه بعد تلك الكآبة الساحقة ، كما وجدتُه في غاية الانتعاش والسرور .
فهذا الذي يقيم عرسًا في فندق، ويدفع فيه ثلاثين أو عشرين مليوناً من الليرات ، وأقل شيء خمسة ملايين ، يمكنه بهذه الملايين الخمسة أن يمسح الدموع عن خمسين شخصًا ، عرس أقيم في دمشق كلَّف عشرين مليونًا ، يمكن أن تزوِّج بالعشرين مليونًا مائتي شابٍ وشابة بالضبط ، إذا أدّى لكل شاب ثلاثمائة ألف ، أو مائتين وخمسين ألفًا ، وأنا أعجب من غني معه المال الوفير كيف لا يرقى به إلى أعلى عليين ؟!
كان يتّسم بالحياء الشديد، وكان يتّسم بالسخاء الشديد
هذه بعض أعماله رضي الله عنه ، أولاً كان يتّسم بالحياء الشديد، وكان يتّسم بالسخاء الشديد ، حياءٌ ما بعده حياء ، وسخاءٌ ما بعده سخاء ، ودعوةٌ من النبي ما دعاها لأحدٍ قبله ولا بعده : " ما ضرَّ عثمان ما فعل بعد اليوم " ، وقد قال : " غفر الله لك يا عثمان ما أسررت وما أعلنت وما هو كائنٌ إلى يوم القيامة " .
وما عليك إلا أن تنطلق
أيها الإخوة ... هذا الصحابي الجليل كان من السابقين إلى الإسلام ، ولقد كان سيدنا عثمان غنيًّا ، لكن العجيب أن هناك صحابيًّا غنيًّا وآخر فقيرًا ، وفيهم صحابي متقدِّم في السن، وآخر شاب ، وصحابي صبي ، وصحابي طفل ، وهناك صحابي ألمعي ، وآخر بسيط ، ولكن كلُّهم على العين والرأس ، فتنوُّع الصحابة يعطيك تنوُّع النماذج البشرية .
فكل واحد منكم أيها الإخوة بوضعه ، بإمكاناته ، بثقافته ، بانتماءاته ، بحرفته يمكن أن يحقق أعلى درجات البطولة ، هذه البطولة أبوابها مفتَّحةٌ لكلِّ مؤمن ، فلا تقل : إنّ البطولة كانت في عصر الصحابة ، والآن أُغلقت أبوابها ، الله عزَّ وجل هو هو ، وشرعه هو هو ، والقرآن هو هو، فبإمكانك أنْ تبذل من مالك ، ومن وقتك ومن خبرتك ، وبإمكانك أن تصلي ، وتقرأ القرآن ، وتحفظه ، وتفهمه ، وتشرحه ، وبإمكانك أن تعتني بأهلك ، بأولادك وزوجتك ووالدتك ووالدك ، وتكون صادقاً ، فالذي استطاعه أصحاب رسول الله تستطيعه أنت ، وما عليك إلا أن تنطلق .
يعني شمِّروا فإنَّ الأمر جِدٌّ ، تأهَّبوا فإنّ السفرَ قريبٌ ، القضية تحتاج إلى تشمير عن ساعِدَ الجِدِّ.
فأنت لا تيأس ، وقل كلمة الحق ، هذا الذي أسلم ، وهو فرنسي ، وكان زعيماً لحزب علماني إلحادي بفرنسا ، لماذا أسلم ؟ قال : لقد كان هناك جندي مغربي مسلمٌ ، وذلك قبل ثلاثين سنة ، وقد أُمِرَ هذا الجندي بقتله بعد أسرِه ، وهذا الجندي بدافعٍ من إيمانه وإسلامه رفض أن يقتله ، وقام بتهريبه ، فأنقذ حياته بدافع من دينه ، فتساءل : ما هذا الدين ؟
هذا الكلام المقصود منه أنك من الممكن أن تكون داعيةً كبيراً ، وأنت ساكت ، ومِنَ الممكن أن تجذب الناس بأخلاقك ، بإنفاقك ، بكرمك ، بتواضعك.