بين الحسن والأحسن:
أيها الأخوة الكرام، ومع سيرة سيدنا عثمان بن عفَّان رضي الله عنه، سابقاً بيَّنتُ لكم جانباً من فضائل هذا الصحابي الجليل، وهي فضائل سخائه وإنفاقه، وذكَّرتكم كيف أن السخاء حسن، لكن في الأغنياء أحسن، وأن الصبر حسن، لكن في الفقراء أحسن، وأن التوبة حسنة، لكن في الشباب أحسن، وأن الورع حسن، لكن في العلماء أحسن، وأن العدل حسن، لكن في الأمراء أحسن، وأن الحياء حسن، لكن في النساء أحسن؟.
فهذا الصحابي الجليل كان من أغنياء الصحابة، ولا تنسوا أن الإنسان كما يمتحن بالفقر، يمتحن بالغنى، قد ينجح الغني في غناه، وقد يرسب الفقير في فقره، والله سبحانه وتعالى، يقول: ( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)
سيدنا عثمان الزوج المثالي:
ننتقل إلى جانبٍ آخر من جوانب هذا الصحابي الجليل، وهو جانب أوبته إلى الله، ورحمته بالخلق، وكما تعلمون فالنبي صلى الله عليه وسلَّم زوَّجه ابنته رُقية، ولما توفاها الله إليه زوجه ابنته الثانية أم كلثوم، ولما انتقلت هذه الزوجة الثانية إلى الرفيق الأعلى أسف النبي صلى الله عليه وسلم إذ لم يكن له كريمةٌ أخرى يزوِّجها لهذا الصحابي الجليل، فقال عليه الصلاة والسلام قولته المأثورة: لو أن لنا ثالثةً لزوَّجناك إيَّاها يا عثمان .
أقف هنا قليلاً، الزوج المثالي إنسان عظيم، وإنسان يستحق من الله الإكرام، هذه المرأة الضعيفة التي جعلها الله تحت يدي الرجل، بإمكانه أن يقسو عليها، وبإمكانه أن يظلمها، وبإمكانه أن يستعلي عليها، وبإمكانه أن يفعل كل شيء، لكن الله سبحانه وتعالى له بالمرصاد، فلولا أن هذا الصحابي الجليل كان زوجاً من أكمل الأزواج، ومن أرحم الأزواج، ومن أفضل الأزواج، لما سارع النبي صلى الله عليه وسلم إلى تزويجه بالبنت الثانية .
ماذا يفهـم من هذا النص أو من هذا القول الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلَّم، يفهم أنه زوجٌ مثالي.
أيها الأخوة، إن الأبوة المثالية، أعتقد أنها كافيه لإدخال صاحبها الجنة، وأن البنوَّة المثالية كافيةٌ لدخول الابن الجنة ، ويضاف أن الزوج المثالي برحمته، وإكرامه، وحلمه، وحكمته، وحرصه على زوجته، وحرصه على دينها، وعلى استقامتها، وعلى إقبالها، وحرصه على راحتها، فالزوج المثالي ربما كان هذا العمل كافياً له لدخول الجنة، فالنبي عليه الصلاة والسلام أشاد بهذا الصحابي الجليل.
أيها الأخوة، الرجل ليست بطولته أن يكون في البيت جباراً، ولا شرساً، ولا صيَّاحاً، ولا صخَّاباً، ولا مزمجراً، ولا مرعداً، النبي عليه الصلاة والسلام، قال: خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي .
كان إذا دخل بيته بسَّاماً ضحاكاً، كان عليه الصلاة والسلام إذا دخل بيته لف ثوبه لئلا يوقظ أهله، هل تصدقون أن حفيف الثوب يوقظ امرأةً نائمة؟ إنما كان يلفُّ ثوبه لشدة لطفه، لشدة إحساسه، ولشدة رحمته، ولشدة رغبته أن يستميل قلب زوجته، ولشدة حرصه على أن تُصْغي إلى كلامه فيتراحمان.
أيها الأخوة، لا يقدر الأب ولا الزوج أن يقول لأولاده أو لأهله كلاماً ويُسْمَع إلا إذا كان محسناً، إلا إذا كان رحيماً، إلا إذا كان سخياً، إلا إذا كان إنساناً كاملاً.
اسمعوا مني هذا الكلام، أكثر الناس بل معظم الناس يستطيعون أن يتصرفوا في علاقاتهم الخارجية تصرفاً مقبولاً سليماً ذكياً، لماذا؟ لأنهم حريصون على سمعتهم، وعلى مكانتهم وعلى صلاحهم في المجتمع.
لكن الإنسان عادةً إذا دخل بيته ليس هناك رقابة، ربما يصيح، ربما يزمجر، ربما يكسِّر، ربما يضرب، ربما يرتدي ثياباً مبتذلةً مثلاً، يقول لك: أنا قاعد في بيتي، وأنا غير مقيَّد، نعم في بيتك ليس عليك رقابة، ولا مَن يحاسبك، ولا من يسألك، لكن لو دخل عليك ضيف بادرتَه بالترحيب، اختلف الوضع، النغمة تحسَّنتْ، والكلام هادئٌ رتيبٌ، وارتديتَ ملابسَ لائقة من فورك، فالإنسان في بيته لا رقابة عليه، فإذا كان في بيته كاملاً، منضبطاً، أديباً، إذا كان مع زوجته الضعيفة رحيماً، إذا كان معها منصفاً، فأنا ما قرأت في حياتي أجمل من تفسير، قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آَتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً)
ما المعاشرة بالمعروف؟ هل تظن أنك أن تمتنع عن إيقاع الأذى بها؟ لا، بل المعنى أن تحتمل الأذى منها، يقول عليه الصلاة والسلام: خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي
يعني خيرية الإنسان لا تبدو إلا في بيته، أما خيريته خارج بيته فلعلها حِرصٌ على سمعته، ولعلها حرصٌ على مكانته، ولعلها سلوكٌ مدنيٌ ذكي، لكن الإنسان حينما يتحرر من القيود والمراقبة والنقد والمسؤولية، فهنا تظهر حقيقته.
الإنسان لا يعدُّ خَيِّراً إلا إذا كان في بيته محسناً.
الزوج أحياناً يكون في قلبه رحمة فيرى أن زوجتَه شريكة حياته، وأن هذه المرأة عاشت معه على السرَّاء والضراء، وأن هذه المرأة ضعيفة، وأن هذه المرأة بإمكانه أن يصل بها إلى الله عزَّ وجل، وبإمكانه أن يدلّها على الله بإحسانه، ما دام النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا دخل بيته لفَّ ثوبه، وهل يعقل أن يوقظ حفيفُ الثوب امرأةً نائمةً؟ ومع ذلك حرصه على راحتها، وحرصه على مودتها، وحرصه على أن يأخذ بيدها إلى الله، وحرصه على أن تكون شريكته في الجنة، يعمل هذا العمل، أنا أتعجب! وأمام كل واحد منا آلاف مؤلَّفة من الأعمال الصالحة، مع زوجته هناك أعمال صالحة لا تنتهي، مع أولاده، مع والدته، مع والده، مع جيرانه، مع أقربائه، مع أخواته البنات، مع بنات أخواته البنات، مع من يتعامل معهم، أنت متاح لك آلاف الأعمال الصالحة، وما عليك إلا أن تتحرك، ولن تتألق إلا بالعمل الصالح.
فأنا أرجو الله سبحانه وتعالى تطبيقاً لهذا النص، وتطبيقاً لهذه السيرة العطرة لهذا الصحابي الجليل، أن تعاملوا زوجاتكم بالمودة، وبالمحبة، وبالصبر عليهن، أحياناً النبي عليه الصلاة والسلام يكون في مهنة أهله، والمهنة كما تعلمون ليست الحرفة، ولكنها خدمة الزوجة، فلما يساهم الزوج بشكل، أو بآخر مع زوجته في بعض أعمال المنزل تطييباً لخاطرها، فليس الموضوع أن تقوم بإنجاز العمل، بل الموضوع أن تطيِّب خاطرها.
قد يكون الإنسان رب عمل، تاجرًا كبيرًا، عنده محل، وعنده صانع صغير، المحل يحتاج إلى تنظيف، فإذا أمسك صاحب المحل أداةً لينظِّف، فهذا الصانع الصغير يخرج من جلده، رغبةً في أن يأخذ عن سيده العمل، لكن هذا عمل ولو كان دقيقة واحدة، فيه تطييب قلب، فإذا أعان الزوجُ من حين للآخر زوجتَه فهذا من السُّنة.
فهناك أشخاص يفرِّغون العمل الصالح، يفرغونه من مضمونه، ويجعلونه خنوعًا، يجعلونه ضعفًا في الزوج، لا، فالنبي عليه الصلاة والسلام مأثورٌ عنه أنه كان في مهنة أهله، كان يكنس داره، ويحلب شاته، ويخصف نعله، ويعجن عجينه، قضية مشاركة، قضية تودد، قضية أن تكون زوجاً مثالياً.
مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَإِذَا شَهِدَ أَمْرًا فَلْيَتَكَلَّمْ بِخَيْرٍ أَوْ لِيَسْكُتْ وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلاهُ إِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا
سيدنا عثمان لم تغره الدنيا:
كان عثمان يصوم أكثر أيامه ويقوم الليل إلا هجعةً من أوَّله، هذا الصحابي الجليل من الصحابة الأغنياء جداً، الغني جداً كل ربع ساعة يُؤتى له بكأس من العصير، وفنجان قهوة، وشاي من الدرجة الأولى، فهذا الصحابي الجليل على علو قدره، وعلى كثرة ماله، كان في أكثر أيامه صائمًا، والغني إذا أراد أن ينام فله فراش وثير، أجهزة معقدة جداً، وشاشات، طبعاً إذا كانت حالته ميسورة يمكن أنْ ينام على أفخم فراش، بأجمل غرفة نوم، أما سيدنا عثمان أكثر ليله قائم، وأكثر أيامه صائم، هذا مما يضاعف له الأجر.
أعرف رجلاً آتاه الله عزَّ وجل من المال ما لا يُعدُّ ولا يحصى، إذا سافر إلى بلد بحكم عمله، يتنقل من الفندق إلى المكتب إلى بلده، بإمكانه أنْ يسهر في أفخر مطعم، ويذهب إلى أجمل مكان، لكن كلها أماكن مزدحمة بالمعاصي، لذلك رغم غناه الكثير فهو منضبط، والقوي الغني يحتاج إلى الصبر أكثر من الفقير الضعيف، لأنّ هذا الغني أمامه خيارات كثيرة بسبب وفرةِ المال
كان عثمان إذا قام الليل وقرأ هذه الآية تهُزُّه إلى أعماقه، وهي: ( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً)
ومنذ عدة أيام حضرت تعزية، البيت الذي عزَّيت فيه لا يوصف بأناقته، وعلو فرشه، وزينته قدرت بخمسين مليون، أين صاحبه؟ تحت أطباق الثرى، فهذه الدنيا عطاء ثم سلْب، قال تعالى: ( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً)
عثمان ينفق من ماله للصدقة:
هذا الصحابي الجليل نراه يُمضي مع نفسه ميثاقاً لا يخلفه طوال حياته، هو أنه يُعتق كل جمعة عبداً ويحرر رقبةً، يشتري العبد من سيده بأي ثمن، ثم يهبه حريَّته مبتغياً وجه ربه الأعلى
لنا أخ من أخواننا، ماذا يعمل؟ يذهب إلى سوق العصافير يشتري عددًا كبيرًا من الطيور، ويطلقها في سبيل الله، العصفور الذي ألف حريته، ثم وضع في قفص، هذا العصفور يتألَّم، فكان يشتري بعضها، ويعتقه لوجه الله، فهذا العمل بشكل مصغَّر، أتمنى أن يكون للإنسان عمل يومي، وإذا لم يكن يوميًا فليكنْ أسبوعيًا، الآن هناك حيوانات ليس لها من يطعمها، فبعض الأشخاص يشترون حبوباً، ويضعونها على أسطح منازلهم من أجل الطيور، فهناك أعمال صالحة تصل إلى الحيوان،
ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام حينما وصف رجلاً كان قد أصابه عطشُ شديد، فنزل بئراً، وشرب ماءً، ثم خرج فرأى كلباً كاد يأكل الثرى من العطش، فقال في نفسه: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثـل الذي بلغ بي، ثم نزل البئر، وملأ خفَّه ماءً، وأمسكه بفيه، ونزل البئر فسقي الكلب، فشكر الله له، فغُفر له، قالوا: يا رسول الله وإن لنا في البهائم لأجراً؟ قال: فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ .
لا تستغربوا، فقد ينجِّيك الله مِن حادث أليم نظير أنَّك نجَّيت حيواناً ضعيفاً من حادث أليم، وقد يدفع الإنسان ثمناً باهظاً لو أنه أساء لحيوان، فالمؤمن معطاء، لا يؤذي نباتاً ولا حيواناً ولا مخلوقاً، ألم تسمعوا قول النبي عليه الصلاة والسلام: عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ قَالَ فَقَالَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ لا أَنْتِ أَطْعَمْتِهَا وَلا سَقَيْتِهَا حِينَ حَبَسْتِهَا وَلا أَنْتِ أَرْسَلْتِهَا فَأَكَلَتْ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ .
أنت لو سقيت النبات فهذا عمل صالح، لو أطعمتَ الطير فهذا عمل صالح.
أيها الأخوة، أكثر شيء يؤلمني في أثناء السفر، أحياناً يتحاشى السائقُ الغنمة أن يدهسها، وكذلك الدجاجة، لأن لها أصحابًا، أما بعض الكلاب فلا مبالاة قد يدوسها السائقُ، وقد سمعت قصة، وذكرتها لكم من قبل، وهي مؤثرةً جداً، سمعتُها من رجل شاهد عيان،
قال لي: واللهِ كنت أركب سيارةً مع إنسانٍ غير ملتزم دينًا، وفي طريقه إلى المطار، وفي أيام الشتاء، وعلى طرف الطريق كان جرو صغير قابعاً على جانب الطريق الأيمن، لم أكن منتبها، فوجدته قد انحرف فجأةً بالسيارة انحرافاً شديداً، ومرَّ فوق يدي هذا الجرو الصغير فقطعهما، وأطلق ضحكةً، وأنا اضطربت اضطراباً شديداً، والسائقُ أقوى منه، ولا يستطيع محاسبته،
ثم قال لي: وفي الأسبوع الثاني أقسم لي أن الحادث كان يوم السبت ظهراً، ففي الأسبوع الثاني، وفي يوم السبت ظهراً، هذا الإنسان نفسه وفي المكان نفسه تعطَّلت عجلة من عجلات سيارته، فرغ هواؤها، فنزل من سيارته، ورفع السيارة بهذا الجهاز (الكريكو)، وفك هذه العجلة، وهو يفكها تعطل جهاز رفع السيارة، فوقعت العجلة على يديه والسيارة فوق العجلة على رسغيه، وأخذ بحالة إسعاف إلى المستشفى، فإلى أن وصل إلى المستشفى اسودت يداه، فكان لا بدَّ من قطعهما.
فالظلمُ والطغيان عاقبتهما مخيفة، أحد الأشخاص غضب من هرَّة فألقاها من الطابق السابع، وأغلب الظن أنها نزلت ميّتة، بعد أيام فقد بصره.
عثمان يحاسب محتكري الأرزاق:
كان سيدنا عثمان إذا رأى بعض التجَّار يحتكرون الأرزاق، فماذا يفعل؟
يرسل قوافله لتعود محمَّلةً بما يفسد عليهم احتكارهم، جاءت مرةً رواحله من اليمن أو من الشام محمّلةً بالخيرات، وتَواكَبَ حوله تجَّارُ المدينة، ودخل معهم في مساوماتٍ شيِّقة، وما أجمل أن نطالع الآن إحداها، يرويها لنا ابن عباس رضي الله عنه، قال:
قَحِط الناس في زمن أبي بكر،
فقال الخليفة لهم: إن شاء الله لا تمسون غداً حتى يأتيكم فرج الله،
فلما كان صباح الغد قدمت قافلة عثمان، فغدا عليه التجَّار، فخرج إليهم وعليه ملاءة قد خالف بين طرفيها على عاتقه، وسألوه أن يبيعهم قافلته،
فسألهم: كم تربحونني؟
قالوا: العشرة اثني عشر،
قال: قد زادني،
قالوا: العشرة خمسة عشر،
قال: قد زادني،
قالوا: من الذي زادك ونحن تجَّار المدينة؟
قال: إنه الله، زادني بكل درهمٍ عشراً، فهل لديكم أنتم مزيد؟ فانصرف التجَّار عنه وهو ينادي:
اللهم إني وهبتها فقراء المدينة بلا ثمن وبلا حِساب.
تواضع الخليفة الراشد عثمان بن عفان:
أيها الأخوة، لا تظنوا أنّ أحدًا يكون قريبًا من الله إلا وله عمل طيب، أو عمل صالح، فالله لا يقرِّب عبدًا إلا بعمل كبير، ومع العمل إخلاص، ومع الإخلاص استقامة، فلا أحدَ يصل إلى أشياء عظيمة عند الله بالكلام، وبلا انضباط، وبلا مؤاثرة، وبلا تضحية، هذا شيء مستحيل.
يقول شرحبيل بن مسلم: كان عثمان يطعم الناس طعام الإمارة، ويأكل هو الخل والزيت،
وقال عبد الله بن شدَّاد: رأيت عثمان يخطب يوم الجمعة، وعليه ثوبٌ قيمته أربعة دراهم أو خمسة دراهم، وإنه يومئذ لأمير المؤمنين .
أحد أخواننا الدعاة إلى الله سافر إلى بلد إسلامي،
قال: دعاهم رجلٌ على طعامٍ متواضعٍ جداً وعلى الأرض، ومظهره متواضع، بعد أن تناول الطعام ذكروا له أن هذا الرجل أنشأ مجمّعاً إسلامياً بما يزيد عن أربعين مليون ليرة، مجمع إسلامي ما بين مسجد ومعهد تحفيظ قرآن ومكتبة ومشغل لطلاَّب العلم ومستوصف ومدرسة، والله هذا شيء جميل، فليس يوجد عنده بذخ، أطعمهم وأكرمهم، لكن كل شيء باعتدال، إلا أن إنفاقه في سبيل الله من دون اعتدال، لا إسراف في الخير، بالعمل الصالح لا يوجد تقنين ولا اعتدال وليس هناك موقف وسط.
خشيته من الله:
مرة هذا الصحابي الجليل غضب على خادمٍ له، فعرك أذنه حتى أوجعه، ثم سرعان ما يقُضُّ ضمير العابد مضجعه فيدعو خادمه ويأمره أن يقتصَّ منه، فيأبى الخادم ويولّي مدبراً، لكنّ عثمان يأمره في حزمٍ فيطيع،
وقال: اشْدُدْ يا غلام، فإن قصاص الدنيا أرحم من قصاص الآخرة.
فهل تجد أحدًا في منصب رفيع؟ ويخطئ مع خادم أو حاجب، أو مع إنسان بسيط جداً، ويخاف الله عزَّ وجل، ويقول له: اقتصَّ مني في الدنيا، فإن قصاص الدنيا أرحمُ من قصاص الآخرة، إلا أنْ يكون ممّن يخاف الله خوفاً شديداً،
ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام حينما غضب من غلامٍ له: يا غلام لولا خوف القصاص لأوجعتك بهذا السواك .
سيدنا عبد الله بن عمر كان إذا قرأ الآية الكريمة: ( أَمَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ)
يقول: هو عثمان بن عفان.
أوصلنا للرحم عثمان:
يقول بعض أصحابه عنه وهو الإمام عليٌ كرَّم الله وجهه:
أوصلُنَا للرحم عثمان
أنا من أعماقي ممتن لأخواننا الكِرام، من أسبوعين ألقيت درسًا متعلِّقًا بصلة الرحم، وسمعت واللهِ أكثر مِن أخٍ في الليلة نفسها بدأ يزور أقاربه، في الليلة نفسها، أنا واللهِ طبَّقت هذا الكلام، وزرت كلّ أقربائي في هذا الأسبوع، زيارة، وصِلة، ومساعدة، ودعوة إلى الله، هذه الدروس لا قيمة لها إنْ لم يكن بعدها تطبيق عملي.
سمعت ذات مرة كلمة من أحد العلماء تأثَّرت بها، قال: أيها الأخوة سماعكم لا قيمة له ما لم تطبِّقوا، وكلامي لا قيمة له إطلاقاً ما لم أطبِّقه، فلا كلامي له عند الله وزن، ولا سماعكم له عند الله وزن، أما إذا قلت شيئاً وطبَّقته أرقى عند الله، وإذا استمعتم إلى شيءٍ وطبقتموه ترقون عند الله، فمقياس الرقي والنجاح والفلاح هو الاستجابة لأمرِ الله عزَّ وجل.
مواعظ الخليفة الراشد عثمان بن عفان في خطب الجمعة:
يقول هذا الصحابي الجليل:
أيها الناس، اتقوا الله فإن تقوى الله غنيمة، وإن أكيس الناس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، واكتسب من نور الله نوراً لقبره، وليخشَ عبدٌ أن يحشره الله أعمى وقد كان بصيرا.
وفي خطبة أخرى، يقول هذا الصحابي الجليل:
إن الله أعطاكم الدنيا لتطلبوا بها الآخرة، ولم يعطكم الدنيا لتركنوا إليها، إن الدنيا تفنى وإن الآخرة تبقى، فآثروا ما يبقى على ما يفنَى.
ويقول هذا الصحابي الجليل:
إن الدنيا منقطعة، والمصير إلى الله وحده.
رعايته لزوجته:
هذا الصحابي الجليل حينما أعاده النبي عليه الصلاة والسلام إلى بيته بدلَ أن يغزو في معركة بدرٍ، فأمره النبيُّ عليه الصلاة والسلام أن يبقى إلى جانب زوجته، وكانت في مرضٍ شديد، وهي ابنة النبي عليه الصلاة والسلام، ماذا يستنبط من هذا الكلام؟ هل هي قضية شخصية أم قضية حكم شرعي؟ هي حكم شرعي، أي كأن الذي يرعى زوجته المريضة في مرتبة المجاهد في سبيل الله، فلما انقضت موقعة بدر ووزَّع النبي الغنائم، عدَّ عثمان كأنه مع المقاتلين وأعطاه نصيبه من الغنائم، هذا لتعلموا مدى ثواب رعاية الزوجة عند الله.