حديثنا اليوم عن أبو عُبَيْدة عامر بن الجراح، هذا الصحابي الجليل قال في حقِّه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ وَأَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ
إذا كانوا... فمن نحن؟
أيها الأخوة، قبل أن أنطلق في الحديث عن حياته ومواقفه وعن بطولاته ومكانته الرفيعة التي أكرمه الله بها، أريد أنْ أنقل إليكم شُعوراً انْتابني وأنا أُطالعُ سيرة هذا الصحابيِّ الجليل، لَفَتَ نظري أنَّ هؤلاء الصحابة قاسَوا شدائد الحياة، فطعامُهُم ولِباسُهم خَشِنٌ، حياتهم كلُّها متاعب ودِفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، وفي تَصَوُّري وأنا موقِنٌ بِهذا التصَوُّر أنهم كانوا أسعد الناس، تشعر أنّ أحدهم يكادُ يمْتلئُ سعادةً وشُعوراً بأنه إنْسانٌ كريمٌ على الله، وفجأةً قفَزَتْ إلى نفْسي صُورة إنسانٍ مُعاصِر عاش حياة الدَّعة والرخاء، يأكل أفضل الطعام، ويسكُنُ في أفْخَرِ منزل، تَكْييف وتدفئة مركزيَّة، كُلُّ شيءٍ جميل حوله، وشَعَرت أنَّ مثل حياة الإنسان المُعاصِر الذي خلَتْ حياتُه من البُطولة، ومن التضْحِيَة، ومن الإيثارٍ، ومن حُبٍّ لله ورسوله، ومن رِسالةٍ يحْمِلُها، ودَعْوةٍ يدْعو إليها، ومن عملٍ صالحٍ يُقَدِّمُه، ومن قلْبٍ ينْبِضُ بِالرحمة، إنْسانٌ خَلَتْ حياته من هذه المشاعر، وتِلك المُهِمات المُقدَّسة، مثل هذا الإنسان يشْعر بِتَفاهَتِهِ وهوانِهِ على الناس، ولو عاش في أعلى درجات النعيم،
صحابِيٌّ جليل حياته كلُّها متاعب يقود جُيوشاً قِيادةً لا أرْوَع ولا أعظم منها،
يدْخُلُ عليه الخليفة عمر بن الخطاب فإذا غُرْفَتُه فيها قِدْر ماء، وجِلْدٌ قد ذهب ريشُهُ، ورَغيفُ خُبْزٍ قد غطى به قِدْر الماء، وسَيْفٌ مُعَلَّقٌ على الحائِط، سيِّدُنا عمر الزاهد المُتَقَشِّف فوجئ، أهذه غُرْفَة أمين الأُمّة وقائد الجيش؟ قال له: ما هذا يا أبا عُبيدة؟ قال: هو للدنيا، وهو على الدنيا كثير، ألا يُبَلِّغُنا المقيل .
شَعَرْتُ بِأحاسيس أردْتُ أنْ أُعَبِّرَها لكم، كلُّ الدنيا لو كانت بِيَد الإنسان، الدنيا بِأموالها وبُيوتِها ومُتَنَزَّهاتِها وقُصورِها ومرْكَباتِها وطائِراتها ونِسائِها، كُلُّ ما لذَّ وطاب فيها، لا تسْتطيعُ الدنيا بِأكْمَلِها أنْ تمْنح الإنسان سعادةً، وهؤلاء الصحابة الذين عاشوا حياةً مملوءةً بالشَّقاء فيما يبْدو، هِجْرةٌ اقتلعت الإنسانَ من جذوره،
لقد هاجَرَ أبو عبيدة إلى الحَبَشَة وإلى المدينة، وشَهِد كلّ المشاهد، وكان أكبر مُدافِعٍ عن رسول الله حتى إنه نزع حلَقَةً غُرِسَتْ في وَجْنة النبي عليه الصلاة والسلام بِأسْنانه، فنزع الحلقة الأولى بِفَمِه فانْكسرت سِنُّهُ الأمامية، ونزع الحلقة الثانِيَة بِفَمِه فانكسرت سِنُّهُ الأخرى فصار أهتمَ، ومات بالطاعون، وهو أمين هذه الأمة، شَعَرْتُ أنَّ الله عز وجل إذا تجلى على قلب المؤمن بالرحمة أسْعَدَهُ سعادَةً لا توصَفُ .
فما هؤلاء الرجال؟ واللهِ إنْ كانوا بشَرًا فَنَحْنُ لسْنا من بني البشر، وإنْ كُنا بشَرٌ فهم فوق البشر، هم مُلوك الدار الآخرة، وما هذا الحُبّ الذي في جوانِحِهم؟ وما هذا الشوْقُ الذي ينْبضُ بِه قُلوبهم؟ كلما قرأتَ تاريخ هذا الصحابي مهما تعدَّدَت مرَّات القراءة تشْعُر أنَّك تَقِفُ أمام إنْسانٍ عظيم، من أيِّ جامِعَةٍ تَخَرَّج؟ هل يحْمِلُ دُكْتوراه؟ كم كِتابًا قرأ؟ فإذا اتَّصل الإنسانُ بالله أصْبح شيئاً آخر، يُمْكن أنْ يُلْغى عنده مع الاتِّصال بالله كلُّ شيء، أرجو الله جلّ جلاله أنْ يُمَكِّنَني من نقْل صورة صادِقَةٍ مُشْرِقَةٍ عن هذا الصحابيّ الجليل الذي هو أبو عُبَيْدة بن الجراح .
صفاته الخَلقية والخُلقية:
قالوا في صفته: كان وضيء الوجه، بَهِيَّ الطلْعَة، نحيل الجِسْم، طويل القامة، خفيف العارِضَيْن، ترْتاحُ العَيْنُ لِمَرْآه، وتأنَسُ النفْسُ بِلُقْياه، ويطْمَئِنّ الفؤاد إليه، وكان رقيق الحاشِيَة جمَّ التواضع، شديد الحياء لكنه كان إذا حزب الأمر، وجدَّ الجِدّ يغْدو كاللّيْث، لا يلْوي على شيء ، رِقَّةٌ ما بعدها رِقَّة، وبهاءٌ ما بعده بهاء، إشْراقُ وجْهٍ ما بعده إشْراق .
قالوا: كان يُشْبِهُ نصْل السيْف، رَوْنَقاً وبهاءً، ويحْكيهِ حِدَّةً ومضاءً، إنه أبو عُبَيْدة بن الجراح .
سيّدنا عبد الله بن عمر وَصَفهُ، فقال: ثلاثة من قريش أصبح الناس وُجوهاً، وأحْسنها أخلاقاً، وأثْبَتُها حياءً، إنْ حَدَّثوك لم يكْذِبوك، وإنْ حَدَّثْتهم لم يُكَذِّبوك، إنهم أبو بكرٍ الصديق، وعثمان بن عفان، وأبو عُبَيْدة ابن الجَراح
وهكذا وصف النبي المؤمن، فقال: من عامل الناس فلم يظْلمهم، وحَدَّثَهُم فلم يكْذِبْهم، ووعَدَهُم فلم يخْلِفْهُم، فَهُوَ ممن كَمُلَتْ مُروءته، وظهرَتْ عدالته ، ووجَبَتْ أُخُوَّتُه، وحرُمَت غيْبته
ترتيبه في الإسلام:
كان من السابقين السابقين، أسلم في اليوم الثاني لإسلام أبي بكرٍ رضي الله عنه، وكان إسْلامه على يدي أبي بكرٍ، فإذا أكْرم اللهُ أحدَكم بِهِداية إنسانٍ على يده، فأنت من أسعد الناس .
أيها الأخوة الأكارم، أحبّ دائِماً أنْ أُذَكِّركم بِقَوْل النبي عليه الصلاة والسلام: يا علي لأنْ يهدي الله بك رجُلاً خير لك من حُمر النّعَم
خير لك من الدنيا وما فيها، وخير لك مما طلعت عليه الشمس، فالإنسان آن له أن ينْتقل من طور التلقي إلى طَوْر الإلقاء، ومن طَوْر الأخذ إلى طَوْر العطاء، ومن طَوْر الاهتداء إلى طَوْر الهِداية ، آن له أنْ يرفعه الله عز وجل بِحَسَب عمله الطَيِّب، فهذا سيِّدُنا الصديق أجْرى الله على يده هِداية عُظماء المسلمين، وسيِّدنا أبو عبيدة قد أسلمَ على يد سيّدنا الصديق، ولعلّ العشرة المُبَشّرين بالجنة أسلموا كلُّهم على يد سيّدنا الصديق .
كان إسلامه على يد سيّدنا الصديق فَمَضى به وبِعَبْد الرحمن بن عَوْف وبِعُثمان بن مظعون وبِالأرقم بن أبي الأرقم إلى النبي صلى الله عليه وسلّم، فأعْلنوا على يدَيْه كلمة الحق، وكانوا القواعد الأولى التي أُقيم عليها صَرْحُ هذا الدِّين .
أبا عبيدة القاضي بتعيين من رسول الله صلى الله عليه وسلم:
قال بعض المُفَسِّرين في شأن نزول هذه الآية: ( لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)
قدِمَ وفْد نصارى نجْران على النبي عليه الصلاة والسلام -اُنْظر إلى ما كان يشْغل أصْحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وانظر الآن إلى مُجتمع اليوم ما يشْغله، يتنافَسون على الدنيا وزينتها وتِجارتها وأموالها ونِسائِها- فقالوا: يا أبا القاسم، اِبْعَث معنا رجلاً من أصْحابك تَرْضاهُ لنا لِيَحْكُم بيْننا في أشْياء من أموالنا اخْتَلَفْنا فيها، فإنكم عندنا معْشَر المُسْلمين مرْضِيون
هنا يطالعنا العجبُ حقًّا، فأنت كَمُؤمن مَوْثوق حتى من قِبَل خُصومك، موثوق في أمانتك، وعِفَّتِك، وصِدْقِك، وحِكْمَتِك، هذه علامة الإيمان، علامة الإيمان أنَّ المؤمن شَخْصِيَةٌ فذَّة، شَخْصِيَةٌ يرْتاح لها الإنسان ولو كان عَدُواً،
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ
فَرْقٌ كبير بين أن يسْلم الناس منك، وبين أن يأْمنوك، فلو سَكَنْتَ في بيْتٍ ولك جيران، ومضى على سكناك في هذا البيت عشرُ سنواتٍ، ولم يتضجَّر، ولم يشْكُ منك أحدٌ من الجيران،
إذاً: سَلِم الجيران منك، لكنهم لم يطْمئِنوا إليك، فالسلامة عدم حُدوث المكْروه، لكنَّ الطمأنينة والأمن عدم تَوَقُّع ما يُكْره، فالمُسلم يسْلم الناس من لِسانه ويَدِه، لكنَّ المؤمن أرْقى من ذلك، يأمنه الناس على أمْوالهم وأعْراضِهم، المُسلم لا يُؤذي جيرانه ولا يؤذي َمن دونه، ولا من فوقه، لكنَّ المؤمن لا يتوَقَّعُ أحدٌ ممن حوله أنْ يأتيَ الأذى منه، فثَمَّة فَرْقٌ كبير بين ألاّ تؤذي، وبينْ ألاّ يتوقَّعَ الناسُ منك شيئاً من الأذى، فالحديث فيه دِقَّة، لا يُمْكن لإنسانٍ يُعامِلُ مؤمناً أنْ يخاف منه، ولا أنْ يتوَجَّس منه خيفَةً، وحتى أنْ يقول: لعلَّهُ يؤذيني، فهذه صِفات المؤمنين .
خُصوم المؤمنين من أهل الكتاب جاؤوا النبيَّ عليه الصلاة والسلام طالِبين منه أنْ يبْعث إليهم أحد أصْحابه لِيَحْكُم بينهم في خِلافاتٍ مالِيَّة، ماذا قال عليه الصلاة والسلام؟
قال: ائتوني العَشِيَّة أبْعَثْ معكم القَوِيَّ الأمين، يقول سيِّدُنا عمر: فَرُحْتُ إلى صلاة الظهر مُبَكِّراً، لعلَّني أنا القويُّ الأمين، وإني ما أحْبَبْتُ الإمارة حُبي إياها يومئِذٍ، فلما صلى بنا النبي عليه الصلاة والسلام جعل ينْظر عن يمينه وعن شِماله، فَجَعَلْتُ أتطاول لعلَّهُ يخْتارُني، ولعلَّني أنا القوِيُّ الأمين، فلم يزَل يُقَلِّبُ بصره فينا حتى رأى أبا عُبَيْدة بن الجراح، فقال: اُخْرُج معهم، فاقْضِ بينهم بالحق فيما اخْتَلفوا فيه، فقُلْتُ: والله ذهب بها أبو عُبَيْدة
صبره وبلاءه:
سيِّدنا أبو عُبيدة بن الجراح بعثه النبي عليه الصلاة والسلام في جَمْعٍ من أصْحابه لِيَتَلَقَوا عيراً لِقُرَيْش، وأمَّره عليهم، وزوَّدَهُم جِراباً من تمْرٍ، ولم يَجِد لهم غيره، فكانَ أبو عُبَيْدة يُعْطي الرجل من أصْحابه كلَّ يومٍ تمْرة، فَيَمُصُّها الواحد منهم كما يمُصُّ الصَبِيُّ ضَرْعَ أُمِّه طوال النهار ، ثمّ يشْرب عليها ماءً، فكانت تكْفيه إلى الليل، هذا هو الطعام الخَشِن، طوال النهار تَمْرة، أما الآن يقول لك: أين الشاي الأخضر؟ وأين المُقَبِّلات والفواكه؟ أنواعٌ مُنَوَّعة، أنا الذي لفتَ نظري أنَّ كلّ هذه الحياة الصعبة والشاقة وهذا الجِهاد، وهذه الهِجْرة والمُكابدة والتضْحِيَة، وهذا الحرّ والقرّ جعلهم أسعد الناس، وكلُّ النعيم الذي نحْياه، وكُلُّ الرفاه وكلُّ هذه المواد التي بين أيْدينا من دون معْرفةٍ بالله هي عَيْنُ الشَّقاء، لِذلك اُطْلُبوا العِزَّة عند الله .
ويوم أُحُدٍ حينما هُزِم المسلمون، وطَفِق صائح المُشْركين يُنادي: دُلوني على محمد، كان أبو عُبَيْدة بن الجراح أحد النفر العَشَرة الذين أحاطوا بالنبي عليه الصلاة والسلام ليذودوا عنه بِصُدورِهم رِماح المُشْرِكين، فلما انْتَهَت المعْركة كان النبي عليه الصلاة والسلام قد كُسِرَت رُباعِيَّتُه، وشُجَّ جبينه، وغارَتْ في وَجْنَتِه حلْقتان من حلق دِرْعِه، فأقْبَلَ عليه الصديق يريد انْتَزاعهما من وَجْنَتَيْه صلى الله عليه وسلم، فقال له أبو عُبَيْدة:
أُقسم عليك أنْ تترك ذلك لي، فَتَرَكَهُ، فَخَشِيَ أبو عُبَيْدة إنْ اِقتَلَعَهُما بِيَدِه أنْ يُؤذِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، فَعَضَّ على أولاهما بِثَنِيَّتَيْه عضاً قوِياً مُحْكماً فاسْتَخْرَجَها، ووقَعَتْ ثَنِيَّتُهُ، ثمَّ عضَّ على الأخرى بِثَنِيَّتِهِ الثانِيَة فاقْتَلَعَها، فَسَقَطَتْ ثَنِيَّتُهُ الثانِيَة، قال أبو بكرٍ: فكان أبو عٌبَيْدة من أحْسن الناس هتْماً، الأهْتَم الذي كُسِرَت أسْنانه الأماميَّة،
لقد كان في قلوبهم حبٌّ لرسول الله صلى الله عليه وسلَّم
حينما قال أبو سُفْيان: ما رأيْتُ أحداً يُحِبُّ أحداً كَحُبِّ أصْحابِ محمدٍ محمَّداً،
ففعلُ أبي عبيدة هذا مصداق قول أبي سفيان
شَهِد أبو عُبَيْدة بن الجراح المشاهدَ كلَّها، وما تخَلَّف عن النبي إطْلاقاً .
ماذا تعني كلمة أمين ؟
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينًا وَإِنَّ أَمِينَنَا أَيَّتُهَا الْأُمَّةُ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ
كلمة أمين لها عُمْقٌ كبير، ولا أعْتَقِد أنَّ هناك أعمق منها في المعنى الذي تشْمله، أمين على مصالح الناس، أمين على دينهم، فأحياناً تجد شَخْصاً لديه موظَّف مُجِدّ ومُتَفَوِّق وذو نشاط، ولكنه لا يُصلي، ويقول لك صاحب المحلَّ: ماذا أفعل له؟ دَعوهُ وشأنه، فصاحب هذا المحل يَهُمُّه أن يكون الموظَّف مُنْضبطًا في العمل ومصالحه، أما أنه لا يُصلي وغير مُلْتَزِم بالشرع فهذا لا يَهُمُّه، أما المؤمن أمين على دين الناس وينْصحهم ويُوَجِّهُهُم ويُحْسِن إليهم ويُرَبِّيهم، فالإنسان لا ينْبغي أنْ يتعلَّق بِمَصالِحه الدنيَوِيَّة.
أنت أمين على دين أهلك، على دين زوْجَتك، فإذا وَجَدْتَ الطبخ ممتازًا، ونظافة البيت جيِّدة، قُلْتَ: زوْجَتي ممتازة إلا أنَّها ليْسَتْ مُتَدَيِّنة، فأنت لسْتَ أميناً على دينها، وكذا إذا كان لك أولاد أبْرار ولكن ليس فيهم الدِّين سليمًا، فهذه قاصمة الظهر، وهذا اشْترى منك بِضاعة، وقال لك : اِنْصَحْني، ونَصَحْتَهُ بالبِضاعة الكاسِدة، فأنت لستَ أمينًا، هناك أمانة فَتْوى، وأمانة عِلْم، وأمانة نُصح، وأمانة دين، فأنت عليك دائِماً أنْ تنْصح الناس، وأنْ تكون حريصًا على مصالِحِهم الدنيوِيَّة والأُخْرَوِيَّة .
التربية النبوية التي غرست في عقول وقلوب الصحابة :
نعود لعمر بن الخطاب إذْ قال لأبي عُبَيْدة: اُبْسُط يدَكَ أُبايِعْك، فإني سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، يقول: إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينًا وَإِنَّ أَمِينَنَا أَيَّتُهَا الْأُمَّةُ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ
أنا ما وَجَدْتُ أشْخاصاً مُتَأدِّبين مع بَعْضِهم بعْضاً كأصْحاب رسول الله، سيِّدنا عمر، عِمْلاق الإسلام، وهو خليفة المسلمين، وهو أمير المؤمنين يقول له أحدهم:
والله ما رأيْنا أحداً خيراً منك بعد رسول الله، فتفرَّس فيهم، وكاد يأكلُهم، إلى أن قال أحدهم: لا واللهِ، لقد رأيْنا مَنْ هو خيرٌ منك، فقال: من هو؟ فقال: أبو بكر، فقال: صَدَقْتَ وكَذَبْتم جميعا، قال: والله لقد كان أبو بكر أطْيب من ريح المِسْك، وكُنتُ أضَلّ من بعيري
لقد كان أميناً على الصديق بعد وفاته،
وقبل أنْ يموت اسْتأذن عائِشَة رضي الله عنها لِيُدْفَن إلى جانب الصديق، فأذِنَتْ له فقال: لعلها اسْتَحْيَتْ مني وأنا أمير المُؤمنين، فأوْصى أصْحابه: أنْ إذا متُّ فسِيروا بِنَعْشي أمام بيْتِها، واسْتأذِنوها، فإنْ أذِنَتْ فادْفِنوني جانب الصِدِّيق
ما أُخِذَ بِسَيْف الحياء فهُو حرام .
مرَّةً أكرمني الله بِعُمرة وكنت في بَحْبوحةٍ من الوقت، فأَحْبَبْتُ أنْ أمُرَّ على أكثر المشاهد الإسلاميّة، فَزُرْتُ موْقِعَة بدْرٍ، ورأيْتُ العريش الذي وقف فيه النبي عليه الصلاة والسلام، والعُدْوة الدنيا، والعُدْوة القُصوى، لكن لفتَ نظري أنَّ الزائرين مِن الناس الذين كانوا بالسيارات الفَخْمة مدُّوا المَّدات، وأخْرجوا الأكْلات الفَخْمة، فقارنتُ بين هؤلاء الذين زاروا أرض هذه المعركة، وبين أولئك الذين خاضوا هذه المعركة، فلم أجِد هناك نِسبة، طَقْمُ هؤلاء غير طَقْم أولئك، أين الثرى من الثريا؟ الآن الناس هَمُّهُم بطونهم وشَهَواتهم، فلِذلك قال عليه الصلاة و السلام: إذا كان أُمراؤكم خِياركم، وأغْنياؤُكم سُمحاؤُكم، وأمْركم شورى بينكم فَظَهْر الأرض خيرٌ لكم من بطْنها، وإن كان أمراؤكم شِراركم وأغْنياؤكم بُخلاءكم، وأمركم إلى نِسائِكم، فَبَطْنُ الأرض خيرٌ لكم من ظهْرها
فلما طلب عمر بن الخطاب من أبي عُبَيْدة ما طلب -كما أسْلَفْنا- قال أبو عُبَيْدة: ما كنتُ لأَتَقَدَّم بين يدي رجلٍ أمَّرهُ رسول الله علينا أنْ يؤُمَّنا في الصلاة، فأَمَّنا حتى مات
وهو أبو بكر الصديق، فكان مع الصِّديق يده اليُمْنى، وما عصاهُ أبداً، هذا ما تربى عليه أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام.
لم يحب أن يتميز عن جنوده:
كان أبو عُبَيْدة في الشام يقودُ جُيوشَ المُسلمين من نصْرٍ إلى نصْرٍ، حتى فَتَحَ الله على يَدَيْه الدِّيار الشامِيَّة كُلَّها، فَبَلَغَ الفُرات شَرْقاً وآسْيا الصغرى شمالاً، عند ذلك دهمَ بِلاد الشام طاعون ما عرف الناس مثله قطّ، فَجَعَل يحْصد الناس حصْداً، فما كان من عمر بن الخطاب إلا أنْ وَجَّهَ رسولاً لأبي عُبَيْدة بِرِسالةٍ، بلَّغ أبا عُبيدة وهو في الشام قائِدًا الجُيوش، فكتب إليه يقول: إني بَدَتْ لي إليك حاجة، لا غِنى لي عنك فيها، فإنْ أتاك كِتابي هذا، إنْ أتاكَ ليْلاً فإني أعْزِمُ عليك ألاَّ تُصْبِحُ حتى تَرْكَبَ إلَيَّ، وإنْ أتاك كِتابي نهاراً فإني أعْزِمُ عليك ألاَّ تُمْسي حتى ترْكَبَ إلَيَّ
فَفَهِمَ سيِّدُنا أبو عُبَيْدة ما يريده عمر، واسْمَعوا ما قاله هذا الصحابيّ الجليل: قد علمتُ حاجة أمير المؤمنين إليّ، فَهُو يُريد أنْ يسْتَبْقي ما هو ليس بِبَاقٍ، ثمَّ كتب يقول: يا أمير المؤمنين، إني قد عَرَفْتُ حاجَتَك إلَيّ، وإني في جُنْدٍ من المُسْلمين، ولا أجد بِنَفْسي رَغْبَةً عن الذي يُصيبُهم
فهو رضي الله عنه ما أراد أنْ يُغادر الجُيوش لِيَنْجُوَ وحْده من الطاعون، ويَهْلك الجُنْدُ هناك، ولا أريد فِراقهم حتى يَقْضِيَ الله فيَّ وفيهم أمره، فإذا أتاك كِتابي هذا فَحَلِّلْني من عزْمك، وأْذَنْ لي بالبَقاء
فهو رضي الله عنه كَبُرَ عليه أنْ يأخذ ميزة على جُنوده، فلا بدَّ من أنْ يكونوا هناك لِيُدافِعوا ويفْتحوا، فلما قرأ عمر الكتاب بكى حتى فاضَتْ عَيْناه، فقال له مَن عنده من شِدَّة ما رأَوْهُ يبْكي: أمات أبو عُبَيْدة؟ قال: لا، ولكنَّ الموتَ قريبٌ منه
كانَ رحيماً بِجُنوده، وأَبَتْ نفسه أنْ يمْتاز عليهم .
صور من أخلاقه وزهده وتواضعه :
لما سيِّدُنا عمر عزل سيّدنا خالدًا وولَّى مكانه أبا عُبَيْدة، فالكِتاب جاء لِأبي عُبَيْدة، وكان خالدٌ رضي الله عنه يقود معْرَكَةً، فَكَتَمَ الخبر، وكتم الكِتاب، ولم يُبَلِّغ سيِّدنا خالدًا إلا بعد أنْ انْتَهتْ المعركة، وانْتَصَر المسلمون، فتَقَدَّم أبو عُبَيْدة القائِد المُعَيَّن من سيِّدِنا خالد القائِدُ المعْزول بِأدَبٍ جمٍّ ، وقدَّم له كِتاب التَّعْيين، فَسَيِّدُنا خالد رضي الله عنهم شعر بالحرج، وقال: يرْحَمُك الله أبا عُبَيْدة، ما منعك أنْ تُخْبِرني لمّا جاءَكَ الكِتاب؟ فأجابه أبو عُبَيْدة رضي الله عنه، وقال: والله إني كَرِهْتُ أنْ أكْسِرَ عليك حرْبَكَ، وما سُلْطانُ الدنيا نريد، ولا للدنيا نعمل، وكلنا في الله أخوة
يقولون: إنّه لما جاء سيِّدُنا خالد رضي الله عنه إلى المدينة، قال لِعُمر بن الخطاب رضي الله عنه:
يا أمير المؤمنين، لِمَ عزَلْتني؟
وكانَ عُمر رضي الله عنه يُقَدِّر خالداً رضي الله عنه أعلى تقْدير،
فقال له: والله إني أُحِبُّك، فقال له: يا أمير المؤمنين، لِمَ عزلْتني؟ فقال له: والله إني أُحِبُّك، فقال له: يا أمير المؤمنين، لِمَ عزلْتني؟ فقال له: واللهِ ما عَزَلْتُك يا أبا سُلَيْمان إلا مخافَةَ أنْ يُفْتَتَنَ الناسُ بك، لِكَثْرة ما أبْليْتَ في سبيل الله
فهو رضي الله عنه أراد إنقاذَ الوحيد، وذلك من شِدَّة الانتِصارات وكثرتها على يد خالد، فخاف أن يظن الناسُ أنَّ النصر من عِنْد خالِدٍ، فأراد هذا الخليفة العظيم أنْ يُبَيِّن للناس أنَّ النصر من عند الله، وكان هذا هو سبب العزْلِ .
يبْدو أنه حينما تسّلَّم الإمارة أبو عُبَيْدة ولمع نجْمُهُ وذاعَ صيتُهُ وحقَّقَ انتِصارات كبيرة، عَظَّمَهُ الناس وأكبروه وأجَلُّوه، فخاف على نفْسه أنْ يُصيبَها الغُرور، فقال: أيها الناس، إني مُسلمٌ من قُريش، وما منكم مِن أحدٍ أحمر ولا أسْود يفْضُلُني بِتَقْوى إلا وَدِدْتُ أني في إهابِهِ
وهذا من تواضُعِه .
سيِّدُنا عمر يزور أبا عُبَيْدة بن الجراح، ويسْأل مُسْتَقْبِليه أين أخي؟ يقولون: من؟ يقول: أبو عُبَيْدة، فيأتي أبو عُبَيْدة فَيُعانِقُ أمير المؤمنين، ثمَّ يصْحبه إلى داره فلا يجد فيها من الأثاث شيئاً، سَيْفَهُ وتِرْسه ورَحْلَهُ وقِدْرَ ماءٍ مُغَطىً بِرَغيفِ خُبْزٍ، يسْأله عمر قائِلاً: ألا اتَّخَذْتَ لِنَفْسِك مثل ما يتَّخِذُ الناس، فقال له أبو عُبيدة: يا أمير المؤمنين، هذا يُبَلِّغُني المقيل، هو للدنيا، وهو على الدنيا كثير .
رسالته الأخيرة التي تلفظها قبل رحيله من الدنيا :
حينما وافَتْ المَنِيَّةُ أبا عُبَيْدة وهو يلْفِظُ أنْفاسَهُ الأخيرة أوْصى، فقال: أقيموا الصلاة
سيِّدُنا عمر حينما طُعِن وقُتِل، فقبْل أنْ يموتَ سأل سؤالا غريبا، فقال: هل صلى المُسْلمون الفجر؟ فلما قال له المسلمون: نعم، اطْمَأنَّ
ما الذي يَهُمُّهُ؟ صلاة الفجرْ
فَسَيِّدُنا أبو عُبَيْدة، قال: أقيموا الصلاة، وصوموا رمضان، وتصَدَّقوا، وحُجُّوا، واعْتَمِروا، وتواصوا، وانْصحوا لأُمرائِكم ولا تغُشُّوهم، ولا تُلْهِكم الدنيا، فإنَّ المرء لو عُمِّر ألف حَوْلٍ ما كان له بُدٌّ من أن يصير إلى مصْرعي هذا الذي تَرَوْن
وكان على فِراش الموت .
فنحن جميعاً حُكِمَ علينا بالموت مع وقْفِ التنْفيذ، ويأتي التنفيذ وَفْقَ برنامَجٍ عند الله عز وجل، فعلى هذا الشرط جِئْنا، فلو أنَّ شخْصاً اسْتَأجر سيارة ثلاثة أيام، فهل يُعْقَل عند انتهاء الأجل أنْ يقول: لماذا أخذوها مني؟ فأنت ركِبْتَها على شرطٍ وهي أنها مستأْجَرة، وكذا الإنسان جاء على هذا الشرط وهو الموت، لكنَّ الله خلقهُ لِجَنَّةٍ عرضُها السموات والأرض .
اِلْتَفَتَ سيِّدُنا أبو عُبَيْدة إلى مُعاذ بن جبل ساعة احتضاره، وقال: يا مُعاذ، صلِّ بِالناس، ثمَّ ما أنْ لبِث حتى فاضَتْ روحُهُ الطاهِرة، فقال معاذ: يا أيها الناس، إنكم قد فُجِعْتُم بِرَجُلٍ، واللهِ ما أعلم أني رأيتُ رجُلاً أبرَّ صدْراً ولا أبعد غائِلَةً، ولا أشدَّ حُباً للعاقِبَة، ولا أنصح للعامَّة منهم فَتَرَحَّموا عليه يرْحَمْكم الله
كم من شَخْصٍ في العالم يموتون يوميًّا؟ أنا لا أذكر الرقم، ولكن على مُستوى العالم كُلّ ثانِيَتَيْن هناك وفاة، فبِمَ يوصون؟ وبِمَ يودعون الدنيا؟ أقول: تبقى قلوبهم متعلقةً بالدنيا .
كذلك لمّا سيدنا عمر بلغه خبر وفاة سيِّدنا أبي عُبَيْدة بن الجراح بَكى بُكاءً ما بكاهُ على أحدٍ من قبل حتى غُصَّ حلْقُهُ، وانْهَمَرَتْ دُموعه، وقال: لو كنت مُتَمَنِّياً ما تمَنَّيْتُ إلا بيْتاً مملوء بِرِجالٍ مثل أبي عُبَيْدة
ما تمَنى إلا هذا .
فيا أيها الأخ المسلم، اِعْمل عملاً تسْعد به عند لِقاء الله تعالى، اِبْذل، ووضَحِّ، والتزِم، وأنْفِق ، وتعلَّم حتى يكون الموت أسعد لَحَظاتك، والموت سماهُ الله مُصيبة، لأنَّ كلّ شيءٍ تُجَمِّعُه في الدنيا يُسْلبُ منك في ثانِيَةٍ واحدة، أما إذا كان الإنسان له أعْمال صالحة يُصبحُ الموتُ عُرْسَهُ وفرْحَتَهُ الكُبْرى .