بحث

أبو بكر الصديق1 سيرته قبل الإسلام

أبو بكر الصديق1  سيرته قبل الإسلام

بسم الله الرحمن الرحيم

  المرتبة التي احتلها أبو بكر في الإسلام :  

      أيها الأخوة، مع سيرة سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه، هذا الصحابي الجليل بلغ مرتبة الصديقية، وهي المرتبة الأولى بعد النبوات والرسالات، والسيدة مريم أيضًا صديقة، فقد بلغ من قربه من النبي مبلغاً أن كل شيء رآه النبي وتكلم به إلاّ قال فيه الصدِّيق: صدقت يا رسول الله، لأن الرؤية تشابهت، أقرب مقام من رسول الله مقام سيدنا الصديق، الآثار التي تتحدث عن مقامه الرفيع كثيرة جداً،  ما طلعت شمس على رجل أفضل من أبي بكر.  

العقل منحة ربانية كبرى للإنسان يعرف من خلاله الحق:  

      درسنا هذا مِن سيرة هذا الصحابي الجليل يتعلق بحياته قبل الإسلام، وها نحن مع الفصل الأول، ونبدأ بالآية الكريمة، وفيها يقول الله عز وجل: ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً )

      من معاني هذه الآية، ومما فسرها بها المفسرون أنّ الرسول هو العقل، ومن أوتي عقلاً راجحاً فهذا العقل من دون رسالة السماء، ومن دون أن يتبلغ ببلاغ عن الله عز وجل، فإنه يهدي صاحبه إلى الحق،   

      لذلك عندما سيدنا خالد بن الوليد أسلم، وكان قد تأخر في إسلامه، قال عليه الصلاة والسلام :       عجبت لك يا خالد أرى لك فكراً .  

      نعيش مع المرحلة التي سبقت ظهور الإسلام، كيف تعامل هذا الصديق مع عبادة الأصنام في الجاهلية؟ كيف تلقى عقائدهم؟ هل قبلها؟ هل رضيها؟ هل تلمس الحق؟ هل تراءى له الحق؟ هذا موضوع فصلنا اليوم.  

      أيها الأخوة، اللات والعزة، ومناة، ونائلة، وهبل، هذه هي الأصنام التي كانت تعبد من دون الله في الجاهلية، لكن أقول لكم دائماً: إنّ الإنسان أكرمه الله سبحانه بنعمة العقل، والعقل الراحج في هؤلاء الذين عاشوا قبل الإسلام هداهم إلى أن ينشؤوا حلف الفضول، وهذا الحلف يقفون به مع المظلوم أمام الظالم،   

      سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ   

      قَالَ أَتْقَاهُمْ لِلَّهِ   

      قَالُوا لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ   

      قَالَ فَأَكْرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ   

      قَالُوا لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ   

      قَالَ فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونِي النَّاسُ مَعَادِنُ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقُهُوا    

      الإنسان إذا كان يتمتّع بعقل راجح وفطرة سليمة فإنه يهتدي إلى ملامح الحق، أو إلى خطوطه العريضة، أو إلى مبادئه الكبرى بعقله، وما انتفع أحد بعقله كالمؤمن، فالمؤمن ينتفع بعقله كل حين.  

نظام الحياة في الجاهلية الأولى :  

      أخواننا الكرام، العطاء الذي لا يوصف ولا يقدر بثمن هو العقل الذي أودعه الله فيك، نحن الآن في هذا الفصل سوف نرى قيمة العقل من دون هداية السماء، جاهلية جهلاء، عبادة الأصنام لا تنفع ولا تضر، ربا الجاهلية كان يجمع الأموال في أيد قليلة، ظُلم ما بعده ظلم، سخف ما بعده سخف، حروب طاحنة تطحن الناس لأسباب تافهة بل أقل من تافهة، هذه هي الجاهلية،   

      ولا أبالغ إذا قلت: هذه الجاهلية الأولى التي سبقت الإسلام وصفها الله بأنها أولى، وعندما وصفها بأنها أولى فلا بد من جاهلية ثانية، ولا أبالغ إذا قلت: إن جاهلية القرن العشرين أشد هولاً وانحرافاً من الجاهلية الأولى، لكن لكل عصر جاهليته،   

      سيدنا الصديق عاش في الجاهلية الجهلاء، عاش في فترة عبادة الأوثان، عاش في فترة عانى المجتمع فيها من مآسي الفرق الطبقي الكبير، عاش مع اضطراب نظام الأسرة.  

      إنسان يرسل امرأته لرجل لتستبضع منه، أي ليجامعها وتنجب ولداً من رجل آخر، ثم يدعيه زوجها لنفسه، عشر رجال على امرأة واحدة، نظام الزواج في الجاهلية لا يصدق من شدة انحرافه وانحلاله، هذه هي الجاهلية.  

عقل سيدنا أبو بكر:   

      هذا الصحابي الجليل سيدنا الصديق الذي أكرمه الله بنعمة العقل الراجح إلى أين هداه عقله؟   

      أشخاص معددون في الجاهلية تمتعوا بعقل راجح وفطرة سليمة أنشؤوا هذا الحلف حلف الفضول، وهذا الحلف في الأصل من أجل أن يقف مع المظلوم تجاه الظالم، وقد حضره النبي صلى الله عليه وسلم، وكان صغيرًا، ولم يبلغ  الحلم، فيما تروي الروايات، وأثنى على أصحابه، العمل الطيب طيب في كل عصر، العمل الخيِّر خير،  البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديان لا يموت،  

      والإنسان هو الإنسان في أي زمان ومكان، قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً )

      النفس لها بنية واحدة، الظلم مؤلم والعدل مريح، والإحسان يرفع قدر صاحبه، والتواضع يعلي شأنه،   

      ثم إن الأشهر الحرم التي كانت متبعة ومعمول بها في الجاهلية، هذه أيضاً لا تقل عن حلف الفضول، لأن الحرب تطحن الناس طحناً، وقد يكبر على المتحارب أن يلقي السلاح، فتأتي هذه الأشهر الحرم كي تحفظ للمتحاربين ماء وجوههم، كان محرماً أن يقتتل الناس في هذه الأشهر، فالطرفان المتحاربان حفاظاً على ماء الوجه يوقفان الحرب من دون أن يكون هناك غالب أو مغلوب، وحينما يتوقف إطلاق النار كما يقال اليوم، فربما تعود الأمور إلى مجاريها.  

من ملامح الجاهلية الملتقى الفكري :    

      من منجزات العقل الراجح في الجاهلية موضوع الأشهر الحرم، الجاهلية كان فيها بعض الفضائل، منها السخاء والكرم، وحاتم الطائي معروف بسخائه، والنجدة والشجاعة، والحلم  والتواضع، والبيان.  

      كان الجاهليون يقولون: موت ألف من العلية خير من ارتقاء واحد من السفلة،   

      لذلك عندما سئل سيدنا علي كرم الله وجهه فقال:  واللهِ واللهِ مرتين، لحفر بئرين بإبرتين، وكنس أرض الحجاز بريشتين، وغسل عبدين أسودين حتى يصيرا أبيضين أهون علي من طلب حاجة من لئيم لوفاء دين.  

      السافل إذا ارتقى فارتقاؤه شيء لا يحتمل، سوق عكاظ مَعْلَمة من معالم الجاهلية، ماذا كان في هذه السوق؟ النوابغ والعباقرة والحكماء، كانوا يتبارون في إلقاء الأشعار والكلمات، يعني ملتقى فكري، ملتقى أدبي، النوابغ الذين يعنون بشؤون الفكر كانوا يأتون إلى سوق عكاظ ليتناشدوا الأشعار وليتبادلوا الآراء.  

العقائد السائدة في الجاهلية:  

      لكن كلكم يعلم أن هناك من يعبد الشمس، وهناك من يعبد الملائكة، وهناك من يعبد الجن، وهناك من يعبد الكواكب، وهناك من يعبد الدهر، هذه هي العقائد الوثنية التي كانت سائدة في الجاهلية، والأدلة هي قوله تعالى: ( وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ  )

         وقال تعالى:    ( وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى )  

      هذا النجم الذين تعبدونه من دون الله سبحانه وتعالى الله ربه،  وهناك الدهريون، قال تعالى:  ( وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ )

      وسط هذه العقائد الوثنية، ووسط هذا الاضطراب الفكري والاجتماعي والاقتصادي، كان أناس قلة على دين إبراهيم.  

الإنسان مكلف بأصول الدين إذا لم يُبَلّغ:  

      أخوانا الكرام، هناك من يتوهم أن الإنسان إن لم يبلغه الشرع لا يحاسب، لكني أقول لكم، وأنا أعني ما أقول: الإنسان محاسب دائماً على ما أودعه الله فيه قبل التبليغ، ألم يمنحك الله عقلاً؟ إذاً: العقل مناط التكليف، أليس لك فطرة عالية؟ ستحاسب على العقل الذي أودعه الله فيك، وعلى الفطرة التي فطرك الله عليها،   

      إذاً: بالعقل تتعرف إلى الله، وبالفطرة تتعرف إلى الخطأ قبل أن تنطمس،   

       فالإنسان إذا انحرف، وإذا كذب، وإذا اعتدى، وإذا أساء، وإذا أخذ ما ليس له، فالفطرة السليمة تشعره بخطئه، فهل في القرآن الكريم آية تؤكد هذا المعنى؟ قال تعالى: ( فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)  

      قال تعالى: ( فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا)   

       معنى ألهمها فجورها، أي أنها إذا فجرت تعرف أنها فجرت، والإنسان إذا لم يبلغه الإسلام أو لم يبلغه الشرع أو التكليف ربما كان معفى من تفاصيل التكليف،   

      فإذا اهتديت بأنّ لهذا الكون إلهاً عظيماً، وإذا حرصت ألا تسيء لهذه المخلوقات، فهذا هو جوهر الدين،   

      إذاً: بالعقل والفطرة يمكن أن تصل إلى كليات الدين، إلى مقاصد الدين الحنيف،   

      بالتكليف والتبليغ عليك أن تنفذ تفاصيل الشرع، الصلوات الخمس، الزكاة، أحكام البيع، أحكام المضاربة، أحكام الإيجار، أحكام الإحالة، نحن إذا بلغنا الشرع مطالبون بتفاصيل الشريعة، أما إذا لم يبلغنا الشرع مطالبون بكليات الدين.  

      سيدنا إبراهيم من خلال تفكره بالكون، مرة قال: الشمس ربي، مرة قال: القمر ربي، مرة قال: هذا النجم ربي، ثم قال تعالى: ( إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)  

      هذا هو دين إبراهيم، أن تتوجه لا إلى المخلوقين بل إلى خالق المخلوقين، الآن في العالم هناك من يعبد البقر، هناك من يعبد الشمس، هناك من يعبد المرأة، هناك من يعبد الحيوانات، في جنوب شرق آسيا يعبدون التنين الثعبان الكبير في احتفالاتهم وفي أعيادهم، الإنسان لا يرقى إلا إذا وجّه وجهه للذي فطر السموات والأرض.  

أمثلة من واقع الجاهلية لأناس عرفوا الله قبل النبوة :  

      أضع بين أيديكم أقوالاً لأناس جاهليين، والدرس محوره قوله تعالى:  ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)   

      وأنا أميل إلى أن أفهم هذه الآية على أن الرسول هو العقل،   

  • فهذا عامر ابن الظرب العدواني يقول لقومه مفصِحًا لسانه عما يدركه عقله:    

      إني ما رأيت شيئاً قط خلق نفسه، ولا رأيت موضوعاً إلا مصنوعاً، ولا جائياً إلا ذاهباً، ولو كان الذي يميت الناس داء لكان الذي يحييهم الدواء  إذاً: هناك قوة كبيرة جداً بيدها الأمر.  

  • المتلمس بن أمية الكناني يقول عند الكعبة في الجاهلية:    

      أطيعوني ترشدوا، لقد اتخذتم آلهة شتى، وإن الله ربكم ورب ما تعبدون    

    فلا رسالة، ولا وحيًا، ولا قرآنًا، ولا نبوة كان لها وجود، لكن هذا العقل السليم يدرك أن للناس ربًّا، وهو خالقهم.  

  • زهير بن أبي سلمى يمسك أوراق الأشجار التي اهتزت خضراء بعد أن كانت يابسة، ويقول:    

     لولا أن يسبني العرب لآمنت بالذي أحياك بعد جفاف سيحيي العظام وهي رميم   وله هذا البيت الشهير :  

فلا تكتمن الله في نفوسكم***ليخفى فمهما يكتم الله يعلم  

  • أبو قيس بن أنس:  

       اعتزل قريشاً وأصنامها، واتخذ في بيته مسجداً لا تدخله امرأة طامث ولا جنب، وقال:  أنا أعبد رب إبراهيم .  

      الإنسان في لحظات تأمل مع نفسه، لحظات تفكير عميق، يجد أنّ كل شيء ينطق بوحدانية الله، وكل شيء ينطق بأن هذا الكون إلهاً حكيماً، رباً رحيماً، كريماً،   

  • وهناك أشخاص ثلاثة: هم قس بن ساعدة الإيادي، وزيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل، هؤلاء انعقدت قلوبهم على دين إبراهيم عليه السلام.  

نموذج آخر من الباحثين إلى الحقيقة :  

      إنّ سيدنا الصديق الذي نتحدث عنه، والذي هو موضوع هذا الدرس، والذي عاش في الجاهلية، ولم يعبد صنماً، ولم يشرب خمراً، ما الذي حمله على ذلك؟ عقله الراجح، وكان صديقًا للنبي عليه الصلاة والسلام، يعني نشئا معاً، وأَلِفا بعضهما،   

      قال ذات يوم بعد أن تلقى محمد رسالة ربه وآمن معه أبو بكر: كان عليه الصلاة والسلام جالساً بين أصحابه يستعيد ذكرى أيام شبابه،   

فقال عليه الصلاة والسلام: لست أنسى قس بن ساعدة ممتطيًا جمل أورق في سوق عكاظ، وهو يتحدث حديثاً ما أحسبني أحفظه!   

فقال سيدنا أبو بكر: إني أحفظه يا رسول الله، كنت حاضراً هذا اليوم في سوق عكاظ، ومن فوق جمله الأورق وقف قس يقول:    

      أيها الناس اسمعوا وعوا وإذا وعيتم فانتفعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، إن في السماء لخبرًا، وإن في الأرض لعبرًا، مهاد موضوع، وسقف مرفوع، ونجوم تمور، وبحار لن تغور، ليل داج، وسماء ذات أبراج، يقسم قس قسماً حقاً، إن لله ديناً هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه، مالي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون، أرضوا بالمقام فأقاموا، أم تركوا فناموا،   

      ثم أنشد فقال:  

في الذاهبين الأولين من القرون لنا بصــائر  

لما رأيت موارداً للموت ليس لها مصـــادر  

ورأيت قومي نحوها يمضي الأكابر والأصاغر  

                                                          أيقنت أني لا محالة حيث صار القوم صائــر  

      هذا كلام قس بن ساعدة الإيادي في الجاهلية دون أن يتلقى رسالة ولا دعوة، وقبل أن تأتي النبوة، وقبل أن يتنزل الوحي على النبي عليه الصلاة والسلام، هذا من إنجاز العقل البشري،   

      العقل يا أيها الأخوة يتوافق مع النقل، وما جاء به النقل يتوافق مع العقل الصريح.  

أما زيد بن عمرو بن نفيل يقول وقد أسند ظهره إلى الكعبة منادياً الناس:    

      يا معشر قريش، والذي نفسي بيده ما أصبح أحد على دين إبراهيم غيري، إني اتبعت ملة إبراهيم وإسماعيل من بعدهما، وإني لأنتظر نبياً من ولد إسماعيل، ما أراني أدركه، ثم تقع عينه على عامر بن ربيعة فيناديه يا عامر بن ربيعة إن طالت بك الحياة فأقرئه مني السلام .  

      سيدنا الصديق إذا استمع إلى قس بن سعد الإيادي يتفاعل معه، إن استمع إلى عامر بن ربيعة يتفاعل معه، فقال سيدنا الصديق عندما سمع هذا الكلام:  هذا ورب إبراهيم هو الحق، ولكن كيف، ومتى نصبح منه على يقين؟  

      ممكن أن نسمي هذه الأشياء تلمسات، هؤلاء الرجال الكبار الجاهليون الذين استعملوا عقولهم الراجحة، فعرفوا أن لهذا الكون إلهاً عظيماً، وأن هذا الدين الذي عليه الناس اليوم في الجاهلية ليس دين الله عز وجل، وإنما ظلم، وسخف، وخرافة، و دجل.  

      أما ورقة بن نوفل فكان عاكفاً على الأناجيل يتلوها ويدرسها عساها تدله على دين إبراهيم، أما زيد فكان هائماً مع أشواقه المؤمنة منطلقاً في بطاح مكة لائذاً بالكعبة تارة، مناجياً ربه تارة أخرى، يقول زيد:  اللهم لو أني أعرف أي الوجوه أحب إليك لعبدتك به، ولكني لا أعلمه .  

      صار لديهم الشوق إلى الحقيقة.  

موقف العلماء من هذه الأحداث التي جرت قبل النبوة :  

     العلماء قالوا: هذه إرهاصات، معنى الإرهاصات جمع إرهاص، يعني دلائل قرب مجيء النبي عليه الصلاة والسلام، وكان سيدنا الصديق يزداد طمأنينة وأمناً، كلما رأى زيد بن عمرو يشق صفوف الناس المتحلقين حول الكعبة، ويرفع عقيرته في غير تهيب قائلاً:  لبيك حقاً حقاً تَعبُداً ورِقاً .  

     أحياناً بعض العلماء في الحج يلبون بهذه التلبية، والتلبية المعروفة،  لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك،   

      هذه تلبية أخرى ويقول هذا الرجل الذي هداه الله بعقله إلى الحق والهدى، واتبع ملة إبراهيم حنيفاً:  

وأسلمت وجهي لمن أسلمت***له الأرض تحمل صخراً ثقالا  

  دحاها فلما رآها استــوت***على الماء أرسى عليها الجبالا  

وأسلمت وجهي لمن أسلمت***له المزن تحمل عذبــاً زلالا  

من طلب الحقيقة وجدها :  

       أقول لكم هذا الكلام: كلكم فيما يبدو تبحثون عن الحقيقة، والله الذي لا إله إلا هو ما هدى الله شاباً إلى الحقيقة إلا بعد أن طلبها، لا ترى مؤمنًا يهتدي إلى الحقيقة إلا إذا كان طالباً لها، كل إنسان يستعرض حياته السابقة، يقول لك: أبحث عن شيء لا أعرف أين هو، ما هو هذا الشيء؟ الحقيقة، الحقيقة الكلية، الحقيقة الكبرى أن تعرف أين أنت موجود؟ أين كنت وأين المصير؟ ما فلسفة الوجود؟ ما فلسفة الحياة؟ طلب الإنسان إلى الحقيقة، هو الذي هداه إليها، وما من آية أصدق على هذا الموضوع من قوله تعالى:  ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)  

      أيها الأخوة، إذا طلبت الحق بصدق، واللهِ الذي لا إله هو لزوال الكون أهون عند الله من ألا تصل إليك، في أي عصر، وفي أي مصر، في عصر الفتن، في عصر الضلالات، اطْلُب الحق تجده، الحقيقة ثمنها أن تطلبها صادقاً، أمية بن أبي الصلت كان يقول:  

ألا نبي لنا منا فيخبرنــــا***ما بعد غايتنا من رأس مجرانا  

إني أعوذ بمن حج الحجيج له***و الرافعون لدين الله أركــانا  

      سيدنا الصديق يقول: أليس فينا من يجمعنا على الحق بعد أن يدلنا عليه، صار هناك بحث عن الحقيقة،   

إنسان العصر والصديق إنسان عصره فانظر إلى المفارقة بينهما؟  

      الذين عطلوا عقولهم، واتبعوا أهواءهم، هؤلاء لا يعرفون أين هم من الحياة، أفي المقدمة، أم في المؤخرة، أم على هامش الحياة؟ أنا أذكر بيتًا من الشِّعر هو أهجى بيت قالته العرب،   

دع المكارم لا ترحل لبغيتها***واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي  

      هذا البيت ربما صار في زمن الجاهلية الثانية شعار كل إنسان، بما أن دخلك كبير، وبيتك مريح، تجارتك رابحة، أولادك في عافية تامة، ما لك وللحق، ما لك ولهذه الأمور المتعبة؟ الناس ينصحون بعضهم بعضاً، اجلسْ في بيتك أفضل لك، إذا طلب رجل العلم، وأحب أن يعرف دينه، أحب أن يكون مع جماعة صادقة طاهرة يجد عشرات الأشخاص يحذِرونه، ويقولون له: دعك من هذا، هذا الذي يعد أهجى بيت قالته العرب، هو ديدن الإنسان المعاصر:  

دع المكارم لا ترحل لبغيتها***واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي  

      نحن في هذا الفصل نضع أنفسنا في الأجواء التي عاشها الصديق، إنسان عاش في الجاهلية ما شرب الخمر، ولا عبد الصنم، وهؤلاء الذين يقولون: الإنسان ابن بيئته، معطيات قاسية، بيئة فاسدة، هذا الكلام كله باطل.  

الإنسان ابن نفسه :  

      يقولون عن إنسان إنه ابن وراثته، فقال: صحيح، الإنسان ابن محيطه، صحيح، الإنسان ابن أمه وأبيه صحيح، تكلم عشرات العبارات، ولكن الأصح من ذلك أن الإنسان ابن نفسه، المعنى أن الإنسان يختار أحياناً، فمثلاً في بيت كله فسق وفجور يتواجد إنسان صالح، هذا الشاب الصالح الذي نشأ في بيئة فاسدة حجة على من يدعي أن الإنسان ابن بيئته، تجد أحياناً ابنًا في بيت مال لا في بيت علم، لكنه يطلب العلم، أيضاً هذا الشاب حجة على من يعتقد أن الإنسان ابن محيطه، أنت ابن نفسك يعني لك استقلالية، ولك اختيارك، قال تعالى: ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)  

 الهم الذي كان في داخل الصديق لمعرفة الحق:  

      أيها الأخوة، كلكم يعلم في الجاهلية أن هذه الكعبة كانت قامة، كما قال الله عز وجل: ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ)  

      أول بيت وضع للناس قاطبةً هي الكعبة، لذلك الكعبة مكان مقدس حتى في الجاهلية، فلما أرادوا إعادة بناءها اختلفت القبائل في موضوع الحجر الأسود من يحمله، ويضعه في مكانه الصحيح، ولا يغيب عن أذهانكم أن العرب في الجاهلية كانت تنشب بينهم الحروب الطاحنة التي تدوم عشرات السنين من أجل عمل تافه،   

      ذات مرة رجل في سوق عكاظ مد رجله، وقال: مَن كان أشرف مني فليضربها، فقام إنسان وضربها، يعني قطعها، فنشأت حرب طحنت الناس عشر سنين، هنا قضية كبيرة جداً، الخلاف بين بطون قريش قد ذر قرنه، وأمية بن المغيرة، أكبر قريش حكمة وسناً، يشير على الناس أن يحكِّموا أول قادم، وعليهم أن يرتضوا حكمه، سيدنا الصديق يذكر من الذي كان أول قادم؟ قال: كان محمد الأمين عليه الصلاة والسلام هو أول من قدم على هؤلاء، وهم في زحمة خلافاتهم، قالوا: هذا الأمين محمد، نعم الحكم هو، فالنبي عليه الصلاة والسلام لو أن الناس الذين عاشوا معه وعاصروه، والله لو أنهم رأوا في سلوكه، وفي تعامله مأخذاً يسيراً لصرحوا به بعد البعثة، لكن هؤلاء ما رأوا منه إلا عفة، وطهراً، واستقامة، وأمانة، وهكذا يجب أن يكون المؤمن،   

     وكان الصديق يقول: نعم الحكم محمد عليه الصلاة والسلام،   

      فالنبي عليه الصلاة والسلام كان فتى شاباً، فلما رآهم مختلفين ومحتدمين وعلى وشك أن تقع فتنة بينهم عمياء،  قال: هلمّوا إليّ ثوباً، فجاؤوا بثوب، فوضع الحجر به، ونادى لتأخذ كل قبيلة بطرف من الثوب ثم ارفعوه جميعاً، فاستجابوا له حتى اقترب الحجر من موضعه فأخذهُ محمد صلى الله عليه وسلم بيده، ووضعه مكانه،   

      قال: وانتهت هذه الفتنة أسعد نهاية، فكان من الممكن أن تنذر بشر وبيل.  

     سيدنا الصديق لما رأى هذا الشاب الفتى، العفيف، الطاهر، الصادق، الأمين، حسم الخلاف بهذه الطريقة البسيطة فكان له قول شهير: لعل أول رجل يجيء فيحسم الخلاف مرة أخرى، ويبين للناس ما اختلفوا فيه من الحق، مرة ثانية وثالثة ورابعة.  

     كان هناك تشوق وتطلُّع وترقُّب للحق، والإنسان لما ينتظر الحل يأتي الحل، إذا انتظر الفرج يأتي الفرج.  

القناعات محرك الإنسان:  

      لا تظنوا أن الإيمان يأتي فجأة، فهناك شيء يسمى تراكمات، تراكم قناعات، فالإنسان يتأمل، ويراقب الأحداث، ويستمع إلى الأقوال، كلما تلقى الإنسان شيئًا،خزنه في العقل الباطن، فالإنسان مثلاً عندما يحضر مجلس علم، ولا أحد يطالبه بالاستقامة، لكنه ارتاح لهذا المجلس فحضره، هذا الدرس أدّى إلى تراكمات عنده تختزن في العقل الباطن، هذه الحقائق، وهذه الأفكار الصحيحة، وتلك الآيات الكريمة، والأحاديث الشريفة، والتعليلات، والتوجيهات، ووضع النقاط على الحروف، هذه كلها تترسب في العقل الباطن، إلى أن يكون هذا العقل الباطن إن صح التعبير أو تلك العقيدة هي الموجّه لهذا الإنسان، ويجب أن تعلم أن كل المخزون الثقافي في النهاية يتفاعل معك و يوجِّه سلوكك، هذه أخطر فكرة أذكرها لكم.  

       فالإنسان أخطر شيء في حياته مصادر التغذية الثقافية،   

      كنت أقول لكم دائماً: أنت في حياتك شئت أم أبيت ثلاثة أشخاص، واحد منهم هو أنت، شخصية تكونها، وشخصية تتمنى أن تكونها، وشخصية تكره أن تكونها، قل لي: ما الشخصية التي تتمنى أن تكونها؟ أقل لك: من أنت؟ لا يوجد إنسان قبل أن ينام إلاّ ويتصور شخصًا ما، فالباعة يتصورون أنهم تجار كبار، والمحامي الناشئ يتصور محاميًا قديم، والطبيب الناشئ يتصور نفسه طبيبًا قديمًا، كل واحد بحسب حرفته، وبحسب منبته الطبقي يتصور شخصًا أعلى منه.  

      أما المؤمن فليس في ذهنه إلاّ النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام، دائماً له حساب مع نفسه، لذلك أيها الأخوة،   

      الإنسان عندما يغذي نفسه بالفكر الديني والبطولات الإسلامية، لن ينطق ولن يتكلم إلا بالحق، وتصوراته مبنية على ما سمع، يحب أن ينجد الفقير والملهوف، وأن يكون كريماً، أخلاقياً، موضوعياً، كل الفضائل أساسها هذه التغذيات الثقافية،   

      أما خطورة الأعمال الفنية الرخيصة أن تعيش الفتاة أو هذا الفتى في أجواء الانحراف الأخلاقي، أجواء الشهوة الجسدية، فإذا أُحيط الإنسان بهذه المغذيات الهابطة فأمره كما يقول أحد الأدباء: إذا قرأت قصةً أو قصيدةً، وشعرتَ أنها حركت المشاعر السفلية فأنت أمام فن رخيص، وإن مجتمعًا بأكمله يمكن أن يدمر عن طريق هذا الفن الرخيص.  

مقام أبي بكر:  

     فهذا الفصل الأول أمضيناه في الحديث عن هذا الصحابي الجليل الذي هو أول الصحابة قاطبة، وهو الصدِّيق الذي قال عنه عليه الصلاة والسلام:  ما ساءني أبو بكر قط.  

      ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا وكانت له كبوة إلا أخي أبا بكر .  

      لذلك قرأت سيرة هذا الصحابي الجليل، وهذا يقع في قمة الصحابة، أعلى درجة بالصدق والإخلاص والتفاني في حب الله عز وجل، والتفاني في خدمة رسول الله عليه الصلاة والسلام، لذلك مقامه عند رسول الله عظيم.  

       أخواننا الذين يذهبون إلى العمرة يقفون وقفة أما النبي ويناجونه، ثم يتنحون قليلاً، ويقفون تجاه قبر الصديق رضي الله عنه، وهناك كلام طيب يقال في حق هذا الصحابي الجليل، تشعر بسعادة لا توصف، أنت أمام الشخص الأول بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال:       سدوا كل خوخة إلا خوخة أبي بكر.  

       في الحرم المكي الشريف في جانب باب السلام لوحة في الأخضر مكتوب عليها، هذه خوخة أبي بكر، أي هنا كان بيته.  

خلاصة القول :  

      أحاديث كثيرة جداً عن هذا الصحابي الجليل، لكن ما يعنينا أن نقف عند دقائق سيرته، وسوف نمضي معه إن شاء الله تعالى، لكن هنا آثرت أن نبقى مع ملامح الحياة الجاهلية التي عاش بها هذا الصحابي الجليل، وكيف أنه بعقله الراجح وفطرته السليمة ما عبد صنماً ولا شرب خمراً؟ وكان ينتظر هذه البعثة على أحرَّ من الجمر، وكان صديقاً وفياً للنبي عليه الصلاة والسلام، وبينت لكم كيف كان في الجاهلية بعض الرجال على دين إبراهيم، وكيف أن العقل يهديك لله عز وجل وأن الفطرة تحجزك عن المعصية والسقوط.  



المصدر: السيرة - سيرة الخلفاء الرشدين - سيدنا أبو بكر الصديق - الدرس (1-5) : فطرته السليمة وأخلاقه في الجاهلية