أخلاق الصديق في الجاهلية:
أيها الأخوة، مع سيرة سيدنا الصديق رضي الله عنه وأرضاه، هذا الصحابي الجليل هو الصحابي الأول، لذلك إذا قرأتم سيرته يمكن أن يكون قدوة لأي مؤمن في طريق الإيمان، فكان في نفسه تساؤل مستمر، تساؤل عن الحق، تساؤل عن الهدى، فكان هذا الصحابي الجليل صديق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنى ذلك أنه قريب جداً منه، كلما ارتفع مستوى الرجل إلى مستوى صنوه صار صديقاً له،
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : خِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الإِسْلامِ إِذَا فَقِهُوا
هذه الأمة التي اختارها الله لتكون أمة وسطاً، هذه الأمة وهي في جاهليتها تنطوي على مكارم للأخلاق، فقد كان حاتم الطائي وهو من سادة العرب في الجاهلية يقول لغلامه:
أَوْقِدْ فَإِنَّ اللَّيْلَ لَيْلٌ قَــرٌّ***والرِّيحَ يَا مُوقِدُ رِيحٌ صِرُّ
عَسَى يَرَى نَارَكَ مَنْ يَمُـرُّ***إِنْ جَلَبْتَ ضَيْفًا فَأَنْتَ حُـرُّ
أي إن جئتني بضيف، ومكنتني من إكرامه، فأنت حر، فبعضهم يوقد النيران الشاهقة في الليل كي يستدل بها الضيوف على مكان القِرى والإكرام، والعرب في الجاهلية كانوا يكرمون الضيف، وينصرون المظلوم، ويعينون على نوائب الدهر فلديهم مكارم أخلاقية حقاً.
أيها الأخوة، العرب في الجاهلية كانت لهم أشهر حرم، أنا لا أنسى أنه كانت لهم نواقض كثيرة، لكن هناك مكارم أخلاق رغم الجاهلية التي كانوا يعانون منها خِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الإِسْلامِ إِذَا فَقِهُوا
ففي هذه الأشهر الحرم تتحوّل السيوف إلى أغصان، وتتوقف الحروب، ويتوقف سفك الدماء، هذه ميزة كانت عندهم، بينما نسمع الآن أن الحرب دامت ثلاثة عشر عامًا، وحروب أهلية لا تبقِي ولا تذر.
كان الصدِّيق عليه رضوان الله في قِمَّة هذه النماذج التي عاشت في الجاهلية، والتي جاءها الإسلام، وهي على نقاء فطري، هذا الصحابي الجليل كما قلت لكم: لم يشرب خمراً، ولم يعبد صنماً، وكان في مخيلته تساؤل كبير عن الحق الذي يعد شفاء للنفوس،
رؤيا الصديق:
كان مرة في بلاد الشام في عمل تجاري، وقبل أن يغادر الشام إلى بلده مكة رأى رؤيا، رأى
قمراً قد غادر مكانه في الأفق الأعلى، ونزل على مكة حيث تجزأ إلى قطع وأجزاء، تفرقت في جميع منازل مكة وبيوتها، ثم تضامنت هذه الأجزاء مرة أخرى، وعاد القمر إلى كيانه الأول، واستقر في حجر أبي بكر،
صحا هذا الصديق من نومه، وقد رأى هذه الرؤيا، فسار إلى أحد الرهبان المتقين الذين ألفهم، وعقد معهم صلات بالشام، وقص عليه الرؤيا، فتهلل وجه الراهب الصالح،
وقال لأبي بكر: لقد أهلَّتْ أيامُه،
قال: من تعني؟ قال: النبي الذي يُنتَظَر،
ويجيبه الراهب: نعم، وستؤمن معه، وستكون أسعد الناس به.
هذه يسميها علماء السيرة إرهاصات، والأشياء الجليلة العظيمة لا بد لها من إشارات تؤكد قدومها، وتبشر بها،
سيدنا عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام كلم الله في المهد قال: إني عبد الله، فلما كبر، وأرسله الله رسولاً لقومه، تذكروا أن هذا الغلام هو الذي تكلم في مهده،
فالمعجزات التي تظهر على أيدي الأنبياء في وقت مبكر جداً من إرسالهم للناس ليست معجزات بالمعنى الدقيق، ولكنها كما يقولون علماء السيرة: إرهاصات، وحينما يبعث النبي برسالته إلى أمته يذكر الناس أن لهذا الإنسان وضعاً خاصاً حينما كان صغيراً، فيربطون بين الحدث القديم وبين البعثة الجديدة، وهذا الربط لديهم مما يؤكد أن العناية الإلهية اختارت هذا الرجل ليكون نبياً، وهذا معنى قوله تعالى: ( وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي)
هذه الإرهاصات تؤكد للناس صدق بعثة الأنبياء.
فسيدنا الصديق يحتل مرتبة الصديقية، حينما تقرؤون سيرته ستجدون فيها ما لا يصدق، الحب الذي ينطوي عليه هذا الصحابي الجليل للنبي يكاد لا يصدق، المؤاثرة، التضحية، الولاء، الفهم، الإدراك في أعلى مستوى، وهذه القدرات الفذّة التي يمنحها الله للمؤمنين تقابل صدقهم في طلب الحقيقة.
كلما اشتد صدقك في طلب الحقيقة منحك الله قدرات استثنائية تعينك على تحقيق مطلبك في الحياة، إذاً: هذه كانت بالمعنى الدقيق إرهاصات لظهور النبي عليه الصلاة والسلام.
الخبر الذي ضج به أهل مكة وتصديق الصديق له:
سيدنا الصديق كان مسافراً، وعاد إلى مكة المكرمة، لكن هذه المرة عاد إلى مكة المكرمة، وفيها حدث جلل، وفيها أمر عظيم، وفيها خبر يدوي الأرجاء، ما هذا الخبر؟ اقترب أبو بكر من مكة المكرمة فشعر أن فيها حدثًا لم يكن حينما غادرها، فلما دخل مكة، وقابل أصدقاءه تقدمهم أبو جهل وتعانقا،
وبدأ أبو جهل يقول: أَوحدَّثوك عن صاحبك يا عتيق، سيدنا الصديق كان اسمه في الجاهلية عتيقًا،
فأجابه أبو بكر: ماذا تعني؟
فقال أبو جهل: أعني يتيم بني هاشم،
قال أبو بكر: تعني محمداً الأمين،
ودار حوار سريع بين أبي جهل وبين الصديق،
قال: سمعت أنت ما يقول يا عمرو بن هشام؟
قال: نعم سمعته، وسمعه الناس جميعاً،
قال: وماذا يقول ؟
قال: يقول إن في السماء إلهاً، أرسله إلينا لنعبده، ونترك ما كان يعبد آباؤنا،
ثم إنّ سيدنا الصديق سأل أو قال: إن الله أوحى إليه؟
قال أبو جهل: أجل،
قال الصديق: ألم يقل كيف كلمه ربُّه؟
قال أبو جهل: إن جبريل أتاه في غار حراء، وتألق وجه أبي بكر كأنه الشمس،
قال في هدوء وسكينة: إن كان قال هذا فقد صدق.
الفصل كله حول هذه الكلمة،
إن كان قال هذا فقد صدق،
ولهذه الأسباب سمي الصديق، لأن يقينه بصدق محمد عليه الصلاة والسلام فوق الشك، إنسان عاش أربعين سنة ما جرب الناس عليه كذبة قط، إنسان عاش أربعين سنة ما جرب الناس عليه خيانة قط، مثل هذا الإنسان يصدق إذا قال، طبعاً أبو جهل ما توقع هذا الموقف الهادئ، ولا هذا التصديق، هو يظن أنه سيلقي على أذني أبي بكر خبراً صاعقاً، يظن أنه سيفصم عرا المودة بينه وبين النبي، وإذ بهذا الصديق يصدق النبي عليه الصلاة والسلام، إن قال هذا: فقد صدق.
قصد أبو بكر داره ليرى أهله، وينفض عنه تعب السفر، وبعدها يقضي الله أمراً كان مفعولا، ثم إنّ سيدنا الصديق أراد أن يتصل بالنبي عليه الصلاة والسلام اتصالاً مباشراً، وهو يعرفه معرفةً جيدة،
حينما كان النبي عليه الصلاة والسلام طفلاً صغيراً، وقد دعاه أصدقاؤه للعب كما يلعب الأطفال عادة، كان يقول عليه الصلاة والسلام وهو طفل صغير: أنا لم أُخلَق لهذا، وهو في سنِّ حياته الأولى كان واعياً للمهمة الكبرى التي تنتظره.
معرفة الصديق للنبي من أسباب تصديقه السريع له:
أقول لكم هذه الحقيقة: أنّ الإنسان المستقيم الشريف، الطاهر الصادق، الأمين، من كانت أخلاقه هكذا، إذا تكلم فحري به أن يكون صادقاً، والانحراف السلوكي دائمًا يقابله انحراف عقائدي، هذه حقيقة مقطوع بها، قال تعالى: ( أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ)
(فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)
هناك تلازم ضروري حتمي بين التدين الصحيح وبين الخلق الكريم، فإن رأيت فكراً نيراً، وعقلاً راجحاً، وكلاماً سديداً، ورأياً صحيحاً، فظن بغلبة الظن أن صاحب هذا الكلام السديد وذاك العقل الراجح إنسان مستقيم، وإن رأيت استقامة وورعاً، وطهراً، وصدقاً، وأمانةً، فظن بغلبة الظن أن صاحب هذه الأخلاق الرفيعة إنسان مبادئه صحيحة، اعتقدْ هذا الاعتقاد، هناك تلازم ضروري وحتمي بين سلامة السلوك وسلامة الفكر، بين سلامة العقيدة والمبدأ.
سيدنا الصديق عاش مع النبي عمراً مديداً، جاءته الرسالة في الأربعين، وكان هو في الثامنة والثلاثين، متقارب في سنه مع سن النبي، عاش معه ردحاً من الزمن، الذي لا يكذب لا يخون، هذا الإنسان إذا قال: فقد صدق، وفي القرآن الكريم هناك بعض الإشارات، قال تعالى: ( أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْداً إِذَا صَلَّى)
الآية انتهت، كيف تنتهي الآية، ولم يأت الجواب؟ أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى، الجواب: أي انظر إلى أخلاقه، انظر إلى دناءته، انظر إلى اقترافه الآثام، انظر إلى انحرافه السلوكي قال تعالى: ( أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى)
انظر إلى استقامته، هذا التلازم مهم جداً، لعل هذا التلازم هو موضوع هذا الفصل.
سيدنا الصديق لم يبادر متعجلاً، وقال: لقد صدق، إلا لأنه خبير بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، لذلك اعتقدوا أيها الأخوة، وهذا من عقيدة المسلم، إن الأنبياء معصومون قبل الرسالة، ولو لم يكونوا معصومين قبل الرسالة لشَكَّ الناس في دعوتهم، لأنهم صنعوا على عين الله عز وجل، ولأنهم هيؤوا لهذه المهمة العظيمة.
هناك شاهد آخر، يؤكد مدى الترابط بين صدق الدعوة وبين الأخلاق العالية، وهذا الشاهد، السيدة خديجة من علَّمها؟ ما درستْ في الجامعة، ولا تخرجتْ مِن كلية شرعية في العالم الإسلامي؟ حينما أنبأها النبي عليه الصلاة والسلام بأن الوحي قد جاءه، بماذا أخبرته؟ قالت: والله لن يخزيك الله أبداً، إنك تقري الضيف، وتحمل الكل، وتعين على نوائب الدهر
ربطت بين صدقه وبين أخلاقه، وهذا هو الشاهد الفطري من دون تعقيدات، فالإنسان الصادق، الورع، الأمين، المتواضع، أغلب الظن أنّ كلامه حق، والذي كلامه يغذي العقل أغلب الظن يكون مستقيمًا، فهناك تلازم.
إعلان إسلامه:
سيدنا الصديق انتقل من بيته بعد أن نفض عنه وعثاء السفر، وتوجه إلى بيت النبي عليه الصلاة والسلام، وجرى حديث بينهما في سرعة الضوء وصفائه،
قال أبو بكر: أصحيح ما أنبأني به القوم يا أخا العرب،
ولم يكن رسولَ الله؟
فقال عليه الصلاة والسلام: ماذا أنبؤوك؟
قالوا: إن الله أرسلك إلينا لنعبده ولا نشرك به شيئا،
قال: وما كان جوابك لهم يا عتيق؟
قلت لهم: إن قال هذا: فقد صدق،
يروي كتاب السيرة أنه فاضت عينا رسول الله من الدمع غبطةً وشكراً، لأنه هو يظن أن هذا الإنسان هو أول من يصدقه، وقد تحقق ظنه، لما فاضت عينا النبي بالدموع غبطةً وشكراً عانق صاحبه، وقبل جبينه، ومضى يحدثه كيف جاءه الوحي في غار حراء؟ قال تعالى: ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)
ما كان من هذا الصحابي الجليل بعد أن قبله النبي وبكى إلا أن شد بكلتا يديه على يد صاحبه، وصافح بهما النبي عليه الصلاة والسلام
وقال: أشهد أنك صادق أمين، وأشهد أنه لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله،
لذلك قال عليه الصلاة والسلام: ما دعوت أحداً إلى الإسلام قط إلا كانت له كبوة إلا أخي أبا بكر.
انصاف النبي للصديق والأحاديث التي وردت في حقه:
استمعوا أيها الأخوة إلى بعض ما قاله النبي عليه الصلاة والسلام في حق هذا الصحابي: ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافأناه بها ما خلا أبا بكر فإن له عندنا يداً أرجو الله أن يكافئه بها يوم القيامة
ما نفعني مال قط مثل ما نفعني مال أبي بكر
وما عرضت الإسلام على أحد إلا وكانت له كبوة عدا أبي بكر فإنه لم يتلعثم
إِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ أَمَنَّ عَلَيَّ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ مِنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنَ النَّاسِ خَلِيلاً لاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلاً وَلَكِنْ خُلَّةُ الإسْلامِ أَفْضَلُ سُدُّوا عَنِّي كُلَّ خَوْخَةٍ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ غَيْرَ خَوْخَةِ أَبِي بَكْرٍ "
ما ساءني قط فاعرفوا له ذلك
فهذه أقوال قالها النبي عليه الصلاة والسلام عن سيدنا الصديق، وهناك أقوال أخرى.
فما من صحابي إلا ذكره النبي بكلامٍ أنصفه، وأعطاه حقه، هذه من عظمة النبي، مع أنه هو أعظمهم، وأرقاهم عند الله، وهو البطل الأوحد، ومع ذلك ما نسي مَن حوله، وما نسي البطولات التي حوله، مع أنها إذا قيست إليه فلا تعدل شيئًا، ومع ذلك أبرَزَها، وهذا من الإنصاف.
قال لسيدنا معاذ: واللهِ يا معاذ إني لأحبك،
أبو عبيدة أمين هذه الأمة،
خالد سيف من سيوف الله،
ارمِ سعد فداك أبي وأمي،
لو كان نبي من بعدي لكان عمر،
أيها الأخ الكريم، خدمك إنسان، أكرمك، أعطاك، دلك على الله، زوجك، قدم لك شيئًا ثمينًا، فإياك أن تنسى فضله، فمن لؤم الأصل أن تنسى فضله، أما إذا صنعت معروفاً فعليك أن تنسى ما صنعتَ، الكلمة الطيبة صدقة
أحدهم قدم لك خدمة، وشاهدته بعد أسبوع، فقل له: جزاك الله الخير، أنا والله لا أنسى فضلك، شجِّعه، هناك شخص يتلقى خدمات الآخرين، ويتلقى المعروف وهو ساكت، وكأن هذه الخدمات ضريبة عليهم أن يؤدوها له.
يا أيها الأخوة، من فظاظة الإنسان ومِن ضحالته، يقول لك: أنا لا أحد له فضل عليّ إلا الله، وهذه كلمة حق أريد بها باطل، صحيح أنّ لله المنة والفضل، ولكن لا تنسَ قول النبي عليه الصلاة والسلام: مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ لَا يَشْكُرُ اللَّهَ
إذا لم ير الإنسان فضلَ أبيه عليه، وفضلَ أمه، وفضلَ أصدقائه الذين قدّموا له المعونة يوم العسرة، وفضل الذي دلّه على الله، وفضلَ الذي أكرمه، وفضل الذي زوجه فهو جاحد، بعض الناس قد يتطاول على عمه، هذا عمك الذي ربا لك زوجتك، فهل هو مِن سنك؟ هذا أب لك، والآباء ثلاثة: أب أنجبك، وأب زوّجك، وأب دلّك على الله، وفارقُ السنِّ مهم جداً.
ليس مِن صحابي من أصحاب رسول الله من دون استثناء إلا وذكره النبي بما يستحق، هذه من عظمة النبي عليه الصلاة والسلام، فأخلاقه وعظمته، وبطولته كالشمس في رابعة النهار، لكن شأن العظماء في الحياة غير الأنبياء والمؤمنين، من عادتهم أنهم إذا ظهروا، أي تألقوا ووصلوا إلى قمة النجاح، لا يسمحون لأحد معهم أن يظهر، لكن النبي عليه الصلاة والسلام هو الذي أظهر أصحابه.
الحب العظيم في قلب الصديق للنبي ؟
سيدنا الصديق أعطاه كل ماله، وما قبل النبي مال أحد كله إلا مال الصديق، من سيدنا عمر لم يقبل إلا نصف ماله، قد تنشأ علاقة بين شخصين يتحابان في الله، نابعة مِن علاقة إيمانية، صدقوا أيها الأخوة، إنّ الفوارق تتلاشى، المال واحد، والهموم واحدة، والفرح واحد، والحزن واحد، أحياناً تشتد العلاقة بين المؤمنين لدرجة أن الملكية تتلاشى، يقول: مالي ومالك واحد.
سيدنا الصديق بلغ من حبه للنبي عليه الصلاة والسلام حداً لم يعُدْ يرى أنّ له مالاً إطلاقاً،
قال له: يا أبا بكر، ماذا أبقيت لنفسك؟
قال: أبْقيتُ لها الله ورسوله،
هذا هو الإيمان العالي، كلما ارتقى إيمانكم أحببْتم بعضكم بعضاً، وإنّ الحسد من ضعف الإيمان، وتراشق التهم من ضعف الإيمان، وأن تتمنى أن تزول عن أخيك النعمة من ضعف الإيمان.
أقدِم لك مقياسًا دقيقًا جداً، يوجد بين المؤمنين أخ قريبًا منك دائما ولا ينافسك، إذا كنت طالبَ علم فلا ينافسك تاجر، أنت في حقل، وهو في حقل آخر، أما تاجران في مصلحة واحدة، وطالبان في مدرسة واحدة، إذا كان بينهما تماثل وجدتَ تنافسًا، فانظر إلى نفسك إن جاء لأخيك خير وفرحتَ له، وكأن هذا الخير جاء إليك، فأنت مؤمن وربِّ الكعبة، أمّا إذا حسدته وتمنيت زوالَ النعمة عنه، فاعلمْ أنك منافق قطعاً ويقيناً، لقول الله عز وجل: ( إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ)
وكلما فرحت لأخيك إذا تسلَّم منصبًا رفيعًا، أو نال شهادة عالية، أو تزوج، أو اشترى بيتًا، أو اشترى مركبة صغيرة، افرح له، هذا أخوك، وقد صار أقوى منك، وقوته لكل المؤمنين، وشعار المؤمنين، الواحد للجميع، والمجموع للواحد، كلنا لواحد منكم، وأنت أيها الأخ لنا جميعاً، أنت وإمكانياتك وقدرتك وعضلاتك ومالك للجماعة كلها.
ما عرف الصديق أنه أساء إلى النبي ولو بكلمة:
على مدى سنوات هذه الصحبة ما وردت منه كلمة تسيء للنبي عليه الصلاة والسلام، وما زال أهل مكة يكذبون النبيَّ، ويبخسون دعوته، ويتهمونه بالكذب تارة، وبالجنون تارة أخرى ويتهمونه بأنه كاهن وأنه شاعر، وفي زحمة هذه الاتهامات، وفي زحمة هذه المعارضات أسرى الله به إلى بيت المقدس وعرج به إلى السماء، أنا أظن أن النبي عليه الصلاة والسلام لو كان الأمر باختياره لتمنى ألف مرة أن يسكت عن إسرائه ومعراجه لأنه من دون أن يسري به إلى بيت المقدس، ومن دون أن يعرج به إلى السماء الناس يكذبونه، فكيف إذا حدثهم بالإسراء والمعراج؟.
دققوا في هذه القصة،
كان أبو جهل ذاهباً لبعض شأنه حين مر بالكعبة، فأبصر النبي صلى الله عليه وسلم جالساً وحده في المسجد الحرام، صامتاً مفكراً، وأراد أبو جهل أن يؤذي النبي عليه الصلاة والسلام ببعض سخرياته، فاقترب منه وسأله، أولم يأتك الليلة شيء جديد؟
فرفع النبي عليه الصلاة والسلام رأسه، وأجاب في جد: نَعَم، أُسرِي بي الليلة إلى بيت المقدس في الشام،
فقال أبو جهل مستنكراً: وأصبحتَ بين أظهرنا،
طبعاً كل عصر له معطياته، الآن مثلاً سهل جداً أن تركب الطائرة من جدة الساعة التاسعة، وتكون الساعة العاشرة في دمشق، لكن تصوروا العصر الذي عاش فيه النبي بين مكة وبيت المقدس، أعتقد أنّ المسافة كانت شهرًا أو شهرين مِن ركوب الناقة،
وهنا صاح أبو جهل في جنون: يا بني كعب هلموا، وأقبلت قريش ينادي بعضها بعضاً،
فماذا حل بالنبي؟ وهو مأمور أن يبلغ الناس أنه أسري به، من دون إسراء لم ينته منهم، وهو مكذَّب، فكيف بالإسراء والمعراج؟
ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبر أحداً من أصحابه بنبأ الإسراء بعدُ، فتجمع الناس عند الكعبة، ومضى أبو جهل يحدثهم في حبور بما سمع، وقد ظنها الفرصة المواتية التي عندها سينفض الناس عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأنّ أمْر النبي انتهى إلى الأبد، لكن الذي انتهى وصار في مزبلة التاريخ أبو جهل وأبو لهبٍ وأمثالهما، قال تعالى: ( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ)
هؤلاء الذين عارضوا النبي أين هم الآن؟
وتقدم واحد من المسلمين وسأل النبي: يا رسول الله أحقاً أسري بك الليلة؟
فقال النبي: نعم، وصليت بأخواني الأنبياء هناك،
وهذه أفظع أيضاً، وسرى في الجمع المحتشد خليط متنافر من المشاعر المهتاجة، ورحب المشركون بما سمعوا أشد الترحيب، ثم وصل هذا الجمع الغفير إلى دار أبي بكر،
وقالوا له: هذا صاحبك، وهذا الذي تقول عنه: الصادق الأمين، والذي تظن به خيراً، تعال واسمع هذا الخبر يا عتيق،
وخرج أبو بكر دهشاً تجمله السكينة والوقار، وسألهم: ماذا وراءكم؟
قالوا: صاحبك،
قال: ويحكم هل أصابه سوء؟ مِن شدَّة حبه له،
وتراجع القوم، وقالوا: لا، إنه هناك عند الكعبة يحدث الناس أن ربه أسرى به الليلة إلى بيت المقدس، وتقدّم آخر يكمل الحديث ساخراً، ذهب ليلاً وعاد ليلاً وأصبح بين أظهرنا،
فأجابهم أبو بكر، وقد تهلل وجهه: أي بأس في هذا؟ إني لأصدقه فيما أبعد من ذلك، أصدقه في خبر السماء يأتيه في غدوة أو روحة، إن كان قال هذا فقد صدق.
( أخرجهما البخاري ومسلم في الصحيح )
هو الصديق أدرك إدراكًا عظيمًا، هذا الذي خلق السموات والأرض، وأنزل عليه جبريل من فوق سبع سموات، الذي فعل هذا بإمكانه أن يأخذه إلى بيت المقدس، وأن يعيده في ليلة واحدة، ما هذا اليقين؟ هذا يقين الصدِّيقية،
سيدنا علي، يقول: والله لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً
المؤمن كلما ارتقى إيمانه يصبح هو والحقائق وجهاً لوجه، يعني يقينه بالحق الذي يؤمن به أقوى من وجوده.
سيدنا الصديق ليس عنده مشكلة، كيف ذهب؟ وكيف عاد؟ عقله الراجح، وخبرته بالنبي عليه الصلاة والسلام يقينية، ويبدو أن نظره في هذا الكون العظيم، والذي خلق هذا الكون قادر على أن يأخذه، ويعيده في ليلة واحدة، وهرول أبو بكر إلى الكعبة حيث الرسول صلى الله عليه وسلم، وعند الكعبة رأى الجمع الشامت المرتاب متحلقين، ورأى نور الله هناك في جلسته الخاشعة مستقبلاً الكعبة لا يحس بهذا اللغط من حوله، ولا يسمع للقوم ركزا، وانطرح أبو بكر عليه يعانقه، ويقول: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، والله إنك لصادق، والله إنك لصادق، لذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام من تكريم الله له أنه أحاطه بهؤلاء الأصحاب.
فكلما كان أصحابك من علية القوم صدقاً، وأمانةً، وورعاً، ووفاءً، وبذلاً، وتضحيةً، فأنت عند الله في مكان رفيع، و كلما كان الذين من حولك مقصرين مترددين متشككين متخاذلين أحياناً، فهذه علامة ضعف إيمانك.
مواقف الصديق يشهدها الإسلام وأهله في مواطن المحن والأزمات:
الحقيقة هذا الصحابي الجليل له مواقف، فربنا يبتلي المؤمنين، وأحياناً بعض الشدائد لا يصمد لها إلا من كان في القمة، فالدعوة الإسلامية مرت بمحن وأزمات لم يصمد لها إلا الصديق وحده،
- الحديبية:
ففي الحديبية رأى سيدنا عمر في هذا الاتفاق، وهذا الصلح مهانة للمسلمين بعد أن ذهب المشركون، ومعهم هديهم معلنين أنهم لا يبتغون حرباً، وافق النبي مع سهيل بن عمرو أن يرجع هذا العام عند عزمه دخول مكة معتمرا، ووافق النبي على أن الذي يأتيهم من قريش مسلماً يجب أن يرد إليهم، أما الذي يرتد من المسلمين ينبغي ألا يعود إليهم، إذًا: فهو اتفاق مهين في نظرِ سيدنا عمر، فذهب إليه وقال: يا رسول الله، يا نبي الله، ألستَ نبي الله حقاً؟
قال: بلى يا عمر،
قال: فلِمَ نعطي الدنية في ديننا؟
فقال عليه الصلاة و السلام: يا عمر إني رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري، أي الذي فعلته ليس من اجتهادي، بل هو تنفيذ لأمر الله،
قال عمر: أو لمْ تَعِدْنا يا رسول الله بأننا سنأتي البيت، ونطوف به،
فقال النبي: أو قلت لكم هذا العام يا عمر؟
أقلت لكم هذا العام تحديداً؟
قال عمر: لا،
قال النبي عليه الصلاة والسلام: فإنك آتيه ومطوِّف به،
لكن سيدنا عمر لا يزال يغلي، اتفاق مهين، نحن أعزة و مسلمون، والنبي عليه الصلاة والسلام نبي مرسل، فلماذا هذا الاتفاق المهين؟ فذهب إلى سيدنا الصديق، وألقى عليه الأسئلة نفسها، قال: فأخذ أبو بكر بيدي، وجذبها في قوة، وقال لي: أيها الرجل إنه رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولن يعصيه، وإن الله ناصره، فاستمسك بغرزه، فو الله إنه على حق، فأنزل الله السكينة على قلبي، و علمت أنه الحق.
عملاق الإسلام عندما يتزلزل كان ملاذه الصديق، إذاً: هناك امتحانات صعبة، كبار الصحابة اهتزوا لها، لكن الصديق بقي ثابتا،
- أثناء رحلة الهجرة:
وهناك امتحان صعب آخر هزّ سيدنا الصديق، لكن النبي بقي ثابتاً، أين هذا؟ في الغار، فالنبي قمة المجتمع الإسلامي، قال له: لو نظر أحدهم إلى موطئ قدمه لرآنا،
قال: يا أبا بكر لا تحزن إن الله معنا،
ثقة النبي بنصر الله شيء لا يصدق، وهو على وشك أن يقضي عليه الكفار كما في ظاهر الأمر، وهناك شيء أدق من ذلك، عندما كان في الهجرة، ولحقه سراقة، والنبي مهدور الدم وملاحق، ومع ذلك
يقول له: يا سراقة كيف بك إذا لبست سواريْ كسرى؟
أي إنّ النبي سيصل إلى المدينة سالماً، و سينشئ دولة، وسيحارب الفرس، وسينتصر عليهم، وسيأتي بغنائم كسرى، وسوف يلبسها سراقة، وهذه ثقة النبي بنصر الله عز وجل.
- يوم وفاة الرسول:
لكن الموقف الذي لا ينسى، والذي عصم الله به المسلمين من الشتات يوم توفي النبي عليه الصلاة و السلام، أنا أعتقد أنه ما من أحد على وجه الأرض يحب النبي عليه الصلاة والسلام كما يحبه الصديق، ومع ذلك فإنّ هذا الخبر، خبر موت النبي عليه الصلاة و السلام لم يحتمله أحد من أصحاب رسول الله، فسيدنا عمر كذبه، وسيدنا الصديق كان في بعض شأنه في طرف المدينة يوم توفي النبي عليه الصلاة والسلام، سيدنا عمر حينما علِم بنبأ الوفاة، قال كلاماً اختل توازنه:
إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله مات، وإنه والله ما مات، ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، والله ليرجعنَّ رسول الله فليقطعنّ أيدي رجال زعموا أنه مات، ألا لا أسمع أحداً، من يقول: إنه مات إلا فلقت هامته بسيفي هذا،
هذا موقف سيدنا عمر، شيء غير معقول، أيموت رسول الله؟
أما سيدنا الصديق وهو في طريق العودة إلى مسجد النبي عليه الصلاة والسلام سمع النبأ في الطريق،
فقال: لا حول و لا قوة إلا بالله، ولم يكلم الناس، ودخل على النبي عليه السلام، وهو مسجى في ناحية البيت عليه بردة حبرة، فكشف عن وجهه، ثم قَبَّله، وقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، طبتَ حياً وميتاً، إن الموتة التي كتبها الله عليك قد متها.
ثم خرج وعمر يكلم الناس، فدعاه للسكوت فأبى أن يسكت، وتابع عمرُ كلامه،
فقال الصدِّيق: أيها الناس، فلما رأى الناس الصدِّيق يتكلم أنصتوا، وأقبل على الناس يكلمهم، فحمد الله، وأثنى عليه، فأنْ تحب إنساناً إلى درجة تفوق حدَّ الخيال، وتوحد الله إلى درجة تفوق حد الخيال، الجمع بين التوحيد وبين الحب، ليس أمرًا سهلاً، سيدنا الصديق وهو في أعلى درجات الحب ما غابت عنه حقائق التوحيد، قال أيها الناس: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، فهو واقعي وعاقل ومتماسك القلب والنفس، ومَن كان يعبد اللهَ فإن الله حي لا يموت، والأصل هو الله، الله حي لا يموت، ثم تلا هذه الآية: ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)
قال: فو الله لكأن الناس يسمعون هذه الآية أول مرة في حياتهم،
أما عمر فقد وقع على الأرض حين علم أن كلمات أبي بكر تؤكد أنه قد مات.
هذا الموقف الذي لا يُنسى لأبي بكر، وهو يجمع قمة التوحيد مع قمة الوفاء، فلذلك يجب أن توحدوا، وأن تكونوا أوفياء في الوقت نفسه، وإذا حملكم التوحيد على الجفوة، فليس هذا هو التوحيد الذي أراده الله، و إذا حملتكم المحبة و الوفاء على الشرك، فليست هذه المحبة التي أرادها الله عز وجل، اجعلوا من هذا الصحابي الجليل الصديق العظيم قدوة، كان في أعلى درجات الحب والوفاء للنبي، وفي أعلى درجات التوحيد، فما عبده من دون الله، ولا أشركه مع الله، لكنه أحبه حباً ما أحبه أحد من العالمين، لا تنس أن الله هو كل شيء.
فيجب أن تجمع بين الوفاء والتوحيد، و ألاّ يحملك الوفاء على الشرك، و ألا يحملك التوحيد على إنكار الجميل.