بحث

أبو بكر الصديق4 ورعه وحكمته في خلافته

أبو بكر الصديق4  ورعه وحكمته في خلافته

بسم الله الرحمن الرحيم

      أيها الإخوة: موضوع اليوم  الصحابي الجليل أبو بكر   

خطبة الخلافة  

      الصحابي الجليل أبو بكر الذي صار خليفة المسلمين  ألقى خطبة يسميها بعض المؤرخين "خطبة الخلافة " فلو دققنا في كلمات هذه الخطبة لوجدنا أنّه قرَّر فيها مبادئ تبهر العقل ، وتأخذ بالألباب ،   

      فأول كلمة قالها :   أيها الناس ، إني وليت عليكم و لست بخيركم ،  

انطلق مِن أنه واحد من المسلمين  

      انطلق مِن أنه واحد من المسلمين ، ليس فوق المسلمين بل هو واحد منهم ، انطلق من أن الخلافة ليست تشريفاً ولكنها تكليفاً ، ليس الخليفة أفضل من أي مسلم ولكنه أثقل المسلمين حملاً ، من هنا انطلق، والمؤمن هكذا أيها الأخوة ، المؤمن أَدَّبه ربه ، حينما سئل عليه الصلاة و السلام عن هذا الأدب الرفيع الذي  يتحلّى به منه،   

       فقال عليه الصلاة و السلام :  أدبني ربي فأحسن تأديبي .  

      أيها الإخوة الكرام : الإنسان حينما يرتفع شأنه ، قد يرتفع بماله ، وقد يرتفع بقوته ، وقد يرتفع بحسبه ، وقد يرتفع بوسامته ، وقد يرتفع بعلمه ، وقد يرتفع بذكائه ، وقد يرتفع بمقتنياته ، فالإنسان حينما يرتفع شأنه هل يتغير؟  سيدنا الصديق من هؤلاء القلة المعدودين على أصابع اليد ، حينما أصبحوا في قمة المجتمع الإسلامي ما تغيروا ، ولا تبدلوا ، ولا رأوا أنفسهم فوق المجتمع ، فلذلك هذه الخطبة تعني أنّ كل إنسان إذا كان لا شأن له ، أو مع عامة الناس ، أو في الدرجات الدنيا في المجتمع ، فقد يكون متواضعاً ، لأنه فعلاً من درجة دنيا ، فأنى له أن يتكبر ، لكنَّ مكارم الأخلاق تتبدَّى ، حينما يصعد الإنسان يبقى بافتقاره إلى الله عز وجل ويبقى بتواضعه ، ونتساءل : هل يبقى ثابتًا على عبوديته لله عز وجل ؟ أم هل يبدِّل هذا المنصب أخلاقَه ؟ وهل يجعله يقسو على أعدائه ؟ وهل يجعله يتيه على عباد الله ؟   

       أيّها الناس وُلِّيتُ عليكم ، ولستُ بخيركم ، وهي اللفتة الأولى ، ولذلك فالمؤمن ينطلق من أنه واحد من الناس ، إذا انطلقت من أنك واحد من الناس أحبك الناس ، التفوا حولك ، وأقبلوا عليك ، أما إذا انطلقتَ مِن أنك فوقهم ، فأنت شيء عظيم ، وهم لا شيء انفضّوا من حولك   

وضع أسس للدور الإيجابي للناس وهما التأييد والنصح  

      وأنتم أيها الناس لكم دور، هو دور إيجابي مع الخليفة ،   

      قال :    إن أحسنت فأعينوني ، و إن أسأت فقوموني ،  

التأييد والنصح طريقة نمو المجتمع الإسلامي   

      ما أروعها من كلمة لو طبقها المسلمون فيما بينهم ، فمثلاً لك أخ تفوَّق ، أفتعاديه ، وتحسده ، وتتمنى أن تزول هذه النعمة عنه ، فهذا هو النفاق ، لكن لك أخ تفوّق ، فإن كان على حق فعليك أن تدعّمه ، وإن كان على باطل فعليك أن تنصحه ، وليس هناك حل ثالث ، ليس هناك موقف ثالث  أخوك ، أستاذك ، أي إنسان ، إن كان على حق فعليك أن تعينه ، وإن زلّت قدمه ، أو ضل رأيه فعليك أن تنصحه ، وفي الحالتين لا ينبغي أن تعاديه ،  فأنت بين مؤيد وناصح ، فقط بهذه الطريقة ينمو المجتمع الإسلامي ، و يقوى ، ولا يتفتت   

فالحسد و الفضيحة هما من لوازم المنافقين  

       لكن ما الذي يحصل الآن ؟ أن الإنسان حينما يضعف إيمانُه بدَل النصيحة يفضح ، وبدل أن ينصح يشهر به ، و بدل أن يُعان يحسد ،  فالحسد و الفضيحة هما من لوازم المنافقين ، لكن المؤمن بين حالتين ، معين أو ناصح ، أخوك على حق عاونه ، أخطأ انصحه بينك و بينه ، هذا يؤكد إخلاصك و يؤكد إيمانك ، أما أن تحسد ، أما أن تتمنى أن تزول هذه النعمة عن أخيك ، أما أن تَفضح دون أن تَنصح ، تُشهِّر دون أن تسدي ؟ فهذا ليس من أخلاق المؤمنين ، قال : أما أنتم ،  إن أحسنت فأعينوني ، وإن أسأت فقوموني ،   

النصيحة أمانة  

      و كل إنسان  ولاه اللهُ منصبًا ينبغي أن يفهم من حوله أن النصيحة أمانة ، وأن ترك النصيحة خيانة للأمانة ، أن المعاونة أمانة و أن ترك المعاونة خيانة ، هكذا المجتمع المسلم ، ناصح أو معين ، إن أحسنت فأعينوني و إن أسأت فقوموني ،   

البديل عند المنافقين : الحسد إذا أحسن و الفضيحة إذا أساء ، مع الإساءة فضيحة و مع الإحسان حسد ، هذا مجتمع المنافقين ، لكن مجتمع المؤمنين إن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني ، ولست بخيركم ، بل أنا واحد منكم ، لست أفضل من أيِّ رجل منكم ، ولكني أثقلكم حملاً،   

القوة لصاحب الحق في مجتمع المؤمنين  

      ثم تناول رضي الله عنه القيم الثابتة ليؤكِّد أنها المبادئ التي يتبناها،   

      فقال :    ألا إن الضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له ،  

      بمجتمع الغاب الذي ينتصر هو القوي ، بمجتمع الحق الذي ينتصر هو صاحب الحق ، بمجتمع الغاب القوي هو الذي ينتصر، بمجتمع المؤمنين صاحب الحق هو الأقوى ، القوة للقوي في مجتمع الغاب، القوة لصاحب الحق في مجتمع المؤمنين ، قيَّم نفسَه ، وكلف مَن حوله بمهماتهم ، ثم بين أن هذا المجتمع تسوده قيم ثابتة ، تسوده نظم جاء بها عليه الصلاة والسلام،   

قصة جبلة بن الأيهم مع البدوي: تساوى الناس أحراراً لدينا وعبيداً  

      لكن جبلة بن الأيهم ملِكُ الغساسنة طاف حول الكعبة ، وكان قد قدِم إلى مكة مسلمًا ، وطاف إلى جانبه بدوي من فزارة ، فداس البدويُّ طرف إزاره ، فانخلع الإزار عن كتفه ، فالتفت إلى هذا البدوي ، و ضربه ضربة هشمت أنفه ، جاء البدوي إلى عمر بن الخطاب يشكو جبلة الملك ،   

      فسأله : هل صحيح ما ادّعى هذا الفزاري الجريح ؟   

      قال جبلة بعنجهية واستعلاء و كبر : لستُ ممن ينكر شيئًا ، أنا أدَّبتُ الفتى ، وأدركت حقي بيدي ،   

      قال له : أرضِ الفتى ، لا بد من إرضائه ، فما زال ظفرك عالق بدمائه ، أو ليهشمنَّ الآن أنفك ، وتنال ما فعَلَتْه كفُّك ،   

      قال: كيف ذلك يا أمير هو سوقة ، من عامة الناس ، وأنا عرش وتاج ؟ كيف ترضى أن يخِرَّ النجم أرضاً؟  

      قال : نزوات الجاهلية ، ورياح العنجهية قد دفناها ، وأقمنا فوقها صرحاً جديداً ، وتساوى الناس أحراراً لدينا وعبيداً ،   

      قال جبلة : كان وهماً ما جرى في خلدي أنني عندك أقوى و أعز ، أنا مرتد إذا أكرهتني ،   

      قال له : عنق المرتد بالسيف تحز ، عالم نبنيه ، كل صدع فيه بشبا السيف يداوَى ، وأعز الناس بالعبد بالصعلوك تساوى ،   

الخطوط التي يتمايز بها الناس في المجتمعات المؤمنة  

      واللهِ إن خطبة الخلافة لتُكتَب فيها مجلدات ، كلمات قليلة يمكن إلقاؤها في خمس دقائق، لكنه أعطى كل شيء حقه، وُلِّيتُ عليكم ولست بخيركم ،    لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى ،  رُبَّ أشعث أغبر ذي طريق مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره ،  إن أكرمكم عند الله أتقاكم ،  

      سيدنا أبو بكر رضي الله عنه لما رأى بلالا يُعذَّب ، وبلال يومئذٍ عبد ، وسيدنا الصديق كما نعلم في قمة المجتمع من أشراف قريش ، كان غنياً شريفاً حسيباً نسيباً ، وبلال عبد ، مّر عليه وهو يعذَّب مِن قِبَل سيده ، فنهاه الصدِّق ، قال له أمية بن خلف : إذا شئت فاشترهِ ، فقال له الصدِّيق : بكم تبيعه ، وبعد أن تساوما اشتراه ، قال: والله لو دفعتَ به درهماً لبعتكه ، فقال الصدِّيقُ : واللهِ لو طلبتَ مائة ألف لأعطيتكها ، فلما دفع ثمنه ، وأخذه من بين يدي سيده ، وضع يده تحت إبطه ، وقال : هذا أخي حقًّا، وأحب أن تنطلق من أن المؤمنين جميعاً مجتمع متساو ، والناس سواسية كأسنان المشط ، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى ، مطبقاً للكتاب والسنة،  

الخطوط التي يتمايز بها الناس في المجتمعات غير المؤمنة  

      هذه الخطوط التي يتمايز بها الناس في المجتمعات غير المؤمنة ، حظ المال ، وحظ العلم العصري، وحظ القوة، والمنصب، والجاه، والوسامة والذكاء، هذه لا شأن لها إطلاقاً في مجتمع المسلمين،  إن أكرمكم عند الله أتقاكم ، وانتهى الأمر.  

وضع أساس لطاعة الناس له ولعصيانهم   

      فلي عليكم الطاعة ، أما إذا خرجتُ عنها فلا طاعة لي عليكم ، والناسُ يسمّون هذا الخطاب في زماننا هذا خطابَ العرش ، يعني الملك يلقي خطاب العرش يبيِّن فيه مبادئ التعامل مع الرعية ،   

      قال الصدِّيقُ :   

       (( أيّها الناس إني وليت عليكم ولست بخيركم إن أسأت فقوموني ، ألا أن الضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له ألا وإن القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه ، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم ، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله )) ،   

      عشرون ثانية ، وكل شيء في هذا الخطاب ، أنا لا أبالغ أن هذا الخطاب الذي استغرق عشرين ثانية تُكتب عنه مجلدات ، فكل كلمة تشير إلى مبدأ،   

إنعكاسات هذه الخطبة على حياتنا  

      مثلاً أنت إذا كنت في دائرة حكومية؛ رئيس دائرة، عندك ثلاثة موظفين ، إن انطلقت من أنك إنسان مهيمن عليهم، وأنك أعلى منهم، وتحكّم فيهم، وتبتغي أن يتذللوا لك، فأنت جاهلي وعنصري، بل أنت واحد منهم، وأنت في خدمتهم، الله فوق الجميع سيراقبك وسيحاسبك ، سيعاملك كما تعاملهم،  البر لا يبلى، والذنب  لا ينسى، والديّان لا يموت ،  اعمل ما شئت، كما تدين تدان ، أنت مع أخيك، مع صديقك، مع قريبك، فإن ارتفع قريبُك تقول : لا بد من معاداته، وتحقيره، إنْ كنتَ كذلك فأنت جاهلي وعنصري ومنافق، لكنْ عليك أن تصدع بالحق، فإنْ صعد بالحق فساعدْه، وإنْ أخطأ فانصحْه وأرشدْه، واجعلوا هذا مبدأ لكم، أنت مع إخوانك، وأصدقائك، ومن هو أكبر منك، وأصغر منك، ليس لكم غير حالتين؛ فإنْ كان على حق فساعدْه، أخطأ تنصحه فقط بينك وبينه، والمنافق على العكس من ذلك، إن صعد بالحق يحسده، وإن غلط يفضحه .  

      وطن نفسك على الحق والصواب، واللهُ عز وجل حينما يراك تعين إخوانك، ولا تستعلي عليهم، وتأخذ بيدهم، أحبَّك ونصرك ووفّقك، أما إذا رأى ربنا عز وجل أن عباده متحاسدين، متباغضين كان عليهم لا لهم.  

      محبتك لإخوانك دليل إيمانك، معاونتك لهم دليل إيمانك، فأن تنصحهم نصيحة مخلصة بينك وبينهم هذا دليل إيمانك، أما أن تفضحهم، وأن تشهر بهم، وأن تحسدهم، وأن تتمنى زوال النعمة عنهم، فقد وضعت نفسك حينئذٍ في خندق المنافقين وأنت لا تدري، وأنت لا تشعر.  

      أُلِحُّ على هذا؛ لأني أرى بعض التحاسد بين المؤمنين، أرى بعض التشهير، أنت بين ناصح وبين معاون، معاون أو ناصح. لك أخ حوله مشكلة أذهب إليه، يقال عنك كذا وكذا، فهل هذا صحيح، إن كان صحيحًا فانصحْه : يا رجل هذا خلاف الشرع، وإن كان غير صحيح فقل له : أرحتَ قلبي، والحمد لله.   

          فأبو بكر إنسان يصل إلى قمة المجتمع، ويدعو الناس أن يحاسبوه إن أساء، يقوِّموه  إن اعوجَّ، وإن أحسن فليعينوه، يؤكد لهم أنه ليس فوقهم، هو واحد منهم، يكلفهم أن يراقبوه، فإن عصى فلا طاعة له عليهم، ما هذا ؟ هذا شيء غير مألوف بحياتنا اليوم.  

لا حاجة لي في إمارتكم - لا ترشيح للحكم  

       لذلك  فهذا الصحابي الجليل قال يومًا :  واللهِ ما كنت حريصاً على الإمارة يوماً، ولا ليلة، ولا سألتها اللهَ لا في سر، ولا في علانية،  

       والنبي عليه الصلاة والسلام يقول : "طالب الولاية لا يولَّى "  

      في بعض البلاد الديمقراطية يدفع المرشح أحياناً مائة مليون دولار حتى يرشح ، إذاً هو طالب ولاية، وطالب الولاية لا يولى ، قال : والله ما كنت حريصاً على الولاية يوماً ، ولا ليلة ، ولا سألتها الله لا في سر ، ولا في علانية .  

قصة1: عدم رغبته بالإمارة  

      ذات يوم دخل عليه عمر رضي الله عنه ، ليزوره ، فألفاه يبكي ، وما كاد عمر يبصر أمامه الصديق يبكي حتى تشبث به وكأنه زورق نجاة،   

      قال له :  يا عمر لا حاجة لي في إمارتكم ، لا يريد ، لقد عُلِّقتْ بي تعليقاً ، وأُرغِمتُ عليها .  

لكن عمر رضي الله عنه قال :  إلى أين المفر والله لا نقيلك ، ولا نستقيلك ، أنت أرحمُنا ، وأنت أعلمنا و أنت أقربنا ، وأنت أفضلنا  

      إخواننا الكرام : المؤمن ، أرجو أنْ تصدقوني فيما أقول فهو كلام دقيق ، المؤمن إذا وصل إلى الله فهو حقًّا سعيد ، وهذه السعادة التي عاشها بعد أن وصل إلى الله لا تقدَّر بأثمان مهما بلغت ، واللهِ هو أكبر مِن كل شيء في الدنيا ، وكما يبدو فسيدنا الصديق اطمأنت نفسه لمعرفة الله ، والإقبال عليه ، فهذه الخلافة لا تقدم ولا تؤخر.   

قصة2: تنازله عن الحكم لمن يريده  

      ذات مرة طلب رجل حاجة من سيدنا الصديق ، فأراد الصديق أن يأخذ رأي عمر وكان قاضياً،   

      قال للرجل :  اذهب إلى عمر ،   

      سيدنا عمر رفض الموضوع كلياً و بتَّ فيه بشكل نهائي ، فوقع هذا الشخص في حنق، وعندما جاء الصديق   

      قال له : أأنت الخليفة أم هو ؟ عمر تصرف ورفض نهائياً، أنت طلبت منه أن يعطيك رأيه، لكنه تصرف وأعطى القرار،   

قال :  هو إذا شاء ، لا فرق بيننا ،   

قصة3: ولاءه للحق  

      تروي كتب السيرة أن السيدة فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والعباس عمُّ رسول الله ذهبا إليه ، إلى سيدنا الصديق ، يسألانه حقهما في قطعة أرض صغيرة ، كان النبي صلى الله عليه و سلم قد أصابها في بعض الفيء وكان عليه الصلاة و السلام يعطي السيدة فاطمة و بعض أهله جزءاً من نتاجها ثم يقسم الباقي بين فقراء الصحابة ، يعني النبي ماله من الفيء شيء ،   

      فلما توفي النبي عليه الصلاة والسلام جاءت السيدة فاطمة وسيدنا العباس إلى سيدنا الصديق يسألانه هذه الأرض،   

      فقال لها وللعباس : سَمِعْتُ    رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّا مَعْشَرَ الأَنْبِيَاءِ لا نُورَثُ مَا تَرَكْتُ بَعْدَ مَئُونَةِ عَامِلِي وَنَفَقَةِ نِسَائِي صَدَقَةٌ *  

       وإني والله لا أدع أمراً رأيت رسول الله عليه الصلاة  والسلام يصنعه إلا صنعته ، فإني أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ .  

      سيدنا الصديق بالمناسبة ما من مخلوق على وجه الأرض أحب إليه من رسول الله وهذه ابنته بضعةٌ منه ، وجاءت ابنته تسأله هذه الأرض لأنها  لأبيها وقد سمع الصديق من رسول الله عليه الصلاة والسلام ، أن النبي لا يورث ما تركه صدقةً ، فالولاء لمن ؟ للحق أم للأشخاص ؟ إنْ كان للأشخاص فهذه ابنته أحبُّ الناس إليه على الإطلاق ، تريد أخذَ بعض ريعها ، أما إذا كان الولاء للحق ، فالحق الذي جاء به النبي يؤكد أن النبي لا يورث ، ولكن من أجل أن يطمئنها وأن يقنعها ، وأن يجعلها ترتاح لهذا التوجيه، جمع كبار الصحابة ، أي طلب عمر رضي الله عنه وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسألهم أمامها   

       ناشدتكم الله نشدتكم بالذي تقوم السماء والأرض بأمره ، ألم تعلموا أن  رسول الله عليه الصلاة  والسلام قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّا مَعْشَرَ الأَنْبِيَاءِ لا نُورَثُ مَا تَرَكْتُ بَعْدَ مَئُونَةِ عَامِلِي وَنَفَقَةِ نِسَائِي صَدَقَةٌ *  

      فقدْ ظن لعلها لم تسمع كلام أبيها ، فجاءت تطلب حقها ، لكنه سمع من رسول الله عليه الصلاة والسلام أن الأنبياء لا يورثون ، ما تركوه صدقة ، فمِن أجل أن تقتنع ، ومن أجل أن تكون طيبة القلب ، مرتاحة ، جمع الصحابة الكرام ، وناشدهم ربهم : هل سمعتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:    إِنَّا مَعْشَرَ الأَنْبِيَاءِ لا نُورَثُ مَا تَرَكْتُ بَعْدَ مَئُونَةِ عَامِلِي وَنَفَقَةِ نِسَائِي صَدَقَةٌ *  

      سمعت من ، سيدنا عمر ، سيدنا طلحة ، سيدنا الزبير ، سيدنا سعد ، سيدنا ابن عوف ،   

      سألهم أمامها وأقروا أنهم سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا القول ،   

قالت :  إنك تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وهبها لي في حياته ، فهي إذاً لي بحق الهبة لا بحق الإرث       

فقال أبو بكر :  أجل أعلم ، لكني رأيته يقسمها بين الفقراء والمساكين وابن السبيل بعد أن يعطيكم منها ما يكفيكم ، وإذاً فقد أراد أن يكون فيها حق دائم للفقراء ، فهي وقف ، فعلُهُ يؤكِّد أن هذه الأرض وقف لفقراء المسلمين والمساكين ، كان يعطيكم منها بعض حاجتكم ، ويعطي الباقي لفقراء المسلمين .  

      فقالت فاطمة رضي الله عنها :  دعها إذاً في أيدينا ونحن نجري فيها على ما كانت تجري عليه وهي في يد رسول الله ، لا بأس، هي وقف اجعلها في أيدينا ونحن نعطي الفقراء الذين كانوا يأخذون من ريعها،   

      قال أبو بكر :  لست أرى ذلك فأنا أمير المؤمنين من بعد رسولهم وأنا أحق بذلك منكما أضعها في الموقع الذي كان رسول الله يضعها فيه .  

      هذه القصة مفادها أن الولاء لله وحده ، وأن الولاء للحق الذي جاء به النبي ، وأن الولاء لهذه الشريعة السمحاء ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم مشرع ، فإذا قال : كذا وكذا فكلامه شرع ، ومع أن الصديق عليه رضوان الله كان في أعلى درجات الحب لرسول الله ، لكن يبقى الولاء لله عز وجل .  

قصة4: لا تجاوزات إدارية  

      سيدنا الصديق كان خليفة المسلمين ، وأرسل سيدنا أسامة بن زيد قائداً لا تزيد سنه عن سبعة عشر عاماً ، وهذا الجيش الذي يقوده أسامة بن زيد فيه جنود كسيدنا عمر ، سيدنا عثمان ، سيدنا علي ، كبار الصحابة ، أعلام الصحابة ، قمم الصحابة ، كانوا جنوداً تحت إمرة سيدنا أسامة بن زيد ، حسناً ، أراد الصديق رضي الله عنه أن يستبقي في المدينة سيدنا عمر ، هذا من حقه هو مستشاره الأول ، أليس بإمكانه أن يقول له : يا عمر ابقَ معي ، لو فعل هذا فهل هناك خطأ ؟.  

      لكن هناك جيش على رأسه قائد هو أسامة بن زيد ، صغير السن ، سنه سبعة عشر عاماً ، الجنود الذين تحت إمرة هذا القائد الشاب منهم سيدنا عمر ، سيدنا عثمان ، سيدنا علي ، هؤلاء كبار الصحابة ، العمالقة ، القمم ، أليس من حقه أن يستبقي عمر ليكون مستشاره ، وأمين سره ، حسناً ، هذا من حقه ، كيف يتصرف ؟ يقول : يا عمر ابقَ إلى جانبي ، ولكن لو فعل ذلك لتجاوز إمارة أسامة ، عمر الآن جندي تحت إمرة أسامة فلو استبقاه إلى جانبه ولم يستأذن أسامة وتجاوزه وضعضع سلطته  وضعضع مكانته ، اسمعوا أيها الإخوة ماذا قال الصديق رضي الله عنه ، خرج الصديق يودِّع أسامة بن زيد ، وكان بين جنود هذا الجيش عمر بن الخطاب ، وكان أبو بكر حريصًا على أن يبقى عمر بجواره ، ولقد كان يستطيع كخليفة للمسلمين أن يستبقيه بقرار ينفرد بإصداره ، ولكنه يعلم أن في هذا التصرف تجاوزاً  لموظف مسؤول يجب أن توفر له الضمانات التي تمكنه من أداء واجبه ، و أولى هذه الضمانات : ألاَّ تنتقص هيبته و سلطته ، فماذا فعل ؟ اقترب الخليفة العظيم سيدنا الصديق من قائد الجيش أسامة   

      و قال له في همس و رجاء:  إذا رأيت أن تترك لي عمر بن الخطاب فإني أجد في بقائه معي خيراً و نفعاً ، هذا درس بليغ ، مستشفى لها مدير و هناك أطباء و أنت أعلى من مدير المستشفى فلا ينبغي أن تطلب طبيبًا مباشرة ، بل لا بد أن تستأذن مدير المستشفى ، أنت مدير تربية ، وهناك مدير ثانوية ، وهذا مدرس عند هذا المدير ، وأنت بحاجة لهذا المدرس فلا ينبغي أن تقول له تعال إلي ، هناك مدير يجب أن تستأذن مديره ، هناك تسلسل ، تعبير إداري لا بد من مراعاة التسلسل ، خليفة عظيم يهمس في أذن شاب صغير عينه النبي قائداً للجيش يهمس في رجاء أن يستبقي عمر .  

      يقول كتاب السيرة : إن أبا بكر لم يفعل ذلك مجاملة و لا تواضعاً ، إنما فعله واجباً ، و لو قال أسامة ساعتئذ لا ما وسع الخليفة إلا أن يقبل هذا الرفض .  

قصة5: تعويض تفرغ  

      وهذا موقف ثانٍ : سيدنا الصديق تسلم منصب الخلافة و في أول يوم من خلافته يضع على كتفيه لفافة كبيرة من الثياب ليبيعها في السوق ، ما هذا؟   

      رآه عمر رضي الله عنه و أبو عبيدة فوقفا يسألانه :  إلى أين يا خليفة رسول الله ؟   

      قال :  إلى السوق ،   

      قالا :  لماذا و قد وليت أمر المسلمين ،   

      قال :  فمن أين أطعم أولادي ؟ نريد أن نأكل ،   

      قال عمر :  انطلق معنا نفرض لك شيئاً من بيت المال  ، صحبهما الخليفة إلى المسجد حيث نودي أصحاب رسول الله ، وعرض عليهم عمر رأيه في أن يفرض للخليفة بدل تفرغ ، أنت خليفة ومكلف برعاية شؤون المسلمين فهل من المعقول أن تبيع أقمشة بالطريق من أجل أن تأكل أنت و أولادك ؟ صدقوني ليس هذا تمثيلاً ، أحياناً يكون هناك تمثيلٌ ، هذه حقيقة .  

قصة6: رفضه لأن يأكل من مال خِداع وهو لا يعلم  

       كان لهذا الصحابي الجليل غلام جاءه بطعام فأكل منه ، ولما فرغ من أكله   

      قال له الغلام : أتدري ما هذا يا خليفة رسول الله ؟   

      قال أبو بكر :  ما هذا ؟   

      قال إني كنت قد تكهنت لرجل في الجاهلية ، وما أحسُن الكهانة إلا أني خدعته ، وقد لقيني اليوم فأعطاني مالاً ، فهذا الذي أكلت منه من هذا المال ،   

      قال : فأدخل الصديق يده في فمه حتى قاء كل شيء في جوفه ، ويضيف صاحب كتاب الصفوة أنه قيل لأبي بكر رضي الله عنه : يرحمك الله أكلُّ هذا من أجل لقمة واحدة ؟   

      فقال :  و اللهِ لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها .  

      هنا مسألة مهمة جداً لا بد من ذِكرها ؛ هل هذا حكم شرعي ؟ أم موقف شخصي ؟ هذا موقف شخصي ، أي إذا أكل الإنسان طعاماً ، ثم عرف بعد ذلك أن الطعام فيه شبهة ، فهل هو مكلف أن يغسل معدته ، أفيذهب إلى المستشفى إسعافاً ، ويجري غسيلَ معدة ؟ هذا ورع من سيدنا الصديق ، وموقف شخصي ، وليس حكماً شرعياً .  

قصة7: إرجاعه للأموال التي أخذها كتعويض تفرغ عندما توفر المال لديه  

      بعد أن جاءه الفيء من الفتوح ردّ كل المال الذي أخذه إلى بيت مال المسلمين حيث أخذه،   

      وقال لها :  انظري ما زاد في مال أبي بكر منذ أن ولي هذا الأمر فردِّيه على المسلمين ، أوصى ابنته، أيُّ شيء أخذته من بيت المال رديه عليه بعد أن أغناني الله تعالى من الفيء والغنائم .  

      هذه نماذج من مواقف هذا الصحابي الجليل الذي كان قمة في الدقة، وبُعْد الفهم و الشجاعة، وفي حسن سياسة الأمور. فقد كان سيدنا عمر كان يقول دائماً :  يرحم الله أبا بكر ، لقد أتعب الذين جاءوا بعده  



المصدر: السيرة - سيرة الخلفاء الرشدين - سيدنا أبو بكر الصديق - الدرس (4-5) : ورعه وحكمته في الخلافة