حينما يشعر الإنسان بالإحباط يتجه إلى الماضي ليعوض ما فقده في الحاضر:
أيها الأخوة الكرام، لا أعتقد أن هناك مصيبة تصيب الأمة كأن يهتز المثل الأعلى فيها،
الإمام أبو حنيفة ـ رضي الله عنه ـ رأى غلاماً صغيراً أمامه حفرة، فقال له: إياك يا غلام أن تسقط، فقال هذا الغلام: بل إياك يا إمام أن تسقط، إني إن سقطتُ سَقطتُ وحدي، وإنك إن سقطتَ سقطَ معك العالم.
أيها الأخوة الكرام، حينما يشعر الإنسان بالإحباط، وحينما يفقد المثل الأعلى، يتجه إلى الماضي ليعوض ما فقده في الحاضر، حدثنا عن عالم جليل من علماء السلف كيف تعامل مع القضايا العامة، إنه العز بن عبد السلام .
هذا الإمام كان في غاية البطولة، وهذه المواقف التي وقفها لولا أنها مسطرة في الكتب، وتواتر نقلها، لقلنا: إنها من نسخ الخيال، لكنها مكتوبة ومتواترة، والذين كتبوها علماء أجلاء، عاصروه، وعاشروه، وعاشوا معه.
موقف العز بن عبد السلام من إنسان تعاون مع العدو ليمنع عن أخوته المؤمنين ما يمنع:
عندما كان العز بن عبد السلام في دمشق، وكان الحاكم رجلاً يقال له: الملك الصالح إسماعيل، من بني أيوب، فولى العز بن عبد السلام خَطابة الجامع الأموي، وبعد هذه الفترة قام هذا الملك بالتحالف مع أعداء المسلمين، فحالفهم، وسلم لهم بعض الحصون، كقلعة الشقيف وصفد، وبعض المدن، من أجل أن يستعين بهم على قتال الملك الصالح أيوب في مصر،
تعاون مع أعداء المسلمين ليقوى بهم فينتصر على المسلمين، إنه مسلم يستعين بغير مسلم على قتال مسلم! أرأيت إلى التاريخ كيف يعيد نفسه، فلما رأى العز بن عبد السلام هذا الموقف الموالي لأعداء المسلمين لم يصبر، فصعد المنبر، وتكلم، وأنكر، وقالها صريحةً، وقطع الدعاء، وختم الخطبة بقوله: اللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رشداً، تعز به وليك، وتذل فيه عدوك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر
ثم نزل، وعرف الأمير الملك الصالح أنه يريده، فغضب عليه غضباً شديداً، وأمر بإبعاده عن الخطابة، وسجنه، وبعدما حصل الهرج والمرج، واضطرب أمر الناس أخرجه من السجن، ومنعه من الخطبة.
وخرج العز بن عبد السلام من دمشق مغضباً إلى جهة بيت المقدس، وصادف أن خرج الملك الصالح إسماعيل إلى تلك الجهة أيضاً، والتقى بأمراء الأعداء من بيت المقدس، فأرسل رجلاً من بطانته،
وقال له: اذهب إلى العز بن عبد السلام، ولاطفه، ولاينه بالكلام الحسن، واطلب منه أن يأتي إلي، ويعتذر مني، ويعود إلى ما كان عليه، فذهب الرجل إلى العز بن عبد السلام
وقال له: ليس بينك وبين أن تعود إلى الخطابة وأعمالك وزيادة على ذلك، إلا أن تأتـي وتُقبّل يد السلطان لا غير، فضحك العز بن عبد السلام ،
وقال: يا مسكين، والله ما أرضى أن يقبل الملك يدي فضلاً عن أن أقبل يده، يا قوم أنا في واد، وأنتم في واد آخر، الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به. هذا موقف،
قال له: إذاً نسجنك؟
قال: افعلوا ما بدا لكم، فأخذوه، وسجنوه في خيمة، فكان يقرأ فيها القرآن ويتعبد،
هذا موقف وقفه العز بن عبد السلام من إنسان تعاون مع العدو ليمنع عن أخوته المؤمنين ما يمنع.
خروج العز بن عبد السلام إلى مصر بعد الإفراج عنه:
أيها الأخوة، وكان الملك الصالح إسماعيل قد عقد اجتماعاً مع بعض زعماء أعداء المسلمين، وكان اجتماعهم قريباً من العز بن عبد السلام، حيث يسمعون قراءته للقرآن،
فقال: هل تسمعون هذا الذي يقرأ؟
قالوا: نعم،
فقال متفاخراً: هذا هو أكبر علماء المسلمين سجناه لأنه اعترض علينا في محالفتنا لكم، وتسليمنا لكم بعض الحصون، والقلاع، واتفاقنا معكم على قتال المصريين،
فقال له ملوك الأعداء: لو كان عندنا رجل بهذا الإخلاص للأمة، وبهذه القوة، وبهذه الشجاعة، لكنا نغسل رجليه، ولشربنا الماء الذي غسلنا به رجليه،
فأصيب الملك بالخيبة والذل، وكانت بداية هزيمته وفشله، وجاءت جند المصريين، وانتصروا عليه وعلى من كانوا متحالفين معه، وأُفرج عن الإمام العز بن عبد السلام، وذهب إلى مصر.
خرج العز بن عبد السلام إلى مصر، واستقبله نجم الدين أيوب، وأحسن استقباله، وجعله في مناصب ومسؤوليات كبيرة في الدولة،
وكان المتوقع أن يقول العز بن عبد السلام: هذه مناصب توليتها، ومن المصلحة أن أحافظ عليها حفاظاً على مصالح المسلمين، وألا أعكر ما بيني وبين هذا الحاكم، خاصةً أن أيوب الملك الصالح مع أنه رجل عفيف وشريف إلا أنه كان جباراً شديد الهيبة، حتى إنه ما كان أحد يستطيع أن يتكلم في حضرته، ولا أن يشفع لأحد عنده، ولا يتكلم أمامه إلا جواباً لسؤال، حتى إن بعض الأمراء في مجلسه يقولون: والله إننا دائماً نقول: ونحن في مجلس الملك الصالح لن نخرج من هذا المجلس إلا إلى السجن، فهو رجل جبار مهيب، وإذا سجن إنساناً نسيه، ولا يستطيع أحد أن يكلمه فيه، أو يذكره به، وكان له عظمة وأبهة، وخوف وذعر في نفوس الناس، سواء الخاصة منهم والعامة، فماذا كان موقف العز بن عبد السلام؟
في يوم العيد خرج موكب السلطان يجوب شوارع القاهرة، والناس مصطفون على جوانب الطريق، والسيوف مسلطة، والأمراء يقبلون الأرض بين يدي السلطان هيبةً وأبهةً، وهنا وقف العز بن عبد السلام،
وقال: يا أيوب، هكذا باسمه مجرداً من أي لقب، فالتفت أيوب الحاكم الجبار القوي ليرى من هذا الذي يخاطبه باسمه الصريح، وبلا مقدمات، وبلا ألقاب،
ثم قال له العز بن عبد السلام: ما حجتك عند الله عز وجل غداً إذا قال لك: ألم أبوئك ملك مصر، فأبحت الخمور؟
فقال السلطان: أو يحدث هذا في مصر؟
قال: نعم، في مكان كذا وكذا حانة يباع فيها الخمر، وغيرها من المنكرات، وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة،
فقال: يا سيدي أنا ما فعلت، إنما هو من عهد أبي،
فهز العز بن عبد السلام رأسه، وقال: إذاً أنت من الذين يقولون: إنا وجدنا آباءنا على أمة،
فقال: لا، أعوذ بالله، وأصدر أمراً بإبطالها فوراً، ومنع بيع الخمور في مصر.
أحد طلابه سأله: يا سيدي ماذا فعلت مع السلطان وهو في أبهته وعظمته؟
فقال: رأيته في أبهة وعظمة فخشيت أن تكبر عليه نفسه فتؤذيه، أردت أن أعرفه قدرها،
وسأله آخر: كيف واجهت السلطان؟
قال: يا بني استحضرت عظمة الله عز وجل وهيبته فلم أرَ أمامي أحداً.
من أهم جوانب قوة العز بن عبد السلام أنه كان أكبر من المنصب ومن الألقاب:
هذا الموقف، موقف آخر يعد من أعجب مواقفه رحمه الله، فقد كان المماليك هم الذين يحكمون مصر في عصر العز بن عبد السلام، فالحكومة الحقيقية كانت في أيديهم، فقد كان نائب السلطنة مملوكياً، وكذلك أمراء الجيش، والمسؤولون كلهم مماليك في الأصل، وفيهم من لم يثبت تحرره من الرق، وكان العز بن عبد السلام كبير القضاة في مصر، فكان كلما جاءته رقعة فيها بيع، أو شراء، أو نكاح، أو شيء آخر من هؤلاء المماليك الذين لم يحرروا بعد، أبطلها،
وقال: هذا عبد مملوك ولو كان أميراً وكبيراً، إذ لابد أن يباع، ويحرر، بعد ذلك يصحح بيعهم وشراؤهم، أما الآن فهم عبيد،
فغضب المماليك من هذا الإمام، وجاؤوا إليه، وقالوا: ما تصنع بنا؟
قال: رددنا بيعكم،
فغضبوا أشد الغضب، ورفعوا أمره إلى السلطان، فقال: هذا أمر لا يعنيه،
فلما سمع العز بن عبد السلام هذه الكلمة قام، وعزل نفسه من القضاء.
لقد كان من أهم جوانب قوة العز بن عبد السلام أنه كان أكبر من المنصب، وأكبر من الوظيفة، وأكبر من الأسماء، وأكبر من الألقاب، لذلك ما كان يتطلع إليها، أو يستمد قوته منها، إنما يستمد قوته من إيمانه بالله، ومن وقفته إلى جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصدع بكلمة الحق، ثم من الأمة من أعطته ثقتها.
من هاب الله هابه كل شيء ومن لم يهب الله أهابه الله من كل شيء:
لذلك أصبح العز بن عبد السلام في حياتهم وفي قلوبهم، هو تاج الزمان، ودرته، وأصبح هو أعظم عالم وداعية وإمام في العالم الإسلامي في وقته، فلذلك عزل نفسه عن القضاء، إذ كل أمور المسلمين تدخل تحت تصرف القاضي، وهو لا يحكم فيها إلا بحكم الله ورسوله،
ثم قام العز بتصرف آخر مشابه، وهو أنه جمع متاعه، وأثاث بيته، واشترى دابتين، وضع متاعه على واحدة، وأركب زوجته وطفله على واحدة، ومشى بهذا الموكب البسيط المتواضع يريد أن يخرج من مصر، ويرجع إلى بلده الشام، ولكن الأمة كلها خرجت وراء العز بن عبد السلام، حتى ذكر المؤرخون أنه خرج وراءه العلماء والصالحون والعبّاد والرجال والنساء والأطفال، حتى الذين لا يؤبه لهم، هكذا تقول الرواية، أي عامة الناس خرجوا وراء العز بن عبد السلام في موكب مهيب رهيب، ثم ذهب بعض الناس إلى السلطان، وقالوا له:
من بقي لك تحكمه إذا خرج العز بن عبد السلام؟
وخرجت الأمة كلها وراءه وما بقي لك أحد؟ متى راح هؤلاء ذهب ملكك،
فأسرع الملك الصالح أيوب للعز، وركض يدرك هذا الموكب، ويسترضيه، ويقول له: ارجع، و لك ما تريد،
قال: لا أرجع أبداً إلا إذا وافقتني على ما طلبت من بيع هؤلاء المماليك،
قال: لك ما تريد، افعل ما تشاء.
رجع العز بن عبد السلام، وبدأ المماليك يحاولون استرضاءه إذ كيف يباعون بالمزاد العلني، وهم أمراء، فأرسل إليه نائب السلطنة، وكان من المماليك فاستجلبه بالملاطفة فلم يجد معه هذا الأسلوب، فاقترح بعضهم قتل العز بن عبد السلام، فذهب نائبه، ومعه مجموعة من الأمراء، ثم طرق باب العز بن عبد السلام، وكانت سيوفهم مسلطةً يريدون أن يقتلوه، فخرج ولد العز بن عبد السلام ، واسمه عبد اللطيف، فرأى موقفاً مخيفاً، فرجع إلى والده،
وقال: يا والدي انجُ بنفسك، الموت الموت،
قال: ما الخبر؟
قال: كيت وكيت،
فقال العز بن عبد السلام لولده: يا ولدي والله إن أباك لأحقر وأقل من أن يقتل في سبيل الله،
أي هل تصح لي هذه؟ أتمنى،
ثم خرج مسرعاً إلى نائب السلطنة، فلما رآه نائب السلطنة يبست أطرافه، وتجمد، وأصابته حالة من الذعر والرعب، وأصبح يضطرب، وسقط السيف من يده، واصفر وجهه، وسكت قليلاً، ثم بكى،
قال: يا سيدي ماذا تفعل؟
فقال العز: أنادي عليكم، وأبيعكم في المزاد،
قال: تقبض الثمن؟
قال: نعم،
قال: أين تضعه؟
قال: في مصالح المسلمين العامة،
فطلب منه الدعاء، وبكى بين يديه، وانصرف، وفعلاً فعلها العز بن عبد السلام رحمه الله، وجمع هؤلاء، وأعلن عنهم، وبدأ يبيعهم، وكان لا يبيع الواحد منهم إلا بعدما يوصله إلى أعلى الأسعار، إنما يريد أن يزيل ما في نفوسهم من كبرياء، فكان ينادي على الواحد بالمزاد العلني، وقد حكم مجموعة من العلماء والمؤرخين أن هذه الواقعة لم يحدث لها مثيل في تاريخ البشرية.
من هاب الله هابه كل شيء، ومن لم يهب الله أهابه الله من كل شيء.
طاعة الله عز وجل والزهد في الدنيا أساس الفلاح و النجاح:
من مواقفه أيضاً أن بعض تلامذته أتوه في يوم من الأيام فقالوا: إنه في مكان كذا قام فلان ـ أمير كبير في دولة المماليك يدعى فخر الدين ـ ببناء طبلخانة، أي مكان للغناء، والرقص، والموسيقا، كان هذا المكان بقرب أحد المساجد، و عندما تأكد العز بن عبد السلام من صحة هذا الخبر جمع أولاده وبعض تلامذته، و ذهب إلى المكان وفعل ما فعل.
أيها الأخوة الكرام، على كلٍّ القضية تاريخية محضة، وأنا نقلتكم إلى التاريخ كما نقلتكم مرة إلى سيدنا عمر، وكما نقلتكم إلى سيدنا صلاح الدين الأيوبي الذي فتح القدس، وكيف صعد الخطيب المنبر، وقال الخطبة الشهيرة التي تهتز لها الرمال البيض، على كل هؤلاء مثل عليا، هكذا كان الدين عظيماً وكان رجاله أشداء وكانت لهم الكلمة الأولى، والأخيرة، والبطولة يمكن أن تكون في كل زمان.
أيها الأخوة، الأصل طاعة الله عز وجل والزهد في الدنيا،
فلما سئل الإمام الحسن البصري:بمَ نلت هذا المقام؟ قال: باستغنائي عن دنيا الناس، و حاجتهم إلى علمي،
فكيف إذا كان العكس إذا استغنى الناس عن علم العالم، و احتاج العالم إلى دنياهم، عندئذ سقطت مكانته و هيبته، و أصبح بوقاً ينفخ فيه كما يشاء الذي ينفخ.
هذه نبذة عن مواقف هذا العالم الجليل، حدثت حالة في دمشق أن أسعار البساتين انخفضت انخفاضاً شديداً، حتى أصبحت هذه البساتين تباع بأسعار زهيدة، فجاءت زوجة العز له، و قد جمعت مصاغاً لها، وأعطته لزوجها، وقالت له: اشتر لنا بستاناً نصطاف فيه، فأخذ العز الحلي والمصاغ، وباعه، ثم وجد الناس محتاجين فتصدق به، ثم رجع إلى البيت
فقالت له زوجته: هل اشتريت لنا بستاناً؟
قال: نعم اشتريت لك بستاناً، ولكن في الجنة، فقد رأيت الناس محتاجين،
تصور الآن زوجة تعطي زوجها مالاً ليشتري لها بيتاً في المصيف، ثم يدفعه صدقة وينام مرتاح البال ليلتها؟
قالت له: جزاك الله خيراً،
هكذا كانت امرأته.
امتثال الناس لأوامر العز بن عبد السلام لهيبته و دفاعه عن دينه:
لما أراد حاكم مصر أن يقاتل التتار رأى أن أموال خزينته لا تكفي، ورأى أن يأخذ أموالاً من الناس فجمع العلماء، و قال لهم: ما رأيكم نريد أن نأخذ من الناس أموالاً نستعين بها في تجهيز الجيش و السلاح، و دفع رواتب الجند، و ما أشبه ذلك من المصالح التي لابد منها، ونحن نواجه عدواً اجتاح بلاد العراق والشام، ووصل إلينا، ولا يوجد في الخزينة ما يكفي،
فقال له العز بن عبد السلام: إذا أحضرت ما عندك وعند حريمك، وأحضر الأمراء ما عندهم من الحلي الحرام وضربته سكة ونقداً، وفرقته في الجيش، و لم يقم بكفايتهم في ذلك عندئذ نطلب القرض من الناس،
وكان الشيخ له عظمة عندهم وهيبة حيث لا يستطيعون مخالفته، وامتثلوا أمره، وانتصروا.
في التاريخ الإسلامي، أيها الأخوة، مثل عليا فلا أقل من أن نترسم خطاها، وقد يكون هذا في كل مكان وزمان، ومن فضل لله عز وجل أنه لا بد في الأمة من علماء صادقين مخلصين، علماء ربانيين، هؤلاء يدافعون عن هذا الدين.
أيها الأخوة، غضب عليه بعض الحكام فعزله، وكان مفتي مصر هو الإمام عبد العظيم المنذري، فلما جاء العز بن عبد السلام قال الإمام المنذري: كنت أفتي، ولم يكن الإمام العز موجوداً، أما الآن فإن منصب الإفتاء له، ولا أتمسك به،
و لم يرَ أن هذا الإنسان نافسه، وخطف الأضواء منه، و لم يكن هناك عداوة حرفة بينهم، بل كان التعاون كبيراً.
أيها الأخوة الكرام، الحديث عن هذا العالم الجليل يبدو غريباً لكن الله سبحانه وتعالى يؤيد بنصره من يشاء.