بحث

الحق والباطل

الحق والباطل

بسم الله الرحمن الرحيم

     في الحياة، وفي اللغة ما يسمى الاثنينية، حق وباطل، خير وشر،  قال تعالى: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ﴾ ، و قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً﴾ ، فالحق نقيض الباطل، وفي آية أخرى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ﴾ ، فالحق نقيض اللعب، اللعب العبث، والباطل الزوال، الشيء الباطل الزائل، وقد قال الله عز وجل: ﴿إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً﴾ ، الباطل إلى زوال، مهما بدا لك كبيراً، ولو له قلاع كبيرة، لابد من أن يتداعى، الحق نقيض الباطل، فلذلك تعريف الحق: الشيء الثابت والهادف، فمن صفات الحق الثبات. لذلك المؤمن فمهما امتد به العمر لا تزيده الأيام إلا ثباتاً، ورسوخاً، وإيماناً بمبدئه لأنه حق،  فالإسلام مهما تقدم العلم، مهما ظهرت مخترعات لن تستطيع كل هذه العلوم وهذه المخترعات، أن تزعزع الثقة به، لأنه من عند الله، لأنه من عند خالق السموات والأرض، أما أي كتاب آخر بعد حين فتظهر فيه تناقضات، الحق الشيء الثابت، لا يتغير، ولا يتبدل، الأمر والنهي في القرآن الكريم متوافق مع أنظمة النفس. الآن ظهرت أنظمة وضعية بنزع الملكية، هذه الأنظمة تنهار بعد حين، لأنها ليست حقاً، تتناقض مع طبيعة النفس، أما الشيء الذي جاء به القرآن، الله عز وجل سمح للزوج إذا طلق زوجته أن يعطيها مهراً، أما بالأنظمة الوضعية في بعض البلاد فتتملك نصف ثروته بالتمام والكمال، لذلك الآن هرب الناس من الزواج، ولجؤوا إلى زواج مدني، ثم لجؤوا إلى معايشة زوجية بلا عقد إطلاقاً، وقف الزواج. في الصين ألزموا الناس بولد واحد، فصار الأسرة تأتيها البنت تخنقها، الصبي يسجلونه، بعام ألفين خمسون مليون شاباً بلا فتاة، مشكلة كبيرة.  فالحق نظام ثابت لا يتزعزع، ولا يتبدل، قال تعالى: ﴿وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾ .

     هناك سؤال كبير يراود بعض المؤمنين: لماذا سمح الله للطرف الآخر أن يتهجّموا على الدين، وأن ينالوا منه، بل أن يتطاولوا على نبي المسلمين، بل على كلام رب العالمين؟ أليس الأمر بيد الله؟ لماذا يسمح الله لأعداء الحق أن ينالوا من أهل الحق؟  الحكمة البالغة أن الله أراد أن تكون معركة الحق والباطل أزلية أبدية، هذا قدرنا، وهذا اختيار الله لنا، ونحن لا نقوى إلا بالتحدي، لا نقوى إلا بالمعارضة، لا نقوى إلا بمن يُقلّل من قيمة ما تحمل من حق، الطرف الآخر همه الأول أن يُقلل من قيمة الحق، وأن يجعله عملاً يومياً، قد يُعزى الحق إلى عادات وتقاليد، وفلكلور، وموروثات ثقافية ورثناها عن الآباء والأجداد. الحقيقة أن المعركة بين الحق والباطل أرادها الله عز وجل، يعني بشكل بديهي، أليس بالإمكان أن يخلق الله أهل الباطل في قارة، وأن يخلق أهل الحق في قارة؟ لا يوجد صدامات، ولا يوجد مماحكات، ولا يوجد تراشق تهم، كل أناس لهم قارة، لكن أراد الله عز وجل أن يكون الحق والباطل في مكان واحد، وفي مدينة واحدة، وفي حي واحد، بل وفي أسرة واحدة. لذلك ينبغي أن تستسلم لحكمة الله، أراد الله أن يكون ثمّة حق وباطل، وخير وشر، ومُنصِف وجاحد، ومُحسن ومُسيء، وصادق وكاذب، هذه يمكن أن نسميها الاثنينية، وفي الحياة يوجد اثنينية، إنسان صادق لا يكذب وإنسان كاذب لا يصدق، إنسان رجل مبدأ يضحي بالدنيا من أجل مبدئه وإنسان رجل مصلحة يضحي بكل مبادئه من أجل مصلحته، إنسان رجل شهواني وإنسان رجل رحماني، الشهواني يرى أن اقتناص الشهوة مغنماً كبيراً لا يفوِّته، والرحماني يرى أن معصية الله هي الطامة الكبرى ولا يسمح أن تقع نفسه في ثنياتها. إذاً في الأصل إن كنت مع الباطل فأنت عدو للحق وأهله، شئت أم أبيت، إن كان الإنسان مع أهل الباطل، أو يؤمن بشيء غير صحيح، يؤمن بالشهوة لا بالمبدأ، يؤمن بالمصلحة لا بالقيمة، يؤمن بالدنيا لا بالآخرة، يؤمن بأن الحياة هكذا والقوي هو المتمتع بالحياة، وأن الحق مع القوي، وأن القوي تخضع له الرقاب، وقوله الحق، وعدوانه حق، وسِلْمه حق، هناك تناقضاً كبيراً بين الحق وبين الباطل، فهما لا يجتمعان، تماماً لو قلت: ظلام ونور، لا يجتمعان، هذان شيئان متناقضان، وجود أحدهما ينقض الآخر.   

     لذلك نبي كريم وهو في قمة الكمال البشري، ومع ذلك لا بد له من أعداء ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً﴾ هناك قضية ولاء وبراء، فالمؤمن يوالي المؤمنين، يوالي منهج السماء، يوالي قيم الحق، يوالي قيم الخير، يوالي السلام، لا يحب العدوان، أهل الباطل قد يجتمع نخبتهم، كبار مفكريهم، ويُسألون: أيهما خير لنا الحرب أم السِّلم؟ يأتي الجواب: الحرب، لذلك تبني دولة قوية كل خططها على الحرب، في الحرب تروج بضاعتهم، وتروج أسلحتهم، ويكون بيع الأسلحة بعقود إذعان لا بعقود مراضاة للتراضي، فحينما تبني أمة مجدها على إيقاع الآلام بالشعوب، ونهب ثرواتها، فهذه أمة باطلة، من يقف معها؟ أهل الباطل، الذين يؤثرون مصالحهم على مبادئهم.  

     فلذلك لا تقلقوا، هي معركة أزلية أبدية بين الحق والباطل، لكن لحكمة أرادها الله عز وجل في زمن من الأزمان يقوى أهل الحق، وتكون الكلمة العليا لهم، وفي زمن آخر يقوى أهل الباطل وتكون الكلمة العليا لهم، وهذا مصداق قوله تعالى: ﴿ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ ٱلْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُۥ ۚ وَتِلْكَ ٱلْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ ۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلظَّٰلِمِينَ ﴾. فلذلك حينما ترى أن هذه سنة من سنن الله عز وجل هذا يخفّ عليك طرح أسئلة لا تنتهِي، أين الله؟ الله عز وجل من امتحاناته الصعبة أنه يقوّي الكافر، ويقوّيه، ويقوّيه، إلى أن تتوهّم أنه يفعل ما يريد، ولا أحد بإمكانه أن يردعه عن خططه، بل إن ضِعاف الإيمان ينطقون بهذا، الذي تريده الدولة الفلانية لا بد من أن يقع، وكأن هذه الدولة جُعلت إلهاً يُعبَد من دون الله، فإلى أن يقول ضعاف الإيمان: أين الله؟ تأتي آية الله الباهرة، عندها يقول كبار الكفار: لا إله إلا الله، الله عز وجل كبير، وله امتحانات صعبة.   

     قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً﴾ كلمة يوحي يعني الإعلام بخفاء، لماذا بخفاء؟ لأن الباطل لا يمكن أن يُعرَض تحت ضوء الشمس، لأن الباطل مرفوض بفطرة الإنسان، يُقبل سراً، يُقبل همساً، يُقبل في أمكنة مظلمة، يُقبل كمؤامرة، يُقبل كتخطيط، أما أن تنادي بالباطل جِهاراً نهاراً لا تستطيع، لأن  الحق مركوز في أصل النفوس، والله عز وجل فطر الإنسان على معرفة الحق، وعلى حب الحق، فالباطل غير مقبول لا بالفطرة، ولا بالمنطق، ولا بالأخلاق، ولا بالشعور الإنساني العام. وقوله تعالى: ﴿زُخْرُفَ الْقَوْلِ﴾ يعني أن الباطل باطل، لكن الباطل يُزيَّن بكلمات مُنمّقة، يعني أنت إذا أردت أن تجعل المرأة بشكل فاضح، أن تخلع معظم ثيابها، وأن تعرض كل مفاتنها في الطريق، وأمام كل عين، ماذا تقول؟ تقول: تحرير المرأة، تقول: هذه نصف المجتمع، تقول: هذه من حقها أن تظهر ما عندها، الشيء الذي ترغبه أنت تحقيقاً لشهوتك تعرضه عرضاً آخر،  ما من دعوة إلى الباطل إلا تُغلّف بغلاف مزخرف، كلام مزخرف لا يصمد أمام التحقيق الدقيق، والواقع الذي يفصم الأمر فصماً كاملاً . ﴿غُرُوراً﴾ معنى غرور إظهار ميزات غير صحيحة، وإخفاء أخطار مخيفة، يعني أحياناً يرى الإنسان علبة ثمينة جداً على الرصيف، فيتوهم أن فيها عقد ماسٍ، فينحني ويأخذها، ويحرص على اقتنائها، ويسرع في المشي، ثم يكتشف أن قمامة وُضعت في هذه العلبة، كيف تكون الصدمة؟ هكذا الغرور، أن تتوهم شيئاً واقعه عكس ما توهمته. كالاختلاط، يقول لك: حضارة، المرأة نصف المجتمع، تعليم مختلط، علاقات مختلطة، كل شيء مختلط، الحقيقة هي دافع شهواني عميق جداً عند الرجال، لكن يُعرض عرضاً لطيفاً، أنت حينما تقنع الإنسان بشرب الخمر بأن الخمر تنسيك الهموم، تجعلك في أحلام ممتعة، وتخفي أن الخمر قد تصيبه بتشمع الكبد، وقد تدمر حياته، وقد تُذهِب عقله، حينما تقنع إنساناً بالدخان، تقول له تعال إلى حيث النكهة، وتُغفل أمامه ما ينتظر المدخّن من أورام خبيثة في الرئة، وفي بعض أجهزته.  لذلك قد يُغر الإنسان ببعض المبادئ الهدامة ، لقد رسم الله عز وجل منهجاً في العلاقة بين الأنثى والذكر، فلما يغتر الإنسان بما يُقال في الاختلاط، وفي الصداقة البريئة، هذه كلها أوهام، حينما يكتشف أن امرأته قد خانته بحكم الاختلاط، والحرية، فعندئذٍ يندم يوم قبِل بهذه الأفكار، لأن تشريع الله عز وجل من عند الخبير، من عند الخالق. ﴿وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى﴾ وهو الذي يعلم أسباب السلامة، وأسباب السعادة. إذاً: ﴿يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً﴾ السؤال الدقيق ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ﴾ يعني أن الله عز وجل يريد أن يمتحننا، وهذه الدنيا دار ابتلاء، والله عز وجل يسمح للطرف الآخر أن يوسوس ويزخرف، لكن الطرف الآخر لا يستطيع أن يفعل شيئاً، وأوضح ما يؤكد هذه الحقيقة قول الله عز وجل: ﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ . يعني  الإنسان مخيّر، وهناك أهل الباطل يوسوسون له الباطل مزخرفاً، وهناك أهل الحق يلقون إليه الحق ناصعاً، وأنت مُخيّر، إما أن تستجيب لزخرفة أهل الباطل، أو أن تستجيب لنداء أهل الحق، فبهذه الطريقة يتحرك الإنسان، لكن  الله لا يسمح لإنسان أن يضل إنساناً، لكن يسمح لإنسان أن يزخرف الباطل، فالذي عنده استعداد للباطل يستجيب لهذه الدعوة المزخرفة البراقة ، لذلك البطولة أن تستوعب كلام الله، وأن تستوعب سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى يكون الوحيان الكتاب والسنة مرجعَين لك في تقييم ما يطرحه أهل الباطل.   



المصدر: الدرس : 44 - سورة الأنعام - تفسير الآيات 112-114 ، معركة الحق والباطل معركة أزلية أبدية