قيمة النسب في الإسلام:
أيها الإخوة المؤمنون، مع سير التابعين رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، والتابعي اليوم هو القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، حفيدُ سيدنا الصديق.
هذا التابعيُّ الجليل جمع المجدَ من أطرافه كلها، فأبوه محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه،
وبالمناسبة أيها الإخوة النسب تاج يُتوَّج به المؤمن، أما إن لم يكن هناك إيمان فلا قيمةَ له إطلاقا، وأكبر دليل قوله تعالى: ( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ)
أبو لهب عمُّ النبي، والدليل الثاني قول النبي صلى الله عليه و سلم: سلمان منا آل البيت
وسلمان فارسي،
وقوله صلى الله عليه و سلم : نعم العبد صهيب
وقوله صلى الله عليه و سلم : أنا جدُّ كل تقي و لو كان عبدا حبشيا
هذه حقيقة، النسب لا يُعتدُّ به، ولا يُفتخر به، ولا قيمة له إلا إذا جاء بعد الإيمان:
قال النبي صلى الله عليه و سلم: يا فاطمة بنت محمد، يا عباس عم رسول الله أنقذا نفسيكما من النار، أنا لا أغني عنكما من الله شيئا، لا يأتيني الناس بأعمالهم، وتأتوني بأنسابكم، من يبطئ به عمله لم يسرع به نسبه
أما إذا كان هناك إيمان، وأنت من أسرة شريفة، هذا تاج تتوَّج به، لذلك لا ينبغي أن نصغي أبدا لإنسان متلبِّس بمعصية يدَّعي أنه ابن فلان، وجدُّه فلان، ومن هذه الأسرة الكريمة، هذا كلام لا يقدِّم، ولا يؤخِّر
نسبه:
أبوه محمد بن أبي بكر الصديق، وأمُّه بنتُ كسرى يزدجرد، آخر ملوك الفرس، والدته بنت ملك، وعمَّته عائشة بنت أبي بكر،
علمه:
وفوق هذا و ذاك كان تقيًّا عالما،
نهاية العلم التوحيدُ، ونهاية العمل التقوى
وتعلموا العلم فإن كنتم سادة فُقتم، وإن كنتم وسطا سُدتم، وإن كنتم سوقةً عشتم
أحيانا الإنسان يشعر أنه ليس له أسرة راقية يفتخر بها، وليس معه رأس مال ضخم يعيش به حياة ناعمة، باب العلم مفتوح لكل الناس، إنسان فقير، إنسان مغمور، فباب العلم بإمكان كل إنسان أن يدخل منه، وإذا دخل منه تفوَّق،
أحد خلفاء بني أمية أراد أن يسأل عالما جليلا، هذا العالم أسود اللون، أفطس الأنف، مفلفل الشعر، وكان من كبار العلماء، وقف أحدُ أكبر خلفاء بني أمية بين يديه متأدِّبا وسأله، و العالم يجيب، فقال الخليفةُ لأولاده: انظُر يا بنيَّ إلى ذلِّنا بين يديه،
رتبة العلم أعلى الرتب، أي
إذا أردتَ الدنيا فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، و إذا أردتهما معا فعليك بالعلم.
هذا التعليق أردتُ منه أنّ أيَّ إنسان يشكو أنه غير معروف، مغمور، فقير، لا حصّل مجد المال، ولا حصَّل مجدا اجتماعيا معيَّنا، نقول له: باب العلم مفتوح لك، إذا تفوَّقتَ في العلم بإمكانك أن تصل إلى أعلى مرتبة، مثلا، تجد أكبر شخصية أمام الطبيب مثل الطفل، ماذا أفعل يا دكتور، قد يكون الطبيبُ متفوِّقا، لكنه كان في الأصل مغمورا، ولما صار طبيبا، وتفوَّق، فأكبر الشخصيات يستفتونه في شأن صحَّتهم، يسألون خبيرًا اقتصاديًّا، وأحيانا يُستشار من قِبَل أعلى مستوى، أحيانا خبير حقوقي يُستشار، والحقيقة الذي يحمي العالَم العلماءُ والرؤساء، في كل أنحاء العالَم لا يتَخذون قرارا إلا بعد استشارات من العلماء، فالعلم هو الأساس،
ففوق أنّ أمه بنت كسرى، وأن أباه محمد بن أبي بكر، فوق هذا وذاك كان عالما تقيًّا.
الحقيقة هناك نقطة مهمة أيها الإخوة، أنت إنسان كائن، تأكل، وتشرب، وتنام، وتعمل، وتتزوج، وتنجب، أيُّ مخلوق آخر له نفس الخصائص، أيُّ مخلوق غير إنساني يأكل، ويشرب، ويتزوج، ويعمل، والإنسان إذا ألغى العلمَ من حياته، وألغى طلب العلم فقد ألغى إنسانيته، والإنسان إذا ألغى العلم ولم يطلبه فقد هبط من مستوى إنسانيته إلى مستوى آخر،
الذي يؤكِّد إنسانيتك علُمك وأخلاقُك
تذكرون أحد التابعين، قيل عنه: كان قصير القامة، أسمر اللون، مائل الكتف، غائر العينين، ناتئ الوجنتين، أحنف الرجل، ليس شيءٌ من قُبحِ المنظر إلا وهو آخذٌ منه بنصيب، وكان مع ذلك سيدَ قومه، إذا غضِبَ غضِبَ لغضبته مائة ألف سيف، لا يسألونه فيما غضب، وكان إذا علم أن الماءَ يفسد مروءته ما شربه، فالذي يؤكِّد إنسانية الإنسان علمُه و أخلاقُه، وما سوى العلم و الأخلاق هو وبقية المخلوقات سيان.
مؤهلاته:
القاسم بن محمد بن أبي بكر أحد فقهاء المدينة السبعة، وأفضل أهل زمنه علما وأحدُّهم ذهنا، وأشدُّهم ورعا، فما قصَّة هذا التابعي الجليل؟
هناك سؤال صغير، يا تُرى حدَّة الذهن أليست هبةً من الله عزوجل؟ هبة، إلا أن الذي أعرفه أن الإنسان إذا كان مطلبُه عاليا جدا آتاه اللهُ القدرات العقلية و البيانية، حيث تلبِّي هذا الطلب العالي، فكلُّ إنسان يعطيه الله من الإمكانات و القدرات العامة والخاصة ما يتناسب مع مطلبه الثمين، هناك شخص تنتهي كلُّ طموحاته عند الزواج، تنتهي كل طموحاته عند حيازة المال، تنتهي كل طموحاته إذا حقَّق مكانة اجتماعية، ليس له أهداف كبيرة أخروية، هذا الإنسان يعطيه الله من الإمكانات ما يتناسب مع هذه المطالب المتواضعة، لكن هؤلاء الذين أرادوا هداية البشر يعطيهم الله إمكانات فكرية وعقلية وبيانية تفوق حدَّ الخيال،
لذلك من خصائص الأنبياء الفطانة، والنبيُّ عليه الصلاة و السلام، دعونا من نبوَّته ومن رسالته فهو شخصية فذَّة، كان يفهم أدقَّ الأمور، ويتصرَّف بحكمة ما بعدها حكمة،
نشأته:
هذا التابعي الجليل وُلد في أواخر خلافة عثمان بن عفان، هذا الطفل الصغير له قصة، والدُه عُيِّن واليًا على مصر، وقُتِل والدُه في مصر، فنُقــل مرة ثانية إلى المدينة، تبدأ القصةُ حينما يتحدَّث هو عن نفسه، يقول:
لما قُتل أبي بمصر جاء عمي عبد الرحمن بن أبي بكر فاحتملني أنا وأختي الصغيرة، ومضى بنا إلى المدينة، هذه القصة الآن محورها أثر التربية في شخصية الإنسان، فما إن بلغناها حتى بعثت إلينا عمَّتي عائشة رضي الله عنها
واللهِ أيها الإخوة المرأة إذا قامت بواجباتها خير قيام تصنع الرجالَ، تلاحظ الأشخاص الناجحين في حياتهم أحد أكبر أسباب نجاحاتهم تلقوا تربية جيِّدة حينما كانوا صغارا، والتربية البيتية لها أثر كبير جدا في مستقبله، الذي عنده أولاد، فأكبر ثروة، وأعظم عمل، وأكبر سعادة أن تصُبَّ كلَّ اهتمامك عليهم، حتى يتربَّوا تربية عالية، اسمعوا هذا الكلام، وأنا أعني ما أقول بشكل دقيق، لو وصلت إلى أعلى مستوى ماليٍّ في العالم، لو وصلت إلى أكبر حجم من القوة في العالم، وملكت زمام الدنيا، لو وصلت إلى أكبر مرتبة دينية في العالم، فصرت عالم العلماء، ولم يكن ابنُك على شاكلتك لشقيتَ به، الإنسان يشقى بشقاء أولاده، والآباء الشباب هذه الحقيقة لا يلتفتون إليها، أما حينما يكبر أولادهم، وينحرفون يعضُّون على أناملهم ندما، تربية الأولاد أجلُّ عمل يفعله الإنسان في حياته، تربية الأولاد استمرار لحياتك من بعدك.
الآن سنلاحظ ماذا فعلت هذه العمةُ الجليلة السيدة عائشة، قال: فحملتنا من منزل عمنا إلى بيتها، وربَّتنا في حجـرها، فما رأيتُ والدةً قط، ولا والدا أكثر منها برًّا، ولا أوفر منها شفقة، كانت تطعمني بيديها، ولا تأكل معنا، فإذا بقي من طعامنا شيءٌ أكلته، السيدة عائشة، وكانت تحنو علينا حنوَّ المرضعات على الفطيم، تغسل أجسادنا، وتمشِّط شعورنا، وتلبسنا الأبيضَ الناصعَ من الثياب، و كانت لا تفتأ تحضُّنا على الخير، وتمرّسنا بفعله، وتنهانا عن الشرِّ، وتحملنا على تركه، وقد دأبت على تلقيننا ما نطيقه من كتاب الله تعالى، وتروي لنا ما نعقله من حديث رسول الله، وكانت تزيدنا برًّا وإتحافا في العيدين، فإذا كانت عشيِّةُ عرفة حلقت لي شعري، وغسلتني أنا وأختي، فإذا أصبحنا ألبستنا الجديدَ، و بعثت بنا إلى المسجد النبوي لنؤدِّي صلاة العيد، فإذا عُدنا منه جمعتني أنا وأختي وضحَّت بين أيدينا، هذه السيدة عائشة.
يا أيها الإخوة الكرام، يقول عليه الصلاة و السلام يخاطب امراةً يقول: اعلَمي أيتها المرأة، و أعِلمي من دونكِ من النساء أن حسنَ تبعُّل المرأة زوجها يعدل الجهاد في سبيل الله
فالمرأة الصالحة أولادها شهاداتها، قد ترقى المرأةُ الصالحةُ إلى أعلى مرتبة بحسن رعايتها لزوجها وأولادها،
قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا اسْتَفَادَ الْمُؤْمِنُ بَعْدَ تَقْوَى اللَّهِ خَيْرًا لَهُ مِنْ زَوْجَةٍ صَالِحَةٍ، إِنْ أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ، وَإِنْ نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ، وَإِنْ أَقْسَمَ عَلَيْهَا أَبَرَّتْهُ، وَإِنْ غَابَ عَنْهَا نَصَحَتْهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ
أي هندامها جيِّد، تعتني بمظهرها لزوجها، لا للطريق،
وهناك رواية للحديث
وإذا نظرت سرتك
ما قال: إليها، أي إذا نظرت إلى الأولاد، مرتَّبين في الملبس والهيئة، شعورهم مهندمة، ثيابهم نظيفة، نظرت إلى المطبخ نظيفة، وإلى غرفة النوم مرتبة،
وإذا نظرت سرتك
أي إذا قامــت المرأة بحقِّ زوجها و أولادها فهي مع رسول الله في الجنة، قال عليه الصلاة و السلام: أيما امرأة قعدت على بيت أولادها فهي معي في الجنة
هذه المرأة التي تهزُّ سرير ابنها بيسراها، وتهزّ العالم بيمناها، المرأة إذا عرفت ربَّها، وعرفت مهمَّتها في الحياة فهذا شيء لا يُقدَّر بثمن، لذلك أكبر واجب مُلْقًى على كاهلك اتِّجاهَ أولادك أن تحسن اختيار أمهم، قبل أن تخطب عُدَّ للمليون، هذه أمُّ أولادك، هذه سوف تربي أولادك، أخلاقها، وعلمها، واستقامتها، وعفتها، وأمانتها، و صدقها، وتربيتها، ومستواها الاجتماعي، ومستواها الثقافي، شيء خطير جدًّا.
وفي ذات يوم ألبستنا ثيابا بيضًا، ثم أجلستني على إحدى ركبتيها، وأجلست أختي على ركبتها الأخرى،
الطفل لا ينسى، الطفل الصغير لا ينسى الإكرام، و لا ينسى الحنان، والعطف، والرعاية، طعامه مؤمَّن، ولباسه مؤمَّن، إذا مرض بسرعة نحكِّمه، لباسه في الشتاء جيِّدة، تقيه البرد، غرفته نظيفة، هذا يُغرس معه، أي حينما تخرج المرأة من بيتها، وتهمل أولادها فقد خانت أمانة الله،
وكانت قد دعت عمِّي عبد الرحمن، فلما دخل عليها حيَّته، ثم تكلمت، القاسم بن محمد وأخته على يسراها، ودعت أخاها عمي عبد الرحمن، فلما دخل عليها حمدت اللهَ عزوجل، وأثنت عليه بما هو أهلُه، فما رأيتُ متكلِّما قطُّ من رجل أو امرأة قبلها ولا بعدها أفصحَ منها لسانا، ولا أعذبَ منها بيانا،
ثم قالت: أي أخي إني لم أزل أراك معرضا عني منذ أخذتُ هذين الصبيين منك، وضممتُهما إليَّ،
يبدو أن أخاها عندما أخذت منه أختُه هذين الصبيين تألَّم فأعرض عنها، فلما اعتنت بهما العناية الفائقة، وأصبحا في سنٍّ يكفيان نفسيهما دعت أخاها،
وقالت: أي أخي إني لم أزل أراك معرضا عني منذ أخذت هذين الصبيين منك، و ضممتهما إليَّ، و واللهِ ما فعلتُ ذلك تطاولا عليك، ولا سوء ظنّ بك، واتِّهاما لك بالتقصير في حقِّهما، ولكنك رجل ذو نساء، عندك عدة زوجات، وهما صبيان صغيران لا يقومان بأمر نفسيهما، فخشيتُ أن يرى نساؤُك منهما ما يستقذرنه، فلا يطبن بهما نفسا، ووجدتُ أني أحقُّ منهن بالقيام على أمرهما في هذه الحال، وها هما الآن قد شبَّا، وأصبحا قادرين على القيام بأمر نفسيهما، فخذهما، وضمَّهما إليك،
أي حينما كانا يحتاجان إلى تنظيف ورعاية، آثرت السيدة عائشة أن تأخذ الطفلين إليها، فلما صارا في مستوى يقومان بأمر نفسيهما،
قالت لأخيها: خذهما، طِب بهما نفسا،
فأخذنا عمي عبدُ الرحمن، وضمَّنا إلى بيته، بيد أن الغلام البكري ظلَّ معلَّق القلب ببيت عمَّته أمِّ المؤمنين رضوان الله عليها.
الذي يربِّي أولادًا، يا إخواننا الولد والطفل الصغير يجب أن يرضع الحنان مع حليب أمِّه، تجد الآن مواقف في العالم قاسية جدا، تستغرب، هل تعلم ما السبب؟ ستون بالمائة من أطفال العالَم الغربي ما شرب حنان الأم إطلاقا، ولا حنان الأب، ولا شيء يعوِّض عن الأم، فالذي يرضع مع حليب أمه العطف والحنان يصبح إنسانا رحيما، لا يتَّخذ قرارًا قاسيا جدا، الآن في العالَم أعمال إجرامية فوق حدِّ الخيال، والسبب هذه تصدر عن قلوب ليس فيها الرحمة إطلاقا، والرحمة أساسا يأخذها الإنسانُ مع حليب أمِّه.
أيها الإخوة، يقول هذا التابعيُّ الجليل:
قلتُ ذات يوم لعمتي عائشة رضي الله عنها: يا عمَّتي اكشِفي لي عن قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه، فإني أريد أن أراهما،
وكانت القبورُ الثلاثة ما زالت داخل بيتها، وقد غطَّتها بما يسترها عن العين، فكشفت لي عن ثلاثة قبور، لا مشرفة و لا واطئة، قد مهِّدت بصغار الحصى الحمر، مما كان في باحة المسجد،
فقلتُ: أين قبرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
فأشارت بيدها، وقالت: هذا، ثم تحدَّرت على خدَّيها دمعتان كبيرتان، فبادرتْ فمسحتْهما حتى لا أراهما، وكان قبرُ النبي صلى الله عليه وسلم مقدَّما على قبر صاحبيه،
فقلت: وأين قبر جدي أبي بكر؟
قالت: هو ذا، وكان مدفونا عند رأس النبي صلى الله عليه وسلم،
فقلتُ: وهذا قبرُ عمر؟
قالت: نعم، وكان رأسُ عمر رضوان الله عليه عند خصر جدي قريبا من رجل النبي عليه الصلاة و السلام.
تعلمه وتعليمه:
ولما شبَّ الفتى البكري كان قد حفظ كتاب الله تعالى، وأخذ عن عمته عائشة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء له أن يأخذ، ثم أقبل على الحرم النبوي الشريف، وانقطع إلى حلقات العلم التي كانت تنتشر في كل ركن من أركانه، فروى عن أبي هريرة رضي الله عنه، وعن عبد الله بن عمر، و عن عبد الله بن عباس، وعن عبد الله بن الزبير، وعبد الله بن خبَّاب، ورافع بن خديج، وأسلم مولى عمر بن الخطاب، وغيرهم وغيرهم، أي تلقَّى العلمَ عن كبار العلماء في عصره، حتى غدا إماما مجتهدا، وأصبح من أعلم أهل زمانه بالسنة، وكان الرجلُ لا يُعدُّ رجلا عندهم حتى يتقن السنة، لأن السنة فيها تبيان للقرآن الكريم، وربُّنا عزوجل حينما حفظ كتابه، قال العلماء: إن حفظ السنة من لوازم حفظ الكتاب، لأن السنة مبيَّنة للكتاب.
ولما اكتمل لهذا الشاب البكري العلمُ صار معلِّما،
قالوا: تعلَّموا قبل أن ترأسوا، فإن ترأستم فلن تعلموا
فالإنسان في طور البناء الذاتي مهما اجتهد في ترسيخ علمه، وفي تمكين نفسه من الحقائق الناصعة مع أدلَّتها فهذا مما يعينه على العطاء، ولم يمضِ وقتٌ طويل حتى أصبح القاسمُ بن محمد وابن خالته سالم إمامي المدينة الموثوقين، فقد سوَّدهما الناسُ لِما كان يتحلَّيان به من التقى والورع، وقد بلغ من مكانتهما في النفوس أن خلفاءَ بني أمية وولاتهم كانوا لا يقطعون أمرا ذا بالٍ في شأن من شؤون المدينة إلا برأيهما.
مساهمته في توسعة الحرم النبوي الشريف:
مرة الوليدُ بن عبد الملك عزم على توسعة الحرم النبوي الشريف، ولم يكن في وسعه تحقيقَ هذه الأمنيــة الغالية إلا إذا هدم المسجدَ القديم من جهاته الأربع، و أزال بيوت زوجات النبي صلوات الله عليه، وضمَّهما إلى المسجد، وهي أمورٌ تشقُّ على الناس، ولا تطيب نفوسُهم بها، فكتب إلى عمر بن عبد العزيز واليه على المدينة
يقول: لقد رأيتُ أن أوسِّع مسجدَ رسول الله صلى الله عليه و سلم، حتى يصبح مائتي ذراع في مائتي ذراع، فاهدِم جدرانه الأربعة، وأدخل فيه حجَر زوجات النبي، واشترِ ما في نواحيه من البيوت، وقدِّم القبلةَ إن قدرت، وإنك تستطيع ذلك لمكان أخوالك آل الخطاب، فإن أبى عليك أهلُ المدينة ذلك - إذا لم يقبلوا - فاستعن بالقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله بن عمر، وأشركهما معك في الأمر، وادفع إلى الناس أثمانَ بيوتهم بسخاء، وإن لك في ذلك سلف صدق، هم عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان اللذان وسَّعا المسجد،
فدعا عمرُ بن عبد العزيز القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وطائفة من وجوه أهل المدينة، وقرأ عليهم كتابَ أمير المؤمنين، فسُرُّوا بما عزم عليه، وهبُّوا لإنفاذه، فلما رأى أهلُ المدينة عالمي المدينة وإماميها الكبيرين يباشران في هدم المسجد بأيديهما قاموا معهما قومةَ رجل واحد،
أي لم يكن في الإمكان أبدا أن تنهدم حجرةُ النبي ولا الجدران الأربعة إن لم يقبل هذا التابعي الجليـل، هو قبِل، واقتنع بالأمر، فهدم بيده هذه الجدران، حتى أقبل الناسُ على هذا العمل العظيم في توسعة المسجد.
لما علِم ملِكُ الروم بعزم أمير المؤمنين بتوسعة المسجد أحبَّ أن يصانعهم، و يتقرَّب بما يسرُّه، بعث إليه بمائة ألف مثقال من الذهب، وأرسل معها مائة عامل من أمهر البنَّائين في بلاد الروم،
كيف كان للمسلمين شأنٌ كبير، أراد ملك الروم أن يتقرَّب إلى الخليفة بإرسال هذه الخبرات الفنية مع العمال، وزوَّد العمالَ بأربعين حِملا من الفسيفساء، فأرسل الوليدُ هذا كلَّه إلى عمر بن عبد العزيز ليستعين به على البناء فأنفذه عمرُ بمشورة القاسم بن محمد.
أدبه:
مرة هناك أعرابي دخل المسجد
فقال: أيهما أعلم أنت أم سالم؟
فتشاغل عنه القاسمُ،
أعاد عليه السؤال،
فقال: سبحان الله،
أعاده مرة ثالثة،
فقال له: ذاك سالم يا بن أخي يجلس هناك
فقال: من في المجلس؟ للهِ أبوه، لقد كره أن يقول: أنا أعلم منه فيزكِّي نفسَه، و كره أن يقول: هو أعلم مني فيكذب، و كان أعلمَ من سالم، كانة هناك أدب جمٌّ.
ورعه:
مرة كان في مِنًى، و الناسُ حوله متحلِّقون يسألونه،
فيقول في بعض السؤال: لا أدري، لا أعلم،
فأخذهم العجبُ،
فقال لهم: واللهِ ما نعلم كلَّ ما تسألون عنه، ولو علمناه ما كتمناه، ولا يحلُّ لنا أن نكتمه، ولأنْ يعيش الرجلُ جاهلا بعد أن يعرف حقَّ الله عليه خيرٌ له من أن يقول لشيء لا يعلم: أعلمه،
القصة مشهورة، إمام دار الهجرة، الإمام مالك جاءه وفدٌ من الأندلس معه سبع وثلاثون سؤالا، الوفد قطع شهرين من السفر، فأجاب عن بعض الأسئلة، وعن البعض الآخر
قال: لا أدري،
ما صدَّقوا، الإمام مالك لا يدري،
فقال لهم بأعلى صوته: قولوا لمن في المغرب الإمام مالك لا يدري،
ونصف العلم: لا أدري، وكلمة لا أدري لا يقولها إلا المتورِّع، هذه وسام شرف، أن تقول: لا أدري، أما أن تقول لكل شيء: أدري معنى ذلك لا تدري شيئا،
لذلك يظلُّ المرءُ عالما ما طلب العلمَ، فإذا ظنَّ أنه قد علم فقد جهِل.
وفاته:
أتاه اليقينُ وهو في سنٍّ متقدِّمة، قصَد مكةَ يريد الحجَّ، وفيما هو في بعض طريقه أتاه اليقينُ، فلما أحسَّ بالأجل التفت إلى ابنه، وقال:
إذا أنا متُّ فكفِّني بثيابي التي كنتُ أصلي بها، قميصي، وإزاري، وردائي، فذلك كان كفنُ جدِّك أبي بكر، ثم سوِّ عليَّ لحدي، والحق بأهلك، وإياكم أن تقفوا على قبري، وتقولوا: كان وكان، فما كنتُ شيئا،
فالتواضعُ يتناسب مع بلوغ أعلى مراتب العلم والتقوى، ودائما الشيء الفارغ له صوت كبير، والشيء المليء صوته خفيٌّ،
الخلاصة:
فكان هذا التابعي الجليل من أورع التابعين، ومن أشدِّهم علما، وقد أمضى حياته بهذه الطريقة.
أرجو الله سبحانه وتعالى أن تكون هذه السيرُ عن التابعين الأجلاَّء باعثا لنا على طلب العلم، وعلى التخلّق بأخلاق النبيِّ عليه الصلاة السلام، كما قلتُ في أول الدرس، إذا فاتَ الإنسانَ مجدُ المال، وفاته مجدُ النسب، وفاته مجدُ الشأن الاجتماعي، فبابُ العلم مفتوحٌ لكل مَن فاتته هذه الأمجادُ، وبإمكانه أن يصل إلى أعلى المراتب عن طريق العلم.
أختم كلمتي بهذا القول: إذا أردتَ الدنيا فعليك بالعلم، وإذا أردتَ الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معًا فعليك بالعلم.