أيها الإخوة الكرام... مع سير الصحابيات الجليلات رضوان الله تعالى عنهن أجمعين، ومع أهل بيت النبي، صلى الله عليه وسلم، ومع أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، زوجة الفاروق عمر بن الخطاب.
هي أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، أمها فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، شقيقة الحسن والحسين، ولدت في حدود سنة ستٍ من الهجرة، رأت النبي صلى الله عليه وسلم جدها، ولم ترو عنه شيئاً،
زواجها من سيدنا عمر رضي الله عنه:
تزوَّجها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان سبب زواج عمر منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: كل سببٍ ونسبٍ منقطعٌ يوم القيامة إلا سببي ونسبي.
أي سبب زواج هذا الخليفة الراشد هذا الحديث، مع أن فارق السن بينهما كبير، ألح هذا الخليفة الراشد أن يتزوَّج هذه الفتاة، التي هي من نسل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقصة هذا الزواج قصة اكتساب الشرف، اكتساب السبب، سبب الاتصال بالله عز وجل.
العلماء قالوا: جلس عمر إلى المهاجرين في الروضة، وكان يجلس المهاجرون الأولون في روضة مسجد رسول الله ـ
فقال: رفؤني ،
العرب كانت تقول للمتزوج: بالرفاء والبنين، والرفاء الوفاق، بالوفاق الزوجي والبنين، وأثمن ما في الزواج الوفاق والبنون،
فقال: رفؤني،
فقالوا: بماذا يا أمير المؤمنين؟ ،
قال: تزوجت أم كلثوم بنت علي، لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كل سببٍ ونسبٍ وصهرٍ ينقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي وصهري.
... وكان لي به عليه الصلاة والسلام النسب والسبب، فأردت أن أجمع إليه الصهر، فرفؤني،
أي عد هذه مغنماً كبيراً، أنه اتصل نسبه، أو تزوج بنتَ بنتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو أصبح صهر رسول الله.
قالوا: تزوجها على مهر أربعين ألفاً، فولدت له زيد بن عمر الأكبر ورقية، في هذا الخبر كما قال العلماء أحكام عدة، مِن هذه الأحكام:
أن يصح زواج الكبير بالصغيرة شرعاً، وأن ذلك حصل بمشهد جمعٍ غفير من كبار المهاجرين، وعلى مسمع الأنصار أيضاً، وأنهم قد أقروه على ذلك، وهذا إجماعٌ منهم على جوازه، وأنه يندب تعدد الزوجات لزيادة الشرف ـ تعدد الزوجات من هؤلاء الصحابيات الكاملات المتصلات بالنسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وأن يزاد في مهر الصغيرة أضعاف مهر الكبيرة، وأنه يندب إعلام الأصحاب لذلك، للدعاء والتبريك، وأنه يجوز للأب أن يزوِّج ابنته الصغيرة، وأن سكوت الصغيرة كسكوت البالغة في اعتبار الرضا به، كل هذه الأحكام مستنبطة من هذه الواقعة.
مكانتها عند زوجها رضي الله عنه:
أيها الإخوة... حظيت أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، عند أمير المؤمنين عمر بن الخطاب منزلةً عاليةً مرموقة، فلو كان هناك تناقضٌ كبير كما يتوهم الآخرون بين سيدنا علي وسيدنا عمر، لما أمكن أن يتم هذا الزواج، هذا استنباطٌ مهمٌ جداً ؛ بل إن سيدنا علياً كرم الله وجهه سمى أولاده بأسماء الصحابة الكرام ؛ أبي بكر، وعمر، وعثمان، فسيدنا علي سمى أولاده بأسماء الصحابة الكبار، وهؤلاء الصحابة الكبار تشرفوا بالزواج من بنات سيدنا علي، فبينهما من الود، والاحترام، والحب، والولاء، والبيعة مالا ينكر.
فقد حظيت أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب عند أمير المؤمنين عمر بن الخطاب منزلةً عاليةً مرموقة، فكان ينظر إليها بعين الإجلال والإكرام، فعاشت عنده حياةً طيبةً مباركة، فقد كان يسعى لإسعادها بما يحقق طموح فتوَّتها، وتفتُّح شبابها، وهو البصير بقضايا النساء، فكان رضي الله عنه يرقب نفسه وما يراه واجباً للمرأة على زوجها، ولقد أُثر عنه، وهو خليفة المسلمين بحكمته البالغة دقة معالجته لقضايا الفتيات المتزوجات، اللواتي يشتكين من أمورٍ تخصُّ حياتهن الزوجية،
فمن ذلك أنه كان يقول لأولياء أمور النساء:
لا تنكحوا المرأة الرجل الذميم القبيح، فإنهن يحببن لأنفسهم ما تحبون لأنفسكم
فكما أن الشاب يتمنى فتاةً تملأ عينه، كذلك الفتاة تتمنى زوجاً يملأ عينيها، لذلك لا يُبرم عقد الزواج إلا بموافقة الزوجة، فإن قالت: لا، فالعقد باطل، وكلكم يرى في عقود القران، كيف أن الذي يعقد القران يذهب، ويستمع بأذنه إلى إقرار الفتاة، وهذا حقٌ من حقوق المرأة.
وكان بعض الصحابة يقول:
إني لأتزين لامرأتي كما أحب أن تتزين امرأتي لي،
وهذا من حقها،
فكلام سيدنا عمر: لا تنكحوا المرأة الرجل الذميم القبيح، فإنهن يحببن لأنفسهم ما تحبون لأنفسكم
أي يا أيها الآباء لا تتجاهلوا رأي بناتكم في هذا الخاطب، الذي أنتم تريدون أن تجبروا فتياتكم عليه، فسيدنا عمر لحكمةٍ بالغة كان يخشى على المرأة حينما تكره زوجها كراهيةً تجعلها لا تطيق قربه، أن تدفعها هذه الكراهية، وعدم إمكان الحصول على الطلاق، إلى الشيء الذي لا يرضي الله عز وجل، والآية الكريمة والتي فيها بعض الحيرة: ( وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً )
ما مؤمنٍ على وجه الأرض يكره ابنته على الزنا، إلا أن الأب الذي يُعضل ابنته، ويضع العراقيل تلو العراقيل أمام زواجها، أو يضع شروطاً تعجيزية لزواجها، مثل هذا الأب قد يفاجأ إلى أن ابنته مالت إلى عدم طاعته، أو إلى الانحراف - لا سمح الله - فكأنه دفعها إلى هذا من دون أن يريد ومن دون أن يشعر.
يروى أنه رضي الله عنه كان يطوف بالبيت، فسمع امرأةً تنشد في الطواف:
فمنهن من تسقى بعذبٍ مبرَّدٍ لقاح فتلكم عند ذلك قرتي
ومنهن من تسقى بأخضر آجنٍ أجازٍ ولولا خشية الله زنت
* * *
فتفرَّس عمر ما تشكوه هذه المرأة، فبعث إلى زوجها فاستنكهه، فإذا هو أبخر الفم ـ أي عرف السبب ـ فإنسان دميم له رائحة كريهة، هذا قد يؤذي زوجته، وقد يدفعها إلى أن تفكر بغيره، فلابد أن يأخذ الإنسان السنة النبوية، لأن الله عز وجل يقول: ( وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ )
فكما أنك من حقك أن تطلب من زوجتك شيئاً، هي أيضاً من حقها أن تطلب منك شيئاً.
ومن أشهر ما يؤثر عن عمر رضي الله عنه في تفهُّمه قضايا المرأة، وبالأخص ما يتعلَّق برغباتها، التي فطر الله تعالى النساء عليها، ما روي من أنه كان يطوف ليلةً بالمدينة متفقداً رعيته، فسمع امرأةً تقول:
فوالله لولا الله لا شيء غيره لزعزع من هذا السرير جوانبه
مخافة ربي والحياء يكُفُّني وإكرام بعلي أن تنال مراكبه
* * *
يبدو أن زوجها ابتعد عنها كثيراً، وهي في أشد الحاجة إليه، فلما كان من الغد،
استدعاها عمر وسألها: أين زوجكِ؟ ،
قالت: بعثت به إلى العراق .
لقد سألها من غير أن يشعرها بما سمع منها، وقد أجابته هي بحياءٍ وتصبُّر، ولم تفصح عما في نفسها من شوقٍ عميق لزوجها الغائب عنها، عندئذٍ استدعى عمر نساءً مع ابنته حفصة،
فسألهن عن المرأة المتزوجة: كم مقدار ما تصبر عن زوجها
فقلن: شهرين، ويقل صبرها في ثلاثة أشهر، وينفد صبرها في أربعة أشهر
فسيدنا عمر بعد ذلك أعطى أمراً ألا يجمَّد الجندي في البعوث أكثر من أربعة أشهر، وبعدها يعود إلى زوجته.
وكان عمر رضي الله عنه يجنِّد في جيوش المسلمين غير المتزوجين، ويدع المتزوجين مع زوجاتهم ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
والقصة التي تعرفونها جميعاً، يوم كان عمر يتفقد رعيته، وكان معه عبد الرحمن بن عوف، فرأيا قافلةً مقيمةً في ظاهر المدينة،
فقال: تعال نحرسها ، فبكى طفلٌ،
فقال عمر لأمه: أرضعيه ،
فبكى ثانيةً
فقال: أرضعيه ،
فبكى ثالثة
فقال: يا أمة السوء أرضعيه ،
قالت: وما شأنك بنا إنني أفطمه،
قال: ولماذا؟ ،
قالت: لأن عمر لا يعطينا العطاء إلا بعد الفطام ،
فضرب عمر جبهته بيده وقال: ويحك يا ابن الخطاب كم قتلت من أطفال المسلمين
وعد نفسه قاتلاً، لأنه حمل بعض النساء على أن يفطن أولادهن قبل الوقت المناسب، كي يكسبن هذا التعويض العائلي عن أولادهن.
وكان رضي الله عنه في هذا المقام كما قال الإمام السرخسي: كان حسن التدبير، والنظر للمسلمين، وكل إنسان الله عز وجل ولاَّه، أحياناً مدير مستشفى، أحياناً مدير دائرة، مديرة مدرسة، حينما يرحم المسلمين يرحمه الله، وحينما يشفق عليهم يرحمه الله، وحينما يعدل بينهم يرحمه الله عز وجل، والإنسان حينما يولى على بضعة رجال، له حسابٌ عند الله خاص.
من حسن نظره رضي الله عنه، أن ذا الزوجة، أي ذا الحليلة قلبه معلقٌ بأهله، فلا يطيل المقام في الثغر، والأعزب لا يكون قلبه وراءه فيتمكن من إطالة المقام، وفي هذا اعتبارٌ للغرائز عند الزوجة وزوجها.
فهذا الموضوع تطرَّقنا إليه، وهو مهمٌ جداً، فأي جمعٍ لشمل الأسرة عملٌ يرضي الله، وأي تفرقةٍ ينهما عملٌ لا يرضي الله عز وجل، وله آثارٌ بغيضةٌ وخطيرة.
وكان رضي الله عنه يقول:
والله ما استفاد رجلٌ فائدة بعد إسلامٍ خيراً من امرأةٍ حسناء حسنة الخلق ودودٌ ولود
أي أن أثمن شيء بعد الإيمان بالله زوجة صالحة
والله ما استفاد رجلٌ فائدةً بعد الشرك بالله شراً من مُرَيَّةٍ ـ تصغير امرأة ـ سيئة الخُلُق، حديدة اللسان، والله إن منهن لغلاماً يفدى منه وغلاماً ما يجدي ،
أي أن أفضل شيء للمرء بعد الإيمان زوجة صالحة، وأسوأ شيء للإنسان بعد الشرك امرأةٌ سيئة الخلق حديدة اللسان.
يروى أن ذات مرة جاءت امرأة تشكو سيدنا عمر، يبدو أنه كان منشغلاً عنها،
قالت له: يا أمير المؤمنين إن زوجي صوامٌ قوام ، ما انتبه
فقال: بارك الله لكِ بزوجك ، صوام في النهار،
قوَّام في الليل، في النهار صائم، وفي الليل قائم، عبادة مستمرة
فقال لها: بارك الله لكِ بزوجك، عنده صحابي
قال له: يا أمير المؤمنين إنها تشكو زوجها ، لا تمدحه،
قال: هكذا فهمت، احكم بينهما ،
هذا الصحابي نظر لو أن الرجل عنده أربع نساء كما هو مسموحٌ له، نصيب الواحدة من نسائه يوم كل أربعة أيام، فأمره أن يتفرَّغ لها يوماً كل أربعة أيام،
سيدنا عمر أعجب بهذا الحكم، عيَّنه قاضي البصرة،
لكن النساء كن عفيفات صاحبات حياء، بليغات، فصيحات، وتعلَّمن من أسلوب القرآن الكريم هذا..( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ )
يدخل تحت هذه الآية: كل أنواع الانحراف.. ( أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً)
لامستم النساء يفهمها كلٌ بحسب خبرته. ( فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً)
كلمة: تغشاها، كلمة: أو لامتسم النساء.
الدين كله حياء،
النبي عليه الصلاة والسلام رأى فتاةً ترتدي ثياباً شفافة فقال:يا بنيتي إن هذه الثياب تصف حجم عظامكِ.
اختار كلمة تبعد السامع عن الإثارة: يا بنيتي إن هذه الثياب تصف حجم عظامكِ، فالإنسان يفهم.
ولهذا كانت زوجاته عامةً، وأم كلثوم خاصةً، يعشن عنده كأحسن عيشة، وأرغدها، وأسعدها، وذلك على الرغم مما عهد عنه في رغبته في العيش الخَشن، إن هذا كان لنفسه، أما بالنسبة لزوجاته فكانت معاملته لهن تختلف عما يعامل به نفسه،
فقد كان عمر رضي الله عنه رقيق القلب، سهل المَعشر، وإن بدرت منه هفوةٌ بادر إلى الندم والاعتذار.
ثم إن هذه الزوجة الطيبة الطاهرة أم كلثوم، مما كانت على صغر سنها، أكثر تجاوباً مع واجبات زوجها، الذي كان شديد الحرص على راحة الرعية، يتفقَّدهم بنفسه، ويهتم بشؤونهم أكثر باهتمامه بشؤون بيته،
قال: كانت لا تنسى ليلةً طاف فيها يتفقَّد رعيته، فإذا هو بامرأة في جوف دارها، وحولها صبيان يبكون، وإذا قدر على النار ملأته ماءً، فدنى عمر من الباب
فقال: يا أم ما هذا؟ لمَ يبك أولادكِ؟
قالت: بكاؤهم من الجوع،
قال: فما هذه القدر التي عليها النار؟
قالت: قد جعلت فيها ماءً أعللهم بها حتى يناموا، أوهمهم أن فيها شيئاً من دقيق وسمن،
فجلس عمر يبكي، ثم جاء إلى دار الصدقة، فأخذ حملاً أو وعاءً، وجعل فيه شيئاً من دقيقٍ، وسمنٍ، وشحمٍ، وتمرٍ، وثيابٍ، ودراهم، ثم قال: يا أسلم أحمل هذا علي،
فقلت: يا أمير المؤمنين أنا أحمله عنك،
فقال: لا أنا أحمله، لأني أنا المسؤول عنهم في الآخرة .
ألم يقل مرةً: والله لو تعثرت بغلةٌ في العراق لحاسبني الله عنها، لمَ لمْ تصلح لها الطريق يا عمر؟ ...
فحمله حتى أتى به منزل المرأة، وأخذ القدر فجعل فيها شيئاً من دقيق وشيئاً من شحمٍ وتمر، وجعل يحركه، وينفخ تحت القدر حتى طبخ لهم، ثم جعل يغرف بيده، ويطعم الصغار حتى شبعوا، ثم ربض بجانبهم، فلم يزل حتى لعبوا وضحكوا،
ثم قال: يا أسلم أتدري لمَ ربطت بحذائهم
أي جلست إلى جانبهم؟
قلت: لا يا أمير المؤمنين،
فكرهت أن أذهب، وأدعهم حتى أراهم يضحكون، فلما ضحكوا طابت نفسي.
هذا الذي يرحم الصغار إنسانٌ عظيم، هؤلاء الصغار أحباب الله، هؤلاء الصغار رجال المستقبل، هؤلاء الصغار إذا ربّوا على الرحمة رحموا الآخرين، وشيء ثابت الآن أن الإنسان إذا ربِّي في بيت صحيح، في بيت سليم، في بيت فيه رحمة، فيه قيَم، حينما يكبر في الأعم الأغلب يرحم الناس جميعاً، لا يؤذيهم لا يظلمهم.
مساعدة زوجها على الخير:
وقال أنس بن مالك:
بينما عمر يعسُّ المدينة، أي يتحسس أخبار الرعية، إذ مر برحبةٍ من رحابها، فإذا هو بيتٌ من شعرٍ لم يكن بالأمس، فدنا منه فسمع أنين امرأة ورأى رجلاً قاعداً،
فدنا منه فسلم عليه ثم قال: من الرجل؟
فقال: رجلٌ من أهل البادية، جئت إلى أمير المؤمنين أُصيب من فضله،
فقال: ما هذا الصوت الذي أسمعه في البيت؟
قال: انطلق يرحمك الله لحاجتك ،
فقال: عليَّ ذلك، ما هو؟
قال الرجل: امرأةٌ تمخِّض ـ أي في طور الطلق ـ ،
قال عمر: هل عندها أحد؟
قال: لا.
قال أنس: فانطلق عمر حتى أتى منزله فقال لأم كلثوم بنت علي رضي الله عنها: هل لكِ من أجرٍ ساقه الله إليكِ؟
قالت: وما هو؟
قال: امرأةٌ عربية تمخِّض ليس عندها أحد،
قالت أم كلثوم: نعم إن شئت،
قال: فخذي معكِ ما يصلح المرأة لولادتها، وجيئيني ببرمةٍ، وشحمٍ، وحبوب،
قال: فجاءت به
فقال لها: انطلقي، وحمل البرمة، وهي القدر الذي يطبخ فيها، ومشت خلفه حتى انتهى إلى البيت،
فقال لها: ادخلي إلى المرأة، وجاء حتى قعد إلى الرجل
فقال له: أوقد لي ناراً، ففعل، فأوقد تحت البرمة حتى أنضجها،
وولدت المرأة
فقالت امرأته أم كلثوم: يا أمير المؤمنين بشِّر صاحبك بغلام.
فلما سمع الرجل يا أمير المؤمنين كأنه هابه، فجعل يتنحَّى عنه
فقال له: مكانك كما أنت ، فحمل البرمة فوضعها على الباب،
ثم قال لأم كلثوم: أشبعيها ، ففعلت، ثم أخرجت البرمة، ووضعتها على الباب، فقام عمر، وأخذها، ووضعها بين يدي الرجل،
فقال: كل، فإنك قد سهرت من الليل ، ففعل،
فقال عمر لامرأته اخرجي ، وقال للرجل إذا كان غدٌ فأتنا نأمر لك بما يصلحك ، ففعل الرجل ذلك، فأجازه وأعطاه.
هذه صورة أخرى من صور رحمته رضي الله عنه، وصور حرصه على رعيته.
مساعدة زوجها في توطيد العلاقات الخارجية بين المسلمين والروم:
أم كلثوم زوجة عمر تهادت مع ملكة الروم بالهدايا، فكان ذلك مشاركةً منها لزوجها خليفة المسلمين ـ حين كان يتراسل مع ملك الروم هرقل، في توطيد العلاقات الخارجية بين المسلمين والروم
قال الإمام الطبري: ترك ملك الروم الغزو، وكاتب عمر وقاربه، وسأله عن كلمةٍ يجتمع فيها العلم كله، فكتب إليه:
أحب للناس ما تحب لنفسك، واكره لهم ما تكره لها، تجتمع لك الحكمة كلها، واعتبر الناس بما يليك تجتمع لك المعرفة كلها.
وكتب إليه ملك الروم، وبعث إليه بقارورة، أن املأ لي هذه القارورة من كل شيء، فملأها عمر ماءً، وكتب إليه: إن هذا كل شيء، من الدليل: ( وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ )
الآن... بعثت أم كلثوم إلى ملكة الروم بطيبٍ وأحفاشٍ من أحفاش النساء ـ أوعية للطيب ـ وأرسلته مع البريد، فلما وصل جاءت امرأة هرقل، وجمعت نساءها وقالت: هذه هدية امرأة ملك العرب، وبنت نبيهم ، ثم كاتبتها، وكافأتها فأهدت إليها، وكانت فيما أهدت إليها عقدٌ فاخر، فلما انتهى به البريد إلى عمر، أمر بإمساكه، ودعا الصلاة جامعة فاجتمعوا، فصلى بهم ركعتين
وقال:إنه لا خير في أمرٍ أُبرم عن غير شورى من أموري، قولوا في هديةٍ أهدتها أم كلثوم لامرأة ملك الروم، فأهدت لها امرأة الروم .
فقال قائلون: هو لها بالذي لها، وليست امرأة الملك بذمةٍ فتصانع به، ولا تحت يدك فتتقيك .
وقال آخرون: قد كنا نهدي الثياب لنستثيب، ونبعث بها لتبتاع، ولنصيب ثمناً .
فقال عمر: ولكن الرسول ـ أي مراسل البريد ـ رسول المسلمين والبريد بريدهم، والمسلمون عظَّموها في صدورهم ـ أي لأم كلثوم ـ فأمر بردها لبيت المال، ورد عليها بقدر نفقتها.
أي أن هذه الهدية التي جاءت أم كلثوم من امرأة ملك الروم ردتها لبيت مال المسلمين، أخذ الأحوط رضي الله عنه، وهذا هو الورع،
فسرَّت أم كلثوم لصنيع عمر الذي لم يرضَ أن تسخَّر سلطة الخلافة لأمورٍ شخصية، ما دام البريد بريد المسلمين، والإرسال من قِبَل المسلمين، فلابدَّ من أن ترد هذه الهدية لبيت مال المسلمين.
الخلاصة:
أيها الإخوة... لنا وقفةٌ أخرى مع هذه الصحابية الجليلة، بنت علي بن أبي طالب، بنت السيدة فاطمة، بنت بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونساء الصحابة قدوةٌ لنسائنا، المرأة صنو الرجل في التكليف، والتشريف، والمسؤولية، مكلفةٌ كما هو مكلَّف، مشرفةٌ كما هو مشرف، مسؤولةٌ كما هو مسؤول، وأيَّة نظرةٍ كما أقول دائماً إلى المرأة غير هذه النظرة، فهي نظرةٌ جاهلية لا تليق بالمسلم.
والإنسان حينما يعتني بأهله، ويربيهم التربية الصحيحة، يسعد بهم لأنهن يشاركنه في كل قضايا الحياة التي يعانيها.