أيها الإخوة الكرام... مع سير الصحابيِّات الجليلات رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، ومع الصحابية الجليلة السيدة زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلَّم.
معاناة الرسول صلى الله عليه وسلم:
في عام الحزن هلكت السيدة خديجة رضي الله عنها، وأبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلَّم، كُتَّاب السيرة سمّوا هذا العام: " عام الحزن "، والحزن خصائص الحياة الدنيا..
إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، ومنزل ترحٍ لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة جار عُقبى
الحزن خلاَّق، الحزن يفجِّر الطاقات، الحزن يكشف القيَم، الحزانى في كنف الله..
إن الله تعالى يحب كل قلب حزين.
الحزانى معرَّضون للرحمة.
الإنسان إذا قرأ قوله تعالى: ( وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)
أيها الإخوة... الإنسان بالحُزن يُكشف معدِنه، بالحزن يظهر إيمانه، بالحزن ينكشف صبره، بالحزن تتفجَّر طاقاته، بالحزن يتقرَّب من ربه.
لذلك النبي عليه الصلاة والسلام، وهو سيد الخلق، وحبيب الحق، هو قدوةٌ لنا، في عامٍ واحد توفِّيت زوجته السيدة خديجة، السيدة خديجة عاشت معه خمساً وعشرين سنة، خمس عشرة سنة قبل البعثة، وعشر سنوات بعد البعثة، كانت خلالها المرأة الطاهرة النقية، الزوجة الوفية المخلصة، التي بذلت في سبيل الدعوة كل غالٍ ورخيص، بذلت كل ما تملك، من ثروةٍ مادية، ومكانةٍ اجتماعية، وهيبةٍ معنوية، وشرفٍ شامخ، وعزٍ وبذخ، كانت من خلال كل ذلك تقدم للنبي عليه الصلاة والسلام العطاء كل العطاء من قلبها ونفسها وهي راضية.
السيدة خديجة مثال الزوجة التي تقف وراء زوجها معاونةً، داعمةً، صابرةً، مصبِّرةً،
لذلك عليه الصلاة والسلام وفاءً منه لها حينما فتح مكة قال: انصبوا لي خيمةً عند قبر خديجة.
ونصب على قبرها لواء النصر، لأنها لم تكحِّل عينيها بفرحة النصر، فحينما نصب هذا اللواء على قبرها، ونصب خيمة إلى جانب قبرها إشعاراً بأن لها فضلاً على هذه الدعوة، طبعاً..( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً )
لما هلك أبو طالب نالت قريش من النبي عليه الصلاة والسلام من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب، حتى اعترضه سفيهٌ من سفهاء قريش، وبالغ في إيذاء النبي، فدخل عليه الصلاة والسلام بيته، فقامت إليه إحدى بناته وهي تبكي، ورسول الله صلى الله عليه وسلَّم يقول لها: لا تبكِ يا بنية فإن الله مانع أباكِ.
وقال عليه الصلاة والسلام: ما نالت مني قريشاً شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب.
النبي قدوة، ذاق الفقر، دخل بيته فقال: هل عندكم شيء ؟، فقالوا: لا ولا شيء ، قال: فإني صائم.
ذاق الغني، لمن هذا الوادي من الغنم يا رسول الله ؟ ، قال: هو لك، قال: أتهزأ بي ؟، قال: والله هو لك
ذاق القهر في الطائف..
إن لم تكن ساخطا علي فلا أبالي....
ذاق النصر في فتح مكة، دخلها مطأطئ الرأس متواضعاً لله عزَّ وجل،
ذاق المرض، ذاق الصحة، ذاق موت الولد..
إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ.
وذاق موت الزوجة، وذاق تطليق البنات، طُلِّقت بنتاه مبالغةً في إيذائه، وذاق الهجرة، وذاق المرض، وذاق الإخراج من بلده، كل شيءٍ ذاقه، ووقف الموقف الكامل من كل الظروف الصعبة التي مرَّ بها، لذلك كان قدوةً لنا، وأسوةً، وما لا يتم الفرض إلا به فهو فرض، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وما تتم السنة إلا به فهو سنة، وحينما قال الله عزَّ وجل: ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ )
هجرة النبي صلى الله علية وسلم وخوفها عليه:
أصبحت زينب رضي الله عنها ذات يومٍ، ومكَّة من أدناها إلى أقصاها تتحدث عن مطاردة قريشٍ لأبيها النبي عليه الصلاة والسلام، وولاء البنت لأبيها معروف عند كل أب.
النبي عليه الصلاة والسلام ترك مكة مهاجراً إلى يثرب، وليس معه سوى صاحبه الصديق أبي بكرٍ رضي الله عنه، زينب كانت مضطربة، خائفةً على أبيها أياماً وأياماً، حتى جاءها خبر وصوله إلى يثرب، فزال عنها كربُها، وسرًّت بسلامة أبيها صلى الله عليه وسلَّم، ووصوله إلى دار مأمنه في الهجرة.
بقائها وحيده في مكة:
ولم تمضِ إلا أشهرٌ معدودات حتى أرسل النبي عليه الصلاة والسلام إلى أختيها فاطمة وأم كلثوم من يحملها إليه في دار الهجرة، وكانت رقيَّة قد هاجرت كذلك من قبل، وبقيت زينب وحدها في مكة مع زوجها أبي العاصي بن الربيع الذي لم يسلم، إذ لم يكن الإسلام قد فرَّق بينهما ـ أي لم ينزل الحكم الشرعي الذي يفرِّق بين الزوجة المسلمة والزوج الكافر ـ فبقيت في مكة وقد غادرها الأهل، وتنتظر وقت اللحاق بأبيها رسول الله صلى الله عليه وسلَّم في دار الهجرة..
زوجها أسير بيد المسلمين وفدائها له:
ولمَّا علمت زينت لما حصل لأبي سفيان، وتعرُّض قافلته من قِبَل الصحابة، ورأت قريشٌ أن تقاتل النبي عليه الصلاة والسلام، ولم تمضِ إلا أيامٌ قليلة حتى خرجت قريشٌ بخيلها وخُيلائها، تقصد النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه، ناويةً استئصالهم من دار هجرتهم.
غير أن قريش لم تصل إلى قصدها، وذاقت كؤوس المنايا في بدر، وكانت بدر تلطيخاً لها في الوحل، وأعزَّ الله الإيمان والإسلام، وخذل أهل الكفر والشرك والطغيان، وانتقل خبر الانتصار العظيم قبل وصول الفلول المنهزمة إلى مكة.
طبعاً فرحت زينب فرحاً شديداً بانتصار أبيها النبي وأصحابه، حتى قامت لله عزَّ وجل شاكرةً لهذا النصر المؤزَّر.
وحين جاءت فلول الجيش مهزومةً، علمت أن زوجها كان من جملة الأسرى. تصور زينب في مكة، غافلها زوجها، وانضمَّ إلى جيشه - جيش قريش - ليحارب النبي وهو عمه، وقع أسيراً، وقد كنت ذكرت لكم من قبل أن النبي عليه الصلاة والسلام حينما استعرض الأسرى، مرَّ به، فقال عليه الصلاة والسلام وفاءً منه بحق القرابة،
قال: والله ما ذممناه صهراً.
هو الآن مقاتل ومشرك، أما كزوج ما ذممناه، الدليل أن زوجي ابنتيه اللذين طلَّقا زوجتيهما، أبو العاصي لم يفعل ما فعلاه، وأبى أن يطلِّق زوجته، مع أنه جاءه ضغطٌ شديد ليطلِّق زوجته نكايةً بالنبي عليه الصلاة والسلام، لم ينسها له.
النبي كان وفي إلى درجة مذهلة، في أحد الصحابة نزع عن كتفه ريشة، رفع النبي يديه عليه الصلاة والسلام
وقال: جزاك الله خيراً.
فأجمل صفة بالإنسان الوفاء..
وفاء النبي عليه الصلاة والسلام شيء لا يوصف، وفاؤه لمن أرضعته، وفاؤه لمن ربَّته، وفاؤه لكل من ساهم وقدَّم له شيء، فالله عزَّ وجل يقول: ( وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ )
فأسوأ صفة في الإنسان اللؤم، اللؤم أن يقف الكريم بباب اللئيم ثم يردُّه،
طبعاً يبدو أن أهل أبي العاصي بن الربيع أغنياء، لكن زينت تحب زوجها، وزوجها لم يُسلم بعد، فهذا الحب بين الزوجين هو من خلق الله..
(وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً)
الحب بين الزوجين من خلق الله.. ( وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً)
زوجها مأسور عند أبيها، وأهل زوجها أغنياء مستعدون أن يقدِّموا أعلى فديةٍ لإنقاذ ابنهم، ماذا فعلت زينب مع زوجها الذي لم يرضَ أن يسلم، وبقي على كفره ؟ أرادت أن تلقِّنه درساً إيجابياً لا درساً سلبياً، درساً يحرِّك مشاعره، أرسلت في فدائه بشيءٍ ثمينٍ جداً، قلادةٍ قدَّمها النبي عليه الصلاة والسلام لأمها خديجة يوم عُرسها، وخديجة قدَّمت هذه القلادة لابنتها زينب، وزينب أرسلت هذه القلادة لأبيها كي تكون فداءً لزوجها.
النبي عليه الصلاة والسلام تفقَّد الأسرى واحداً وَاحداً، وإذا به يصادف صهره أبا العاصي، فينظر إليه النبي عليه الصلاة والسلام نظرة الرفق والأسى عليه.
فالعم أب،
لك أبٌ أنجبك، ولك أبٌ زوجك، ولك أبٌ دلَّك على الله.
الأب الذي أنجبك هو الأب النَسَبي، أما الأب الذي زوجك أي أن هذه الزوجة ربَّاها لك عمك ثمانية عشرَ عاماً، كم مرة عالجها ؟ وكم مرة سهر من أجلها ؟ وكم مرة اعتنى بها ؟ وكم مرة دفعها إليها الدراهم ؟ وكم مرة جاء لها بكل حاجاتها ؟ وبعد أن نضجت، وأصبحت فتاةً ملء السمع والبصر، يتنكَّر الزوج لعمِّه ؟! والله هذا منتهى اللؤم، عمك أي والد زوجتك والدك من بعض المعاني، لك أبٌ أنجبك، وأبٌ زوجك، وأبوٌ دلَّك على الله.
فلما استعرض النبي الأسرى فإذا بصهره بين الأسرى، فطأطأ أبو العاصي رأسه حياءً وخجلاً، وهو لا يدري ما هو صانعٌ فيه،
وقال: والله ما ذممناه صهراً.
عن عائشة رضي الله عنها قالت:
لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم، بعثت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلَّم في فداء أبي العاصي بن الربيع بمالٍ، وبعثت فيه بقلادةٍ لها كانت خديجة رضي الله عنها أدخلتها بها على أبي العاصي حين بنى بها، قالت: فلما رآها النبي عليه الصلاة والسلام رقَّ لها رِقَّةً شديدةً وبكى.
ابنته وصهره، صهره أسير، وابنته في مكة، وأرسلت إلى أبيها قلادةً تلقتها من أمها خديجة يوم عرسها، فلعلَّ الأب يجود لها بزوجها من خلال هذه القلادة، وقال عليه الصلاة والسلام ـ شيء لا يصدَّق، تواضع، هو سيد المجتمع، هو النبي، هو القائد العسكري، هو الحاكم، هو الذي يُوحى إليه، هو الذي إن تكلَّم أو فعل ففعله سنة،
عَائِشَةَ قَالَتْ:
لَمَّا بَعَثَ أَهْلُ مَكَّةَ فِي فِدَاءِ أَسْرَاهُمْ بَعَثَتْ زَيْنَبُ فِي فِدَاءِ أَبِي الْعَاصِ بِمَالٍ وَبَعَثَتْ فِيهِ بِقِلَادَةٍ لَهَا كَانَتْ عِنْدَ خَدِيجَةَ أَدْخَلَتْهَا بِهَا عَلَى أَبِي الْعَاصِ قَالَتْ فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَقَّ لَهَا رِقَّةً شَدِيدَةً
وَقَالَ إِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُطْلِقُوا لَهَا أَسِيرَهَا وَتَرُدُّوا عَلَيْهَا الَّذِي لَهَا فَقَالُوا نَعَمْ....
أي إذا شئتم. ترك أمر ابنته لأصحابه، ترك أمر فداء صهره لأصحابه، هذا منتهى التواضع، منتهى بالتعبير المعاصر ـ الديمقراطيَّة ـ منتهى الشعور أنه واحدٌ من أصحابه، والرأي رأي الجميع،
قال:إِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُطْلِقُوا لَهَا أَسِيرَهَا وَتَرُدُّوا عَلَيْهَا الَّذِي لَهَا،
طبعاً قالوا: نعم يا رسول الله
فأطلقوه وردوا عليه الذي لها.
تركها زوجها ومغادرتها مكة:
وكان عليه الصلاة والسلام قد أخذ عليه عهداً أن يُخَلِّي سبيل زينب إليه ـ لأنه هو كافر بقي على كفره، ونزل التشريع أنه لا يجوز لامرأةٍ مسلمة أن تكون تحت كافر ـ أخذ عليه العهد أن يخلي سبيل زينب إليه.
ولمَّا خرج أبو العاصي إلى مكة وفَّى بعهده، وخلَّى سبيل زوجته لتهاجر إلى أبيها،
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ عَلَيْهِ أَوْ وَعَدَهُ أَنْ يُخَلِّيَ سَبِيلَ زَيْنَبَ إِلَيْهِ وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَرَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ
فَقَالَ كُونَا بِبَطْنِ يَأْجَجَ حَتَّى تَمُرَّ بِكُمَا زَيْنَبُ فَتَصْحَبَاهَا حَتَّى تَأْتِيَا بِهَا.
فخرجا مكانهما بعد بدرٍ بشهر، فلما قدم أبو العاصي مكة أمرها باللحوق بأبيها وفاءً لعهده ـ كان أخلاقيًا، إنه مشرك، لكنه أخلاقي ـ أولاً لم يطلق زوجته نكايةً بأبيها، بينما عديلاه إن صح التعبير طلقا زوجتيهما، واستجابا للضغط، والشيء الثاني أنه عاهد النبي على إطلاق سراح زينب، وردَّها إلى رسول الله، وفعل، لأن زوجة غالية جداً.
فلما فرغت بنت رسول الله من جهازها قدَّم لها حموها كنانة بن الربيع أخو زوجها، كلَّفوا أخا زوجها أن يأخذها من بيتها إلى بعد ثمانية أميال من مكة، لتذهب مع الصحابيين إلى رسول الله، قدَّما لها بعيراً ركبته، وأخذ أخ زوجه قوسه وكنانته، ثم خرج بها نهاراً يقود بها على هودجٍ لها، وأخذت زينب تنظر إلى جبال مكة وهضابها مودعةً لها، ولعلَّها لا تعود إليها أبداً.
النبي عليه الصلاة والسلام في بعض أيام الربيع جاء رجل من مكة وصف له جبال مكة الخضراء في الربيع،
فالنبي انهمرت دمعةٌ على خذه وقال يا أُصَيل لا تشوقنا،
الهجرة صعبة، إذا الإنسان ترك بلده واقتلع من جذوره، عندما خرج النبي من مكة قال: اللّهُمَّ إِنَّكَ أخْرَجْتَني مِنْ أَحَبَّ الْبِقَاعِ إِلَيَّ فَأَسْكِنِّي في أَحَبِّ الْبِلاَدِ إلَيْك.
فقالوا: مكة أحب البلاد إلى النبي، والمدينة أحب البلاد إلى الله.
ما الذي حصل ؟ ودَّعت جبال مكة، وكانت ترجو أن يخرج معها زوجها مسلماً مهاجراً إلى الله تعالى ورسوله، ولكن خيَّب رجاءها، وما أرادت أن تَمُنَّ عليه في سعيها عند أبيها بإطلاق سراحه،
هناك امرأة إذا كانت أغنى من زوجها قليلاً تقول له: لولاي ما صرت، إذا كان ساكنًا في بيتها تقول له: هذا بيتي، أنت ليس لك بيت، المرأة غير المؤمنة لو تفوَّقت على زوجها قليلاً لملأت سمعه مِنَّةً وكلاماً لا يُحتمل، فمع أنها هي السبب في إطلاق سراحه، وقدَّمت قِلادتها الثمينة، وأطلق النبي سراحه إكراماً لابنته، ولم تمنَّ عليه، وبقي مشركاً، كانت تتمنَّى أن تذهب إلى المدينة مع زوجها، ليلتئم الشمل.
يبدو أن أهل مكة علموا أن بنت رسول الله ستلتحق بأبيها، وعقب معركة بدر، والدماء لا تزال ساخنة، والجراح عميقة، والألم شديد فخرجوا في طلبها، حتى أدركوها بذي طوى، فكان أول من سبق إليها هبَّار بن الأسود، فروَّعها بالرمح وهي في هودجها، وكانت حاملاً فلما ريعت طرحت ذا بطنها ـ أسقطت ـ وبرك حموها كنانة، ونثر كنانته،
ثم قال: والله لا يدنو مني رجلٌ إلا وضعت فيه سهماً ،
فتباعد الناس عنه ـ أي رجعوا ـ
وأتى أبو سفيان، وكان حكيماً، في جُلَّةٍ من قريش فقال: أيها الرجل كفَّ عناَّ نبلك حتى نُكَلِّمك،
فكفَّ، فقال أبو سفيان: إنك لم تصب ـ أي ما أصبت في هذا العمل ـ خرجت بالمرأة على رؤوس الناس علانيةً، وقد عرفت مصيبتنا ونكبتنا، وما دخل علينا من محمد، فيظن الناس إذا خرجت بابنته إليه علانيةً على رؤوس الناس، من بين أظهرنا أن ذلك ذلٌ أصابنا عن مصيبتنا التي كانت، وأن هذا منا ضعفٌ ووهنٌ، ولعمري ما لنا بحبسها عن أبيها حاجة، وما لنا من ثأرٍ نثأره منها، ولكن ارجع بالمرأة حتى إذا هدأت الأصوات، وتحدَّث الناس أن قد رددناها، فَسُلَّها سراً، وألحقها بأبيها
ففعل.
فعلاً هذه حكمة، أخرجها علانيةً على رؤوس الأشهاد، والجراح ساخنة، فالرجال ما تحمَّلوا، أرجعوها، وفعلاً في الليل انسلَّ بها خفيةً، وألحقها بسيدنا زيد وصاحبه كي تأتي إلى النبي عليه الصلاة والسلام.
أقامت ليالي حتى إذا هدأت الأصوات، خرج بها ليلاً حتى أسلماها لزيد بن حارثة وصاحبه، فقدما على النبي صلى الله عليه وسلَّم.
استجارة زوجها بها وتأمينها له:
ولما وصلت زينت إلى أبيها رسول الله استقبلها استقبالاً حاراً، وهتف الناس بهجةً بوصولها بسلام، وما إن استراحت من عناء السفر أَخبرت أباها بما فعلها الرهط من قريش معها.
وتقيم زينب بقرب النبي عليه الصلاة والسلام، وأَنِسَت بأخواتها في المدينة، حتى كان العام السادس من الهجرة، إلى أن وقع أبو العاصي في أسر الصحابة ـ زوجها مرة ثانية وقع أسيراً ـ بعد أن تعرَّضت قافلته بسبعين ومئة من الصحابة، فأخذوا قافلته، وأسروا أناساً كثيرين منهم أبو العاصي، فجاؤوا بهم إلى المدينة.
أبو العاصي له تجارة من الشام إلى مكة، خرج مئة وسبعون من الصحابة الكرام ـ طبعاً في حالة حرب بينهما ـ أسروا هذه القافلة، وأخذوها إلى النبي عليه الصلاة والسلام، لكن أبا العاصي فر منهم، واستجار بزوجته زينب.
طبعاً دخلت زينب، أطلَّت برأسها من إحدى حُجَر النبي على أصحاب رسول الله وفيهم النبي يصلي فيهم،
وقالت: إني أجرت أبا العاصي
زوجها،
فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أنا أسمع معكم ،
ليس هناك اتفاق بينهم، والنبي عليه الصلاة والسلام أمضى جوار ابنته زينب لأبي العاصي.
طبعاً الصحابة أعلموه أنه إذا أسلمت هذه القافلة الكبيرة جداً تصبح غنائم حرب، هي لقريش، الأموال أموال استثمار إن صحَّ التعبير، فهذه أموال قريش،
فقالوا: إذا أسلمت الآن تنقلب هذه البضاعة كلها غنائم،
فقال أبو العاصي كلمة رائعة، قال: والله ما أبدأ إسلامي بهذا
ما أحب أن يبدأ إسلامه بأكل أموال الناس، مع أنه مغطىً شرعاً، حالة حرب، وهذه بضاعة غنائم،
فقال عليه الصلاة والسلام: إن هذا الرجل منا قد علمتم أصبتم له مالا، فإن تحسنوا، وتردوا عليه الذي له فإنا نحب ذلك.
النبي حكيم، هذا رجل أخلاقي، فالأخلاقي ما الذي يذيبه ؟ ما الذي يأسره ؟ أن تكون أنت معه أخلاقي، أول أخلاقية له رفض يطلق زوجته، ثاني أخلاقية رفض أن يُسلم، وأن يأخذ كل هذه البضاعة له، والنبي خيرهم مرة ثانية ـ
قال: وإن أبيتم فهو فيء الله الذي أفاءه عليكم فأنتم أحق به....
فقالوا: يا رسول الله بل نرده عليه.
إسلام زوجها ورجوعها إليه:
رجعت له كل أمواله، ثم حمل هذا إلى مكة فأدى إلى كل ذي حقٍ حقه ـ سلَّم الناس حقوقها ـ ومن كان أبضع معه بضاعةً أعطاه بضاعته ـ الذي أعطاه مال أعطاه مال، والذي أعطاه بضاعةً أعطاه بضاعةً
ثم قال ـ الآن جاء ردَّ فعله الأخلاقي
ثم قال: يا معشر قريش هل بقي لأحدٍ منكم عندي مال لم يأخذه ؟
قالوا: لا فجزاك الله خيراً، فقد وجدناك وفياً كريماً،
قال: إذاً فأنا أشهد أنه لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله.
أرأيت توقيت إسلامه متى ؟ متى وقَّت إسلامه ؟ بعد أن ردَّ الأموال إلى أصحابها أعلن إسلامه، لمَ أعلن إسلامه ؟ لأنه تلَّقى من عمه معاملة طيبة جداً،
قال: والله ما منعني من أن أسلم وأنا عنده إلا مخافة أن تظنوا إنما أردت أن آكل أموالكم، فلما أدَّها الله إليكم وفرغت منها
فأفضل وقت إسلامه كان بعد أن أدى الأموال إلى أصحابها.
ثم خرج حتى قدم على النبي صلى الله عليه وسلَّم، وكان ذلك سنة سبعٍ، فاستقبله عليه الصلاة والسلام ـ والله فرحة كبرى، زوج ابنته وصهره كان مشركاً فأسلم، وجاء إلى المدينة ـ استقبله عليه الصلاة والسلام استقبال المهاجرين إلى الله تعالى ورسوله، وردَّ عليه صلى الله عليه وسلَّم زينب على النكاح الأول، لم يحدث شيئاً من شرطٍ أو غيره، هي زوجته وهو زوجها، فلما نزل الوحي بأنه لا يجوز أن تبقى مسلمةٌ تحت مشرك، أخذها منه النبي، فلما أسلم، ردَّها على الزواج الأول وانتهى الأمر.
والله قصَّة مؤثرة جداً، فيها أحكام، فيها كمال، فيها وفاء، فيها رحمة، في إحسان، في عواطف زوجيَّة، فيها عواطف أسرية، فيها موقف عم موقف أب، موقف زوج، موقف زوجة.
وبهذا تحقَّق للسيدة زينب رجاؤها بإسلام زوجها أبو العاصي بن الربيع، ويعود الحبيبان الكريمان إلى الحياة الزوجيَّة الآمنة المطمئنة، ويجتمع الشمل بعد فراقٍ طويل.
لذلك قالوا: مِنْ أَفْضَلِ الشَّفَاعَةِ أَنْ يُشَفَّعَ بَيْنَ الاثْنَيْنِ فِي النِّكَاحِ.
وأنا أقول لكم: لا يقل عن هذا العمل أن تشفع بين اثنين في نكاح، وأن توفِّق بين زوجين بينهما مشكلة، بينهما قطيعة، بينهما بغضاء، بينهما عداوة، إذا وفَّقت بين الزوجين أسعدتهما، وأسعدت أولادهما، لذلك هذا الذي ينسحب من كل عمل صالح إنسان ما عرف سرَّ وجوده، مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا
مرَّة قلت لكم: أحد إخواننا الكرام شكا زوجته إلى أخيها، فقال له: طلِّقها. كلمة واحدة، الله عزَّ وجل قال..
( إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا )
إنّ الله عزَّ وجل يريد الإصلاح، يريد التوفيق لذلك الآية الكريمة الدقيقة: ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ )
المؤمن أحد أهم أعماله أنه يصلح دائماً بين المتخاصمين، ولاسيما إذا كانا زوجين.
وفاتها:
وبعد مضي عامٍ واحد من اجتماع شمل الزوجين اللذين جمع بينهما الإسلام والإيمان والهجرة كان الرحيل المهيب، فقد توفِّيت زينب، بعدما عاش زوجها معها عاماً واحدًا.
ثمة عمر قصير، لكنه غني، وهناك عمر طويل، لكنه فقير، هناك علماء أجلاء عاشوا أقل من خمسين سنة، الذي فتح الصين، وأوصل الإسلام إلى هناك مات في السادسة والثلاثين، والشافعي مات دون الخمسين، والإمام النووي مات دون الخمسين، أي في السابعة والأربعين، ولكنه ترك أعمالاً لا يعلمها إلا الله، فالعبرة بغنى العمر، لا بامتداده، وأثمن عمر على الإطلاق عمر النبي، لذلك أقسم الله جلَّ جلاله بهذا العمر فقال: ( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ)
والإنسان كلَّما ازداد إيمانه، وأجرى الله على يديه الخير يزداد عمره قيمةً، وكل إنسان له عمر، العبرة بمحتوى العمر لا بامتداده، الامتداد ليس له قيمة أبداً، أتفه شيءٍ في العمر امتداده، وأثمن شيءٍ في العمر مضمونه، ماذا فعل ؟
فكل إنسان ماذا ترك ؟ هذا سؤال كبير، اسأل نفسك هذا السؤال: ماذا قدَّمت للبشرية ؟ قدمت علمُا، قدمت عملاً، قدمت مشروعًا خيريًا، قدمت منهجًا، أصلحت ذات البين، حللت مشكلة، ماذا قدمت ؟ حجمك عند الله بحجم عملك الصالح.
الخلاصة:
فالسيدة زينب أسرعت في إيمانها بأبيها، وتمنَّت من كل قلبها لو آمن معها زوجها، ولكن الله في النهاية حقَّق لها هذا الأمل، واقعك الآن سيِّئ، لك طموحات ما تحقَّقت، من يدريك أن الله سبحانه وتعالى يمكن في المستقبل أن يحقق لك طموحك ؟ كانت أعلى أمنية لها أن ترى زوجها في المدينة معها، جاءت وحدها إلى المدينة، زوجها أرجع الأموال لأصحابها، ثم أعلن إسلامه، والتحق بزوجته، فحقَّق الله لها حلمها.
والشيء الثاني: الأخلاقي لا تستطيع أن تأسره إلا بالأخلاق، فالنبي عرف أن هذا الإنسان أخلاقي، لكنَّه مشرك، فأولاً أثنى عليه لما كان أسيراً، أطلقه من إساره، قَبل إجارة ابنته له، ثم ردَّ له أمواله، هذه الأعمال الطيِّبة تراكمت حتى حملته على أن يُسلم.
فأحياناً ألف عمل ذكي مخلص حكيم تشد إنسانًا لك، تصرُّف واحد أحمق يبعده عنك، الإنسان أحياناً يخسر أخاه بكلمة، ويربحه بجهد كبير، بجهد دؤوب، وبأعمال متلاحقة يربحه، ويخسره بكلمة.
فالإنسان يكون دقيقًا في كلامه، دقيقًا في معاملته، يدرس كل تصرفاته، وإلا يخسر أصدقاءه بثمن قليل.
أرجو الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بما علَّمنا، وأن يلهمنا الخير.