بحث

الزبير بن العوام حواريِّ رسول الله

الزبير بن العوام حواريِّ رسول الله

بسم الله الرحمن الرحيم

ترجمة عن حياة هذا الصحابي الجليل الزبير بن العوام :  

      أُمُّهُ صَفِيَّة بن عبد المُطَّلِب عَمَّةُ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم أسْلَمَتْ وأسْلم الزُّبير وهو ابن ثماني سنين، وقيل: ابن ست عشْرة سنة، فَعَذَّبه عمُّهُ بالدُّخان، لِكَي يتْرُك الإسلام فلم يفْعل، وهاجر إلى أرضِ الحَبَشَة الهِجْرَتين جميعاً، ولم يتَخَلَّف عن غزوةٍ غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلّم .  

      يقول أحدهم: أنا لا أتَخَلَّفُ عن تعلم أمور الدين، ولكن ماذا في تعلم أمور الدين؟ لا عِبءٌ ولا تضْحِيَة ولا سَفْك دم، ومع ذلك لُزوم مجالس العِلْم عَمَلٌ عظيمٌ، وهذا الوقت زكاةُ وقْتِكَ كُلِّه، والله عز وجل قادِرٌ على أنْ يُضَيِّع لك عشرات الساعات بل المئات في الأمور التافِهَة، وإذا أدَّى القويُّ من قوَّته لِنُصْرة الحق فقد أدَّى زكاة قُوَّتِه، والمُتَعّلِّم إذا علَّم الناس أدى زكاة عِلْمِه، والخبير إذا أدى خِبْرَته للناس أدى زكاة خِبْرته، وطالب العلم إذا بذل وقْته لِمَعْرفة الله عز وجل فقد أدى زكاة وقْتِهِ، والحقيقة أنَّ كلَّ حظٍّ آتاك الله إياه فهو له زكاة، والدليل قوله تعالى: ( ومما رزَقْناهم يُنْفِقون)  

      وهو أوَّل من سلَّ سيْفاً في سبيل الله، وكان عليه يوم بدْرٍ ريقةٌ صفْراء مُعْتَجِراً بها، أيْ قُماشٌ أصْفر لَفَّهُ على رأسه، وكان على مَيْمَنَة رسول الله، وثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وبايَعَهُ على الموْت، وفي الحقيقة حين يبْذل الإنسان حياته في سبيل الله فقد بذل أثمن ما يَمْلكه، والجود بالنَّفْس أقْصى غاية الجود .  

      من أبْنائِهِ المشْهورين: عبد الله بن الزبير، هذا الذي رآه عمرُ مع صِبْيَةٍ يلْعبون فَتَفَرَّقوا جميعا إلا هو، فلما وصَلَ إليه، قال:  يا غُلام لما لم تهْرُب مع من هرَبَ؟ قال: أيها الأمير، لسْتَ ظالِماً فأخْشى ظُلْمَك، ولَسْتُ مُذْنباً فأخْشى عِقابك، والطريق يَسَعُني ويَسَعُك  

 درجته في الإسلام :  

      تَرْوي كُتُب السيرة أنَّ إسلام هذا الصحابي الزبير بن العوام، كان رابِعاً أو خامِساً بعد إسْلام أبي بكرٍ، هؤلاء السابقون الأولون، والإنسانُ في ساعة العُسْرة إذا آمن فله حِسابٌ خاص، لذلك قال الله عز وجل: ( لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ)  

      فالذي آمن مع النبي عليه الصلاة والسلام في أشدِّ حالات الضعْف والعُسْرة والضِّيق، والناسُ كلهم أعْداؤُهُ، وقُريش تكيد له، فهذا من ذوي البذل والتضحية، أما الذي يُسْلم بعد الفَتْح فالقَضِيِّة سهْلة، لأن هذا جاء وقت أقل صعوبة، لكن البطولة أن تؤمن بالحق وهو ضعيف، والله عز وجل قادر أن يجعل الأنبياء ملوكا، فإذا دعوا إليه انصاع الناس إليهم جميعا خوفا لا إيمانا، ولكن لحكمة أرادها الله عز وجل جعل الأنبياء ضعافا، حيث إنك لو قلت عنه: إنه مجنون أو ساحر أو كاهن أو شاعر، فإنك تنام مساءً مطمئنّ البال، ولا شيء عليك، من أجل أن يكون مَن آمن به قد آمن به عن قناعة ما بعدها قناعة، وله أجرٌ عظيم، وهذا أيضا ينسحب بشكلٍ أو بآخر على الدعاة إلى الله، لأن هذا الداعي ليس عنده شيء، لا يقدر أن يعينك بمنصب، ولا يقدر أن يعطيك مالاً، وليس عنده أيّةَ ميزة، إلا أن الحق معه، فإذا اتبعته وسرت على منهج الله عز وجل بمعيته، ولم يأتك شيء من الدنيا فقد أثبت أنك مع الحق، فقوّة المؤمنين تكمن في أنهم آمنوا بالنبيّ وهو ضعيف، قال تعالى: ( قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلَا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)  

مواقفه :  

      عن سعيد بن المسيّب، قال:   

       أوّل من سلّ سيفاً في سبيل الله الزبير بن العوام، بينما هو بمكة إذ سمع يعني صوتاً بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد قتل، فخرج وفي يده السيف مُصلتاً مسحوبا من غِمده، فتلقاه النبي، وقال له: ما لك يا زبير؟ قال: سمعت أنك قد قُتلتَ، قال: فماذا كنتَ صانعًا؟ قال: أردتُ واللهِ أن استعرض أهل مكة بهذا السيف، من شدّة حبّه للنبي عليه الصّلاة والسلام، فدعا له النبي عليه الصلاة والسلام  

       باع الزبيرُ داراً له بستمئة ألف، قال: فقيل له: يا أبا عبد الله غُبِنتَ، قال: كلا، واللّه لتعلمنَّ أني لم أُغبَن، هي في سبيل الله .  

      أعجبني في هذا الموضوع موقفا رائعا، اختلف اثنان على مبلغ، كلٌّ يدّعي أنه له، وكان الحلُّ أن يُدفع هذا المبلغ لعملٍ صالح بكامله، وكل إنسان يأخذ أجره عند الله عز و جل بنصيبه الحقيقيِّ منه .   

      وعن عليِّ بن زيدٍ، قال:  أخبرني من رأى الزبير، وإن في صدره مثلُ العيون من الطعن والرمي  

      أحيانا يفتخر الإنسان بآثار خوضه للمعارك، وآثار خوضه للغزوات، كلها تشهد له يوم القيامة، كيف أن أهل المعصية تشهد       عليهم جلودهم وأيديهم وأرجلهم، كذلك أهل الإيمان تشهد لهم؟ هناك فرقٌ كبير بين مَنْ تشهد لهم، ومَنْ تشهد عليهم؟ .  

      قال الزبير بن العوام:  من استطاع منكم أن يكون له جَنْيٌ من عملٍ صالح فليفعل  

      وهذا الموضوع دقيق، فكل إنسان له مقام عند الله بحجم عمله الصَّالح، فالإنسان يحاسب نفسه حساباً عسيرًا، فإن حاسب نفسه في الدنيا حسابا عسيراً كان حسابه يوم القيامة يسيرًا، وإن حاسبها حسابا يسيرا كان حسابه يوم القيامة عسيرا .  

وصيته لابنه عبد الله بن الزبير :  

      عن عبد الله بن الزبير، قال:   

       جعل الزبيرُ يوم الجمل يوصيه، يقول: إن عجزتَ عن شيء فاستعن عليه بمولاي، قال: فو الله ما فهمتُ ما أراد حتى قلتُ: يا أبت من مولاك؟ قال: الله قال عبد الله بن الزبير: فو الله ما وقَعْتُ في كُرْبة من دَيْنٍ إلا قُلْتُ: يا مولى الزبير اِقْضِ عني فَيَقْضيهِ  

      والإنسان كلما قوي إيمانه تمتَّنتْ علاقته بالله عز وجل، ويطلب من الله مباشرة، والناس ينهمكون بالوسائط وبالأسباب،   

أمّا سيدنا زكريا فقد سأل الله عز وجل، ولم يحرك شفتيه، قال تعالى: ( إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً)   

      فعلامة إيمان المؤمن أنّه يطْلب حاجاته من الله عز وجل، ويسأله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: لِيَسْأَلْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ حَاجَتَهُ كُلَّهَا حَتَّى يَسْأَلَ شِسْعَ نَعْلِهِ إِذَا انْقَطَعَ  

 

ورعه:  

       هذا الصحابي كان الناس يضَعون عنده المال ثِقَةً به، من شِدَّة ورَعِهِ كان يقول لهم: سَلَفٌ وليس أمانة،   

      إذْ الأمانة لو تَلِفَتْ فهي على صاحِبِها، فما دام لم يُصِبْها عُدْوانٌ ولا تقْصير فالمُؤْتَمَنُ ليس ضامِناً، فكان هذا الصحابي لِشِدَّة وَرَعِهِ إذا أخذ مالاً لِيَكون أمانةً عنده عدَّهُ دَيْناً عليه، فإذا تَلِفَ كان عليه أنْ يرُدَّهُ، وقف هذا المَوْقف وألزم نفسه به ورعًا .   

      وفي التاريخ قِصَّة، وهي أنّ زوْج بنْت النبي عليه الصلاة والسلام أبو العاص، كان في طريقه من الشام إلى مكَّة، فسرية من سرايا النبي عليه الصلاة والسلام أخَذَتْهُ أسيراً مع بِضاعَتِهِ، وجيءَ به أسيراً إلى المدينة، معه بِضاعَةٌ لِقُرَيْش، فعرضوا عليه الإسلام، فإذا أسلم أصْبَحَتْ هذه البِضاعة غنائِم، فَرَفَضَ أنْ يُسْلم، والنبي عليه الصلاة والسلام لِسَبَبٍ أو لآخر أمر بِإِطْلاق سراحِهِ مع البِضاعة، وذهب إلى مكَّة وأدَّى المال لِأصْحابه، وبعد أنْ أعْطى كُلَّ ذي حقٍّ حقَّهُ وقف، وقال : أشهد أنْ لا إله إلا الله وأنَّ محمَّداً رسول الله، وعاد إلى المدينة، وانْخَرَط مع أصْحاب النبي، فلما قيل له: لمَ لمْ تُسْلم يوم كنت في المدينة، ومعك البِضاعة؟ قال هذا الصحابي زَوْجُ بِنْت النبي صلى الله عليه وسلّم: والله ما أُحِبُّ أنْ أبْدأَ إسْلامي بِهذا! ما أراد أنْ يبْدأ إسْلامه بِأَكْل مال الناس ظُلْماً، بعد أنَّ أدى المال لأصْحابه أسلَم،   

      والمال الذي عند الزبير أمانة، لكنه جعله دينا عليه حتى يضمن لصاحبه هذا المبلغ لو تلف .  

      وقصة ابنه عبد الله معروفة، فحينما أرسل إلى معاوية بن أبي سفيان، يقول: أمّا بعد، فإن رجالك قد دخلوا أرضي فانهَهُم عن ذلك، وإلاّ كان لي ولك شأنٌ، والسّلام، فقال معاوية لابنه يزيد: ما قولك؟ قال: أرى أن ترسل إليه جيشًا أوّلُه عنده، وآخرُه عندك، فيأتوك برأسه، فقال: غير ذلك أفضل، فكتب معاويةُ كتاباً قال فيه: أمّا بعد، فقد وقفتُ على كتاب ولد حواريِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد ساءني ما ساءه، والدنيا هيِّنة جنب رضاه، لقد نزلتُ له عن الأرض ومن فيها، فجاء الجواب، أما بعد، فيا أمير المؤمنين، أطال الله بقاءك ولا أعدمك الرأي الذي أحلَّك من قومك، فاستدعى ابنه يزيد، وقال له: يا يزيد من عفا ساد، ومن حلُمَ عظم، ومن تجاوز استمال إليه القلوب .  

ماذا نستنبط من حياة صحابة رسول الله ؟  

      من خلال هذه المواقف: نجد في أصحاب النبيِّ ورعاً ما بعده ورع، وزهدا ما بعده زهد ، وتضحية بالغالي والرخيص، والنفس والنفيس، في سبيل الحق، فإذا أردتم أن يرضى الله عنكم فعليكم بالورع، كما في الحديث: ركعتان من ورع خير من ألف ركعة من مخلِّط   

      ومن لم يكن له ورعٌ يصده عن معصية الله إذا خلا لم يعبأ الله بشيء من عمله، هذا في الورع، أما الزهد فهو انتقال الدنيا من قلبك إلى يديك، إن كانت في القلب فهي مصيبة، لأن القلب إذا أحبَّ الدنيا حبًّا جمًّا كان له هذا الحب حجابا عن الله عز وجل، والدنيا أحيانا يمكن أن تسهم في خدمة الخلق، في حلّ مشكلات الناس، في الرقيِّ عند الله عز وجل، فالقاسم المشترك هو الورع والزهد والتضحية والحبُّ، فحبهم للنبيِّ عليه الصّلاة والسلام كان من أعظم ما يميِّز هؤلاء عن الأبطال، سيِّدنا أبو سفيان حينما رأى سيدنا خبيبًا قبيل أن يُصلَب، سأله:   

      أتحب أن يكون محمدٌ مكانك، وأنت في أهلك؟ فانتفض خبيب، وقال: والله ما أحبُّ أن أكون في أهلي وولدي وعندي عافية الدنيا و نعيمها ويصاب رسول الله بشوكة لذلك قال أبو سفيان:ما رأيتُ أحداً يحبُّ أحداً كحبِّ أصحابِ محمدٍ محمداً  

      هذه أربعُ نقاطٍ تستنبط من حياة أصحاب النبيِّ عليهم رضوان الله، لذلك هؤلاء الذين رضي الله عنهم هكذا كانوا، وهكذا ينبغي أن نكون حتى يرضى الله عنَّا .  



المصدر: السيرة - رجال حول الرسول - الدرس (03-50) : سيدنا طلحة بن عبيد الله وسيدنا الزبير بن العوام