بحث

إيَّاس بن معاوية المزني

إيَّاس بن معاوية المزني

بسم الله الرحمن الرحيم

      أيها الإخوة المؤمنون، مع سير التابعين رضوان الله تعالى عليهم، والتابعيُّ اليوم هو إياسُ بن معاوية المزني.  

قَال النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ وَكَانُوا يَضْرِبُونَنَا عَلَى الشَّهَادَةِ وَالْعَهْدِ   

ذكاء إياس:   

      وردَ اسمُ إياس في بيت شعر للشاعر أبي تمَّام حينما مدح أحمد بن المعتصم، و البيت مشهور جدًّا، قال:   

إقدامُ عَمْرٍو في سَماحةِ حَاتِمٍ       في حِلمِ أحنَفَ في ذَكاءِ إِيَاسِ  

***  

      كان إياس بن معاوية مِن أذكى العرب، وكان مِن أشدِّهم حِلمًا الأحنفُ، ومِن أكثرهم سخاءً حاتمُ، و من أشدِّهم شجاعة عمرو.  

الذكاء:   

      وقبل أن نمضيَ في الحديث عن هذا التابعيِّ الجليل، لا بدَّ أن نقف وقفةً عند الذكاء، والحقيقة أنّ الذكاءُ قيمة كبيرة جدا، إلا أنه وحده ربَّما كان مدمِّرا لصاحبه، لأنّ الذكاء يشبه اندفاعا شديدا، فإذا لم يوجد سياجٌ من القيم، ولا توجد مبادئ، و لا توجد استنارة بنور الله عزوجل فهذا الذكاء يكون شؤما على صاحبه، ألم تسمعوا في الأدعية الشريفة:  اللهم اجعل تدبيرهم في تدميرهم.  

      أيها الإخوة،   

      قليل من التوفيق خيرٌ من كثير من الذكاء.  

ولو كانت الأرزاقُ تجري مع الحِجا       هلكْنَ إذًا من جهلهن البهــائمُ  

***  

      الذكاء قيمة عالية جدا، و لكن الذكاء وحده لا يكفي، لا بدَّ من الهدى، ولا بدَّ من أنْ يستنير الإنسانُ بنور الله،   

      لا أملك إلا هذا المثلَ الدقيق جدًّا، هذه العينُ لو أن أحدا فحص عينيه عند طبيب العيون، فكانتا في أعلى درجات الحساسية، والرؤية: 12/10، ولم يكن هناك مصباح يتوسَّط بينك وبين المرئي، فالعينُ لا قيمة لها، و كذلك العقل، إن لم يكن هناك هدًى يتوسّط بين العقل وبين الأشياء فالعقلُ لا يرى، قال تعالى: ( إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ)  

      العقل وحده قد يطغى، وأكبر دليل العالَمُ الغربي، هذا العالَم يكاد يكون عقلا فقط، وهذا العقل توصَّل إلى تدمير الحياة الاجتماعية، وتدمير البنية الأساسية، وهي الأسرة،   

      فالإنسان عقل وقلب، وعقيدة ومصالح، فحينما تطغى المصلحةُ على العقيدة، ربما كان تدميرُ الإنسان في تدبيره،   

      وإذا كان الإنسان ذا عقل راجح فهذا من نِعَم الله الكبرى، لكن عقلَه الراجح من دون طاعة لله عزوجل هذا شؤم على صاحبه، وبالعكس، فالعقلُ من دون هدى أداةٌ انهيار وتدمير، وهل الحربُ الحديثة كما يقول العلماءُ إلا حربٌ بين عقلين،   

      وعلى كلًّ نعمةُ العقل كبيرةٌ، وربُّنا عزوجل يقول: ( وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً)  

      ومن تمام النعمة أن يكون العقلُ والإيمانُ متكاملين، أن يكون العقلُ والخلقُ متكاملين،   

توليه قضاء البصرة:  

      وسيدنا عمرُ بن عبد العزيز بات ليلةً قلقا مسهَّدا، لم يُغمَض له جفنٌ، لماذا؟ قال:كان يشغله في تلك الليلة من ليالي دمشق أمْرُ اختيارِ قاضي البصرة،   

      والحقيقة أن الإنسان إذا أوتيَ مقاليدَ الأمور فأخطرُ أعماله أن يختار مساعديه، هذه أخطر أعماله،   

      وسيدنا عمر يقول:  أريد أميرا، إن كان أميرا بدا وكأنَّه واحد من أصحابه، و إن كان واحدا من أصحابه بدا و كأنه أميرٌ  

      أي من شدَّة غيرته على مصالح الأمة لو كان يكن أميرا بدا وكأنه ليس بأمير، ومن شدَّة تواضعه لو كان أميرا بدا وكأنه واحد منهم، يريد هذا الخليفةُ الراشد والخامس كما يقولون أن يختار قاضيًا للبصرة، يقيم بين الناس موازين العدل،  يحكم فيهم بما أنزل الله، ولا تأخذه في الحق رهبةٌ ولا رغبة، وقع اختيارُه على رجلين كفرسيْ رِهان، فقهًا في الدين، وصلابةً في الحق، وورعًا في السلوك، ووضاءةً في الفكر، وثقوبًا في النظر، وكلمَّا وجد لأحدهما مزيَّةً ترجِّحه على صاحبه ألفى في الآخر مزية يقابل بها تلك المزية،   

      فلما أصبح دعا واليَ العراق عديَّ بن أرطأة، وكان يومئذٍ عنده في دمشق،   

       وقال له: يا عديُّ اجمع بين إياسٍ بن معاوية المزني والقاسم بن ربيعة الحارثي، وكلمِّهما في أمر قضاء البصرة، وولِّ أحدهما عليه،   

      فقال: سمعا وطاعة يا أمير المؤمنين،   

      وكما قلتُ قبل قليل: أخطرُ أعمال من أوتيَ مقاليد الأمور أن يختار مساعديه، من الأكفاء،   

      جمعَ عديُّ بن أرطأة بين إياس والقاسم،   

      وقال:إن أميرَ المؤمنين أطال اللهُ بقاءه أمرني أن أُولِّيَ أحدكما قضاءَ البصرة، فماذا تريَانِ؟   

      قال كلٌّ منهما عن صاحبه: إنه أولى منه بهذا المنصب   

      وقد يكون هذا أمنيةَ كل إنسان، وعلى كلٍّ كان كلٌّ منهما يثني على صاحبه و يقول: إنه أولى بهذا المنصب منه، وذكر من فضله وعلمه وفقهه ما شاء اللهُ أن يذكر،   

      فقال عديُّ: لن تخرجا من مجلسِي هذا حتى تحسما هذا الأمرَ، فلا بد من أُولِّيَ أحدَكما،   

       فقال له إياسُ: أيها الأمير سَل عني وعن القاسم فَقِيهَي العـراق الحسنَ البصري ومحمد بن سيرين، فهما أقدرُ الناس على التمييز بيننا  

      كان القاسمُ يزورهما ويزورانه، وإياسٌ لا تربطه بهما رابطةٌ، أي هناك علاقة بين القاسم و بين هذين التابعيين، فلذلك قال له: اسأل عنا هذين التابعين، فهما يزكِّيان، فَعَلِمَ القاسمُ أن إياسًا أراد أن يورِّطه في هذا المنصب،   

      قال: أيها الأمير لا تسل أحدا عني ولا عنه، أيها الأمير فواللهِ الذي لا إله إلا هو إنَّ إياسًا أفقه مني في دين الله، وأعلم بالقضاء،  فإن كنتُ كاذبا في قسمي فما يحلُّ لك أن تولِّيني القضاءَ، وأنا أقترف الكذبَ، وإن كنتُ صادقا في قسمي فلا يجوز لك أن تعدل عن الفاضل إلى المفضول   

       فالتفت إياسٌ إلى الأمير،وقال:  أيها الأمير إنك جئت برجل ودعوتَه إلى القضاء وأوقفتَه على شفير جهنم، فنجَّا نفسه منها بيمين كاذبة لا يلبث أن يستغفر اللهَ منها، و ينجو بنفسه مما يخاف،   

      فقال له عديُّ: إنما يفهم مثلَ فهمك هذا لجديرٌ بالقضاء، حريٌّ به، ثم ولاَّه قضاءَ البصرة    

      انظُروا إلى هذا التعفُّف عن ذاك المنصب.  

      هذا الذي اختاره الخليفةُ الزاهد عمر بن عبد العزيز قاضيًا للبصرة من هو؟ هذا الإنسانُ ضُرِب لذكائه المثل، فكان ذكيًا فطِنا ذا بديهة حاضرة.  

نسبه ونشأته:  

      وُلِد إياسُ بن معاوية بن قُرِّةَ المزني سنة (46) للهجرة في منطقة اليمامة في نجد،   

      وانتقل مع أسرته إلى البصرة، وبها نشأ وتعلَّم، وتردَّد على دمشق في يفاعته، وأخذ عمن أدركهم من بقايا الصحابة الكرام وجِلَّة التابعين،   

      ولقد ظهرت على الغلام المزني علائِمُ النجابة، وأماراتُ الذكاء منذ نعومة أظفاره،   

      فإذا أكرمَ اللهُ عزوجل أحدًا من إخواننا الكرام بطفل ذكيٍّ جدا فلا بدَّ أن يهيِّئه تهيئةً تتناسب مع قدراته، ومن يدريك أن هذا الطفل يكون أحدَ أعلام الأمة؟  

      ظهرت على هذا الغلام علائمُ النجابة وأمارات الذكاء منذ نعومة أظفاره، و جعل الناسُ يتناقلون أخبارَه ونوادرَه، وهو مازال صبيًّا صغيرا، رُوِي عنه أنه كان يتعلَّم الحساب في كتَّاب لرجل من أهل الذِّمة، فاجتمع عند المعلِّم أصحابٌ له، و جعلوا يتكلَّمون في أمور الدين، وهو ينصت إليهم من حيـث لا يدرون،   

      فقال المعلِّم لأصحابـه: ألا تعجبون للمسلمين فهم يزعمون أنهم يأكلون في الجنة ولا يتغوَّطون،   

       فالتفت إياسٌ إليه، وقال: أتأذن لي يا معلِّم بالكلام فيما تخوضون فيه؟   

      قال: نعم تكلَّم،   

       قال الفتى: أكلُّ ما يُؤكل في الدنيا يخرج غائطا؟   

      فقال المعلِّم: لا،   

       قال: فأين يذهب الذي لا يخرج؟   

      قال المعلِّم: يذهب في غذاء الجسم   

       قال الفتى: فما وجهُ الاستنكار منكم إذا كان يذهب بعضُ ما نأكله في الدنيا غذاءً أن يذهب كلُّه في الجنة في الغذاء،  

      تقدَّم الغلامُ سنةً بعد سنة، وتقدَّمت مع هذه السنين أخبارُ ذكائه أينما حلَّ،   

      فدخل دمشق وهو لا يزال غلاما، فاختلف مع شيخ من أهل الشام في حقٍّ من الحقوق، ولما يئس من إقناعه بالحجَّة، دعاه إلى القضاء، فلما صار بين يدي القاضي احتدَّ إياسٌ، ورفع صوته على خصمه،   

      فقال له القاضي: اخفِض صوتك يا غلام، فإن خصمك شيخ كبير السن والقدر،   

       فقال إياس: ولكن الحقَّ أكبر منه،   

      فغضب القاضي، وقال: اسكُت،   

       فقال الفتى: ومَن ينطق بحجتي إذا سكتُّ،   

      فازداد القاضي غضبا، وقال: ما أراك تقول منذ دخلت مجلس القضاء إلا باطلا،   

       فقال إياس: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قال له: أحقٌّ هذا أم باطل؟   

      فهدأ القاضي و قال: حقٌّ و ربِّ الكعبة ،   

      أحيانا الإنسان على صغر سنه يُؤتى الحجة البالغة في وقتها، ولا تُقدَّر بثمن.  

      وأكبَّ هذا الفتى على العلم، ونهل منه ما شاء اللهُ أن ينهل، حتى بلغ منه مبلغا جعل الشيوخَ، يخضعون له، ويأتمُّون به، ويتتلمذون على يديه على الرغم من صغر سنه،  والعالم شيخ ولو كان حدَثًا، والجاهل حدثٌ ولو كان شيخا   

      وذات مرة زار عبدُ الملك بن مروان البصرة قبل أنْ يَليَ الخلفة، فرأى إياسا وكان يومئذٍ فتًى يافعا، لم ينبت شاربُه بعد، ورأى خلفه أربعةً من القراء من ذوي اللحى بطيالستهم الخضر، وهو يتقدَّمهم،   

      فقال عبد الملك: أُفٍّ لأصحاب هذه اللحى، أمَا فيهم شيخٌ يتقدَّمهم، فقدَّموا هذا الغلام، ثم التفت إلى إياس، وقال: يا غلام كم سنُّك؟   

       فقال: أيها الأمير سني أطال بقاءَ الأمير كسنِّ أسامة بن زيد حين ولاَّه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم جيشا فيهم أبو بكر وعمر،   

      فقال له عبد الملك: تقدَّم يا فتى تقدَّم بارك الله فيك.  

      مرة ثانية أيها الإخوة، ما من نعمة أجلُّ من أن يهبك الله قدرةً عقلية تعيش بعقلك بين الناس.  

نوادره:  

      وشاعت أخبارُ ذكاء إياس، وذاعت وصار الناسُ يأتونه من كل حدب وصوب، ويلقون بين يديه ما يعترضهم من مشكلات في العلم والدين.  

      رُوِي أن دهقانا أتى مجلسه فقال: يا أبا وائلة، ما تقول في المسكِر؟   

       قال: حرام،   

      قال: ما وجهُ حرمته؟ أقنعني، وهو لا يزيد عن كونه ثمرا وماءً غُلِيا على النار فصار خمرًا، وكل ذلك مباح لا شيءَ فيه، فلماذا هو حرام؟   

       فقال إياسُ: أفرغتَ من قولك يا دهقانُ، أم بقيَ لديك ما تقوله؟   

      قال: بل فرغتُ،   

       قال: لو أخذتُ كفًّا من ماء، وضربتُك به أكان يوجعك؟   

      قال: لا،   

       قال: لو أخذتُ كفًّا من تراب وضربتُك به أكان يوجعك؟   

      قال: لا،   

       قال: لو أخذتُ كفًّا من تِبنْ فضربتك به أكان يوجعك؟   

      قال: لا،   

       قال: لو أخذت الترابَ، ثم طرحتُ عليه تبنا، وصببتُ فوقه الماءَ، ثم مزجتهما مزجا، ثم جعلتُ الكتلة في الشمس حتى يبست، ثم ضربتك به، أكان يوجعك؟   

      قال: وقد تقتلني به،   

       قال: هكذا شأنُ الخمر.  

      والحقيقة كان هذا القاضي على جانب عالٍ جدا من الذكاء، وظهرت له مواقفُ تدلُّ على فرط ذكائه، وإن علماء النفس قالوا: هناك منحنى، هذا المنحنى يمثِّل نِسب الذكاء بين البشر، تسعون بالمائة ذكاؤهم متوسِّط، و خمسة بالمائة عباقرة، و خمسة بالمائة أغبياء، لكن الخطَّ العريض دائما هو الخطُّ المتوسِّط، لذلك في علم النفس علامة مائة في الذكاء تمثِّل الخطَّ العريض، أما مائة وأربعون فهؤلاء عباقرة.  

      لما ولِيَ القضاءَ جاءه رجلان يتقاضيان عنده، فادَّعى أحدُهما أنه أودع عند صاحبه مالا، فلما طلبه منه جحده،   

       فسأل إياسُ الرجلَ المدَّعَى عليه عن أمر الوديعة فأنكرها،   

      وقال: إن كانت لصاحبي بيِّنة فليأتِ بها، وإلا فليس له عليَّ إلا اليمين،   

       فلما خاف إياسٌ أن يأكل الرجلُ المالَ بيمينه التفت إلى المودِع، وقال له: في أيِّ مكان أودعته المالَ؟ أي أعطيته،   

      قال: في مكان كذا،   

       قال: وماذا يوجد في ذلك المكان؟   

      قال: شجرة كبيرة جلسنا تحتها، وتناولنا الطعام معًا في ظلِّها، ولما هممنا بالانصراف دفعتُ إليه المالَ،   

       فقال له إياسٌ: انطلِق إلى المكان الذي فيه الشجرة فلعلَّك إذا أتيتها ذكَّرتك أين وضعت مالك، ونبَّهتْك إلى ما فعلته به، فجعل المدَّعي يذهب إلى الشجرة، وأوهمَ المتَّهم أنه بريء، اذهب أيها الرجل إلى الشجرة فلعلك نسيت المالَ هناك، هذا بريء،   

       قال: ثم عُد إليَّ لتخبرني بما رأيت،  فانطلق الرجل إلى المكان،   

       وقال إياس للمدَّعى عليه: اجلس إلى أن يجيء صاحبُك،  فجلس،   

       ثم التفت إياس إلى من عنده من المتقاضين، وطفق يقضي بينهم، وهو يرقب الرجل بطرفٍ خفيٍّ، حتى إذا رآه قد سكن  واطمأن، التفت إليه وسأله على عجل: أتقدِّر أن صاحبك قد بلغ الموضع الذي أعطاك فيه المال؟   

      قال له: لا إنه بعيد من هنا،   

       فقال له إياس: يا عدوَّ الله تجحد المالَ، وتعرف المكان الذي أخذته فيه،   

      ومن ذلك ما رُوي من أن رجلين اختصما إليه في قطيفتين - ثوبين - مما يوضع على الرأس، ويُسدَل على الكتفين، مثل القلنسوة، إحداهما خضراء جديدة ثمينة، وأخرى حمراء بالية،   

      قال المدَّعي: نزلتُ إلى الحوض لأغتسل، ووضعتُ قطيفتي الخضراء مع ثيابي على حافة الحوض، و جاء خصمي فوضع قطيفته الحمراء إلى جانب قطيفتي، ونزل إلى الحوض، و خرج قبلي، فلبس ثيابه، وأخذ قطيفتي، فألقاها على رأسه وكتفيه، ومضى بها، فخرجتُ على إثره وتبعتُه وطالبته بقطيفتي، فزعم أنها له،  

       فقال إياسٌ للرجل المدَّعى عليه: وما تقول أنت؟   

      قال: هي قطيفتي، وهي في يدي،   

       فقال إياس للرجل المدَعي: ألك بيِّنة؟   

      قال: كلا،   

      فقال لحاجبه: أحضر لي مشطًا، فأُحضر له، فمشط شعرَ رأس الرجلين، فخرج من رأس أحدهما زغب أحمر من نُثار صوف القطيفة، و خرج من رأس الثاني زغبٌ أخضر من نثار صوف القطيفـة، فقضى بالقطيفة الحمراء لصاحب الزغب الأحمر، و بالقطيفة الخضراء لصاحب الزغب الأخضر، وعرف مَن هو صاحب الحق.  

      من أخبار فطنته أيضا أنه كان في الكوفة رجل يظهر للناس الصلاحَ، ويبدي لهم الورعَ والتقى، حتى كثُر الثناءُ عليه، واتَّخذه بعضُ الناس أمينا لهم يأتمنونه على مالهم إذا سافروا، ويجعلونه وصيًّا على أولادهم إذا أحسُّوا بدنوِّ الأجل، أتاه رجلٌ واستودعه مالا، و لما احتاج الرجلُ إلى المال طالبه فأنكره، فمضى إلى إياس، وشكى له الرجل،   

       فقال للمشتكي: أعَلِمَ صاحبَك أنك تريد أن تأتيني؟   

      قال: كلا،   

       فقال: انصرِف، وعُد إليَّ غدا، ثم أرسل إياس إلى الرجل المؤتمن،   

       وقال له: لقد اجتمع لديَّ مالٌ كثير للأيتام، لا كافل لهم، وقد رأيتُ أن أودعه لديك، وأن أجعلك وصيًّا عليهم، فهل منزلك حصين، ووقتك متَّسِع؟   

      قال: نعم أيها القاضي، هذا الذي جعل نفسه صالحا،   

       قال: تعالَ إليَّ بعد غٍد، وأعِدْ موضعًا للمال،   

       وفي اليوم التالي جاء الرجل المشتكي، فقال له إياس: انطلِق إلى صاحبك، واطلب منه المال، فإن أنكره فقل له: أشكوك إلى القاضي،   

      فأتاه الرجل، فطلب منه المال، فامتنع عن إعطائه، و جحده، فقال له: إذًا أشكوك إلى القاضي، فلما سمع ذلك منه دفع المال إليه فورا، و طيَّب خاطره، فرجع الرجل إلى إياس، وقال: لقد أعطاني صاحبي حقي، و جزاك الله خيرا،   

       ثم جاء المؤتمَن بعد غدٍ إلى إياس في موعده، ومعه الحمالون، فزجره وأشهره، قال له: بئس الرجل أنت يا عدوَّ الله، لقد اتخذْتَ الدِّين مطية للدنيا.  

      والحقيقة إذا أراد القاضي أن ينصف الناس بإخلاص شديد، فإنّ اللهَ عزوجل يلهمه،   

      قَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا*  

      فإنْ صدق الإنسان في خدمة الخلق هداه ذلك إلى الطريق الصحيح، و الحقيقة أن القضاء شيء صعب، إذا لم توجد التقوى، فقد تلتبس الأمورُ على القاضي، لكن القاضي يحتاج إلى فراسة، و يحتاج إلى فطنة، و يحتاج إلى إلهام من الله عزوجل، ولكنَّ إياسا على الرغم من شدَّة ذكائه وفطنته فهناك من أقام عليه الحُجَّةَ، و فوق كل ذي علم عليم   

      حدَّث عن نفسه فقال: ما غلبني أحدٌ قط سوى رجل واحد، وذلك أني كنتُ في مجلس القضاء في البصرة، فدخل عليَّ رجل، فشهد عندي أن البستان الفلاني هو ملكٌ لفلان، وحدَّده لي، طبعا الشاهد دليل قويٌّ في القضاء، فجاء الشاهد، وقال: البستان الفلاني لفلان، فقلتُ لهذا الشاهد: وكم عددُ شجرات البستان؟ فأطرق قليلا، ثم رفع رأسه، وقال: منذ كم يحكم سيدُنا القاضي في هذا المجلس؟ كم سنة لك يا سيدي في هذا المجلس؟ قال له: منذ كذا سنة، من ثمان سنوات فرضًا، قال له: كم عددُ خشب سقف هذه الغرفة؟ لا يخطر لإنسان أن يعُدَّ كَمْ خشبة هي، قال: فلم أعرف وقلتُ: الحق معك، ثم أجزتُ شهادته، كذلك الإنسان كلما تفوَّق في شيء فإنّ اللهَ عزوجل يحجِّمه بأن يأتيه شخصٌ يبدو أنه أكثر منه تفوُّقا.  

      أنا في الحقيقة لا أريد أن أجعل كما قلتُ في بداية الدرس أن الذكاء وحده هو كلُّ شيء، لكن ما أجمل أن يكون عقلُ الإنسان متَّقِدًا، وقلبُه صافيا نقيًّا، ما الذي يحصل في الحياة؟ تجد أحيانا إنسانا يتَّقد ذكاءً، لكنه على خُبث، ذكاء شيطاني، و انحراف، وتفلُّت من أوامر الدين، وأكل لأموال الناس بالباطل، وتجد شخصا آخر يعجبُك تفوُّقه، ولكن لا يعجبك عقلُه، فالمنحرف قد يكون فطنًا جدًّا، والمستقيم قد يكون محدودا جدا، وهذا شيء مؤلِم جدا، لكن إذا اجتمع العقلُ الراجح مع القلب الطاهر فهذا من أغرب ومن أندرِ النماذج البشرية.  

وفاته:  

      بلغ إياسُ بن معاوية السادسة والسبعين من عمره، ورأى نفسَه وأباه في المنام راكبين على فرسين، فجريا معًا، فلم يسبق أباه، ولم يسبقه أبوه، وكان والدُه قد مات عن ستٍّ وسبعين سنة.  

      أنا سمعتُ كثيرا عن أناس صالحين أكرمهم الله عزوجل بأن عرَّفهم بدنوِّ أجلهم، وهي قصص كثيرة جدا، ولعلَّ هذا من إكرام الله للإنسان، فقبل أن يموت بشكل أو بآخر، منام أو شعور أو حدس أو إدراك يشعر أن أجله قد دنا، يا تُرى النبيُّ عليه الصلاة والسلام هل نعاه اللهُ بالقرآن الكريم؟ ما الآية؟ قال تعالى: ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً (3))  

      أي انتهت مهمَّتك، والعظماء الحياة لا تعنيهم، حياتهم جليلة وعظيمة، فإذا أدَّوا رسالتهم فقد انتهت حياتهم، فالنبي عليه الصلاة والسلام أدَّى رسالته، ألا تقل له أنت إذا وقفتَ أمام قبره: أشهد أنك بلَّغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، و كشفت الغُمة، وجاهدت في الله حقَّ الجهاد، واللهُ عزوجل أقسم بعمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: ( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ)  

      إنّه لشيء عظيم أنْ يعيش الإنسان الحقَّ، وفي سبيل الحق، ومن أجل نشر الحق، وأن يبذل الغالي والرخيص، والنفس والنفيس من أجل الحق، والإنسان حجمُه عند الله بحجم عمله الصالح، وأعظم مرتبة تنالها عند الله أن تكون جنديًّا من جنود الحق، ولا أنسى هذا الحديث الشريف:  يا بِشر، لا صدقة و لا جهاد، فبم تلقى الله؟  

      والإنسان لا بدّ له من عمل يذهب به إلى الله عزوجل، والدنيا فانية، قال تعالى: ( لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ)  

وفي ذات ليلة، أوى إياسٌ إلى فراشه،   

       وقال لأهله: أتدرون أيَّةُ ليلة هذه؟  

       قالوا: كلا،   

       قال: في هذه الليلة استكمل أبي عمرَه،   

      فلما أصبح وجدوه ميِّتا،   

      قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَوَى أَحَدُكُمْ إِلَى فِرَاشِهِ فَلْيَنْفُضْ فِرَاشَهُ بِدَاخِلَةِ إِزَارِهِ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي مَا خَلَفَهُ عَلَيْهِ ثُمَّ يَقُولُ بِاسْمِكَ رَبِّ وَضَعْتُ جَنْبِي وَبِكَ أَرْفَعُهُ إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ   

      الإنسان إذا نام هناك احتمال أن يستيقظ، واحتمال ألاّ يستيقظ، فإذا استيقظ يحفظه الله، وإذا لم يستيقظ يرحمه اللهُ.  

الخلاصة:  

      أيها الإخوة فيما مضى كان يُظن أن الإنسان كان يتمتع بقدرات عقلية محدودة لا تزيد، وكل إنسان له بمستوى معيَّن، هذه النظرة بالية، وغير صحيحة، حلَّتْ محلَّها نظرية أخرى، هي أن الإنسان فيه قدرات، إما أنها فُجِّرت، وإما أنها لم تُفجَّر بعد، والدليل أن كبار المخترعين مثل " أديسون " كان ضعيفا في مادة الفيزياء حينما كان طالبا، و" إنشتاين" الذي وضع نظرية النسبية، وهي أخطر نظرية في الفيزياء، أيضا كانت علاماته متدنِّية في التعليم الثانوي في الفيزياء والرياضيات، هذه الحقيقة، أن الإنسان فيه طاقات إما أن تُفجَّر، وإما أنها لم تُفجَّر،   

      أنا إيماني أن الإيمان يفجَّر الطاقات، قد يكون الشخصُ عاديا محدودًا جدا، لكن حينما يتعرَّف على الله عزوجل تنفتح طاقاته، فتجد إنسانا قبل أن يتعرَّف إلى الله محدودا، ولكن بعد أن اهتدى إلى الله تألَّق، وانطلق لسانُه، وبدا وكأنه ذكيٌّ جدا، فأنا أرى - و هذا يؤكِّده العلمُ - أن الطاقات التي أودعها الله في الإنسان غيرُ محدودة، إما أن تُستغل في الحق فتنمو، وإما أن تستغل في الباطل أيضا، لكن المطلوب من الإنسان أن يسعى للكمال، ويتفوَّق، وكل إنسان مهما بدا لنفسه أنه محدود القدرات فهذه نظرة ليست في صالحه، بل هي نظرة خاطئة، وحينما يتعرّف الإنسان إلى الله تنفتح قدراتُه، وتصبح لا سقف لها، فبقدر صدقه يمدُّه الله بهذه الطاقات.  

      والنقطة الأخيرة في الموضوع، أنا الذي أراه أن الله عزوجل حينما يعلم صدقَ الإنسان في فعل الخير يمدُّه بالطاقات اللازمة، وإذا علم صدقه في الدعوة إلى الله يمدُّه بالطاقات اللازمة، وإذا علم صدقه في نيل الشهادة العالية لتكون سلاحا في يد الحق يمدُّه بالطاقات العالية، فالطاقة ليست مغلقة، بل مفتوحة، والإنسان كلما اقترب من الله عزوجل أصبح على مستوى رفيع من هذه القدرات العقلية.  



المصدر: السيرة - سير التابعين الأجلاء - الدرس 05-20 : التابعي إياس بن معاوية المزني