كنت مرَّة في عقد قِران، وقام أحد العلماء يُلقي كلمة فَمِن جُمْلة كلِمَتِه ذكر حديثاً للنبي عليه الصلاة والسلام، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: أَخَذَ بِيَدِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنِّي لَأُحِبُّكَ يَا مُعَاذُ، فَقُلْتُ: وَأَنَا أُحِبُّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَلَا تَدَعْ أَنْ تَقُولَ فِي كُلِّ صَلَاةٍ رَبِّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ
وما أدري لِمَ فعلَتْ هذه الكلمة في نفْسي فِعْل السِّحْر؟ فقلت: إذا أحَبَّك النبي عليه الصلاة والسلام فهل من بعد هذه المرتبة من مرْتبة؟ ولذلك وجدت أنّ كلّ إنْسانٍ يفْرح بِحُبِّ جِهَةٍ له، فكلما ارْتقى الإنسان فرِح بِحُبِّ الله ورسوله له، لأنّ حُب الله عز وجل هو عَيْن حُبّ رسول الله، وحب رسول الله هو عَين حُبّ الله عز وجل، لأنّ الله ورسوله أحقّ أن يُرْضوه، فانْطِلاقاً من هذا الصحابي الجليل الذي قال في حقِّه رسول الله حديثاً.
هيئة سيدنا معاذ بن جبل:
قال بعْضهم:
دخلْتُ مسْجدَ حِمْص فإذا أنا بِفَتىً حوله الناس، جَعْدٍ قطَطٍ،
أيْ شعْره أجْعد، إذْ هناك شعْرٌ أجْعد ليس مُسْتَحْسناً، لكن شعْر هذا الصحابي كان أجْعد، ولكنه مُسْتَحْسن، وهو معنى قطط،
إذا تكلَّم كأنما يخرج من فيه نورٌ ولُؤلؤ،
هذا تأييد الله له، فأنت إذا أخْلصْت أيها الأخ الكريم لله رب العالمين، والْتَزَمْتَ أوامر الديــن، واتّصلْت بالله جل جلاله، أسْبغ الله عليك مهابَةً وجمالاً ووضاءَةً ونوراً وهَيْبَةً وسكينةً ووقاراً.
فقلتُ: من هذا؟ فقالوا: هو مُعاذ بن جبل،
وهذا هو معنى قول الله عز وجل حينما خاطب النبي عليه الصلاة والسلام وأصْحابه مَعْنِيون بِهذا الخِطاب وكذا كلّ مؤمن في كلّ مكانٍ وزمان: وَرَفعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ
هذا لِكُلّ مؤمن، كل مؤمن أخْلص لله عز وجل، وأكْرمه الله عز وجل بِمَنْطقٍ وحُجَّةٍ ووقارٍ ومهابَةٍ ونورٍ ومكانةٍ وسُمْعةٍ...إلخ.
وعن أبي مسلم الخوْلاني، قال:
أتيتُ مسجد دمشق فإذا حلقة فيها كهول من أصْحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا شابٌ فيهم أكحل العين، براق الثنايا،
وأسْنانه تلمَع، دليل نظافته، ودليل عِنايَتِهِ بِأسْنانه،
وكلما اختلفوا في شيء ردوه إلى الفتى، فقلت لِجَليسٍ لي: مَن هذا؟ فقال: هذا مُعاذُ بن جبل،
هذا يُذكِّرُني بِمَقولةٍ: أنَّ العالم شيْخٌ ولو كان حَدَثاً، وأنّ الجاهل حَدَثٌ، ولو كان شيخًا،
وهذا يُذكِّرُني كيف أنّ:
النبيّ صلى الله عليه وسلم اخْتار أُسامة بن زيد الذي لا تزيد سِنُّهُ عن سبعة عشر عاماً قائداً لِجَيْشٍ فيهم أبو بكرٍ وعمر وعثمان وعليّ؟
وكيف أنّ الشباب في الإسلام لهم شأنٌ كبير، ولهم شأنٌ خطير، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ريح الجنّة في الشباب
طاقاتهم كامنة، وانْدِفاعهم شديد، وغيرةٌ عظيمة، وتعلُّقٌ بالمبادئ والمُثُل، هؤلاء الشباب إذا أُحْسن تَوْجيههم، ودُلوا على الله عز وجل، وعلى طريق البطولة، كان لهم شأنٌ، وأيُّ شأنٍ.
صفاته:
- زهده في الدنيا :
كان هذا الصحابي الجليل زاهِداً في الدنيا، قال مالك الداريّ:
أخذ عمر بن الخطاب أربعمئة دينارٍ فَجَعَلها في صُرَّةٍ، فقال لِغُلامٍ له: اِذْهب بها إلى أبي عُبيدة بن الجراح ثمّ تلَه
- وهو فعل أمرٍ- أيْ أُلْهُ بشيءٍ حتى تبْقى عنده فَتَنْظر ما يصْنع بها،
فذَهب الغلام وقال له: يقول لك أمير المؤمنين: اِجْعل هذه في بعض حاجتك،
فقال رضي الله عنه: وصله الله ورحِمَهُ.
أرأيْتُم أيها الأخوة، أنه من لم يشكر الناس لم يشكر الله، فهناك أشْخاص يسوق الله لهم خيراً على يدِ رِجال ثمّ يتنكَّرون، ويقولون: لقد منَّ الله علينا بالهُدى، ولكن هذا لا يمْنَعُ أنْ تشْكر الناس، لأنه من لم يشكر الناس لم يشكر الله، ماذا قال هذا الصحابي الجليل، وماذا فعل؟ قال: وصله الله ورحِمَهُ،
ثمّ قال: تعالَيْ يا جارِيَة، واذْهَبي بِهذه السبْعة إلى فلان، وبِهذه الخمسة إلى فلان، وبِهذه الثلاثة إلى فلان، حتى أنْفَذَها جميعَها، فَرَجَع الغُلام إلى عُمر فأَخْبَرَهُ، فوَجَده قد أعَدّ مِثْلها لِمُعاذ بن جبل، وقال له: اِذْهب بها إلى معاذ بن جبل وتله في البيت ساعةً حتى تنظر ماذا يصْنع؟ فذَهَب بها إليه، وقال له: يقول لك أمير المؤمنين: اِجْعَل هذه في بعض حاجَتِك، فقال: وصله الله ورحِمَهُ، تعالَيْ يا جارِيَة واذْهبي إلى بيت فلان بكذا، وإلى بيت فلان بِكذا، فاطَّلَعَتْ امْرأته، فقالت: ونحن والله مساكين فأَعْطِنا، ولم يبْقَ في الخِرْقة إلا ديناران فدفع بهما إليها، وقال: خُذي، فرجع الغلام إلى عمر وأخْبره بِذلك، فقال:
إنهم أخوة، بعضُهم من بعض
ألم يقف النبي عليه الصلاة والسلام قُبَيْل وفاته وقد نظر إلى أصْحابه وهم يُصلون في المسْجد فتَبَسَّم حتى بَدَتْ نواجذه، وقال:
حُكماء علماء، كادوا من فِقْهِهِم أن يكونوا أنبياء؟
إنهم أبطال.
- ورعه:
أمّا وَرَعُهُ، فكان لِمُعاذ بن جبل امْرأتان، فإذا كان عند إحْداهما لم يشْرب في بيت الأخرى الماء، لِيُحَقِّقَ العدْل الكامل بينهما، هذه الليلة لِفُلانة فيأكل ويشْرب وينام عندها، أمّا عند الأخرى فَكان لا يشْرب عندها الماء في الليلة التي ليسَتْ لها، ألم يقل الله عز وجل: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا
لذلك قالوا: ركْعتان من ورِع خير من ألف ركعة من مُخلِّط!
ألم يتَنَحَّ الإمام أبو حنيفة عن ظلِّ بيتٍ إلى الشمس، فلما قيل له لِمَ؟ قال: هذا البيت مُرْتَهَنٌ عندي، وأنا أكْرهُ أن أسْتفيد من ظِلِّه،
وعن ثَوْر بن يزيد، قال: كان مُعاذ بن جبل إذا تهجَّد من الليل، قال: اللهم قد نامت العُيون وغارتِ النجوم وأنت الحيّ القيوم، اللهم طلبي للجنّة بطيء، وهربي من النار ضعيف، اللهم اجْعل لي عندك هُدىً ترُدُّهُ لي يوم القِيامة إنك لا تُخْلف الميعاد
ولِذلك علامة المؤمن أنَّهُ يتَّهِم نفْسه دائِما، وعلامةُ المنافق أنَّهُ يرضى عن نفسه، حتى العوام يقولون: لا يرْضى عن نفسه إلا إبليس.
وهذا أحد التابعين، قال: الْتَقَيْتُ بِأَربعين صحابِياً ما واحِدٌ منهم إلا ويظنّ أنه منافق، من شِدَّة خوفِهِ من الله، ومُحاسَبَتِهِ لِنَفْسه، ومُراقَبَتِهِ لها،
والنبي عليه الصلاة والسلام، قال: أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ، وَأَشَدُّهُمْ فِي أَمْرِ اللَّهِ عُمَرُ، وَأَصْدَقُهُمْ حَيَاءً عُثْمَانُ، وَأَعْلَمُهُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأَفْرَضُهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَقْرَؤُهُمْ أُبَيٌّ، وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ وَأَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ
النبي عليه الصلاة والسلام وُجودُهُ يطغى على كلّ إنسان، وعظمتُهٌ باهرة، ولا يُلْتَفـَتُ إلى إنسانٍ غَيْرِهِ، وفقد عرف قدْرَ أصْحابه، وأعطى كُلّ واحِدٍ منهم قَدْرَهُ،
مرَّةً سأل النبي عليه الصلاة والسلام مُعاذ حينما أرسله إلى اليمن،
فَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَبْعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ، قَالَ: كَيْفَ تَقْضِي إِذَا عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ، قَالَ: أَقْضِي بِكِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَلَا آلُو فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدْرَهُ، وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ
القرآن والسنة، والاجْتهاد دخل فيه القِياس والإجماع، ولا تجْتمع أمتي على ضلالة، والقِياس أنْ اكْتَشف عِلَّة التحريم، فإذا اتَّحَدَتْ هذه العِلَّة في حالةٍ ما مع حالةٍ أخرى انْسَحَب التحريم على الحالة الأخرى، كما في الأولى، فالخمر حرام، وعِلَّتُها الإسْكار، فأَيُّ شرابٍ أسْكر فهو حرام، وهذا هو القِياس، ولعلّ هذا الصحابي الجليل كان رائِداً في الاجتهاد، وكأنَّهُ رسَمَ للأئمَّة المُجْتهدين من بعْده أنّ: الكِتاب أوَّلاً، ثم السنّة ثانيا، ثمّ الإجماع ثالِثاً، ثمّ القياس رابِعاً، والإجْماع والقِياس هما الاجْتِهاد، والأدلّة كما تعلمون أدِلَّة أصْلية، وأدِلّة فرعِيَّة، فالأصلية الكتاب والسنة، والفرعية القياس والإجماع والاسْتحسان والمصالح المرسلة، إلى آخر الأدلة الفرعية في الاجتهاد.
وعن عاصم بن حميد عن معاذ بن جبل، قال:
لما بعثه رسول الله صلى لله عليه وسلم إلى اليمن خرج معه النبي الكريم لِيُوصيه،
فهل من الأصول المُتَّبعة الآن أنْ يخرج رأس القوم لِيُوَدِّع أصحابه الذين هم تابِعون له؟ هذا لا نجده عند غير النبي عليه الصلاة والسلام،
والأغرب من هذا أن معاذاً كان راكِباً، والنبي عليه الصلاة والسلام يمْشي محاذِيًا راحِلَتَه،
ما هذا؟
يَرْوي بعض كُتاب السيرة أنَّه:
نظر إليه ملِياً وتأمَّلَهُ كثيراً،
أنا اسْتنبطتُ من هذا كيف أَنَّ أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام يُحِبون النبي حُباً جماً؟ وكيف أنه أخذ عليهم مجامع قلوبهم؟ وكيف أنَّه أسَرَهم بِكماله؟ أعتقد أنّ النبي عليه الصلاة والسلام كان يُحِبُّهم حُباً جماً، واعْتقِدوا معي أيها الأخوة أنّ الحُبّ لا يُمكن أن يكون من طرفٍ واحد، كما أنهم كانوا يُحبونه كان عليه الصلاة والسلام يُحِبُّهم، وما خرج مع سيّدنا معاذ بن جبل مُشَيِّعاً له وهو يمْشي ومُعاذٌ يرْكب إلا من شِدَّة حُبّ النبي عليه الصلاة والسلام لمعاذ.
تَرْوي القصص أنه لما قدِم جعْفر أيضاً هشَّ له النبي عليه الصلاة والسلام وبشَّ،
فالنبي عليه الصلاة والسلام مشى معه ومُعاذٌ يركب والنبي يمْشي ويُوصيه، فلما فرغ قال: يا معاذ، إنك عسى ألاّ تلْقاني بعد عامي هذا،
يُسْتنبط من هذا اسْتِنباط دقيق، إذْ إنّ النبي عليه الصلاة والسلام آثر أن يُرسل سيّدنا معاذًا إلى اليمن لِيَدْعُوَ إلى الله هناك، ولِيُعَلِّمَهم كتاب الله وسنَّة رسوله، على أنْ يبْقى إلى جانِبِه، معنى ذلك أنّ أكبر هدفٍ يجب أن نسْعى إليه هو نشْرُ هذا الدِّين، نشرُ هذا العِلْم العظيم، ودعوة الناس إلى الله ورسوله، فالنبي أرْسله إلى اليمن،
ولعلَّكَ تمرُّ بِمَسْجِدي هذا وقبري، فَبَكى مُعاذٌ خُشوعاً لِفِراقِ رسول الله، ثمّ الْتَفَت بِوَجْهِهِ إلى المدينة، فقال: إنَّ أوْلى الناس بي المُتَّقون، مَنْ كانوا وحيث كانوا،
حُبٌّ شديد، وشَوْقٌ أشدّ، ووفاءٌ لا مثيل له، ومع ذلك الدعوةُ إلى الله عز وجل كانت فوق كُلِّ اعْتِبار.
- علمه :
سيِّدنا عمر، يقول: لو اسْتَخْلَفْتُ معاذ بن جبل، أيْ لو جعلهُ خليفةً من بعده، فسألني عنه ربي عز وجل: ما حَمَلَكَ على ذلك؟ لَقُلْتُ: سمِعْتُ نبِيَّك صلى الله عليه وسلَّم، يقول:
إنَّ العلماء إذا حضروا ربهم عز وجل كان مُعاذٌ بين أيْديهم.
إذاً: معي شهادةٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم بِأنّ مُعاذَ بن جبل أهلٌ لِخِلافة المُسلمين جميعاً،
بعض أصْحاب النبي وهو ابن مسْعود، كان يقول هكذا:
إنَّ معاذ بن جبل كان أمَّةً قانتاً لله حنيفاً، فقيل له: إِنّ إبراهيم هو الذي كان أمةً قانتاً لله حنيفاً، فقال: ما نسيتُ ولكن هل تدري ما الأمة وما القانت؟ قُلتُ: الله أعلم، فقال: الأمة الذي يعلمُ الخير والقانت المُطيع لله عز وجل ولِرَسوله وكان مُعاذ بن جبل يُعَلِّمُ الناس الخير وكانَ مُطيعاً لله عز وجل
إذاً: إنَّ معاذ بن جبل كان أمَّةً قانتاً لله حنيفاً.
وعن شهْر بن حَوْشَب:
كان أصْحاب مُحَمَّدٍ رِضْوان الله عليهم إذا تحَدَّثوا وفيهم مُعاذٌ نظروا إليه هَيْبَةً له
لقد كانت له هَيْبَة حتى مع أصْحاب النبي.
إليكم مواعظ هذا الإمام الجليل :
ومن مواعِظِه رضي الله عنه أنه كان يقول:
إنَّ مِن ورائِكم فِتناً يكثر فيها المال، ويُفْتح فيها القرآن، حتى يقْرأه المؤمن والمنافق، والصغير والكبير، والأحمر والأسود، فَيوشِكُ قائِلٌ أنْ يقول: ما لي أقرأ على الناس القرآن فلا يتبعوني عليه، فما أظنّ أنهم يتبعوني عليه حتى أبتدع لهم غيرَه، إياكم وإياكم وما ابْتُدِع، فإنَّ ما ابتُدِع ضلالة، وأُحَذِّركم من زَيْغَة الحكيم فإنَّ الشيطان يقول: عليَّ في الحكيم كلمة ضلالٍ واحدة، قالوا: وما يُدْرينا أنّ الحكيم قد يقول كلمة الضلالة؟ قال: هي كلمةٌ تُنْكِرونها، بِفِطَرِكم السليمة، وعُقولِكم الراجحة.
مُخالفة للفِطرة والعقل والنقل والواقع، تُنْكِرونها.
فالشيطان لا يتمنى إلا أنْ ينطق الحكيم بِكَلِمة ضلال واحدة، لأنَّ تلك الكلمة تُسيء إلى الدِّين إساءة كبيرة.
كلكم يعلم أنَّ أبا حنيفة النعمان رحمه الله كان يمشي في الطريق، فرأى غلاماً أمامه حُفْرة، فقال: يا غلام إياك أن تسْقط، ولا أدري كيف أنطَق اللهُ هذا الغُلام؟ وقال: بل أنت يا إمام إياك أن تسْقط، إني إنْ سقطتُ سقطْتُ وحدي، وإنك إنْ سقطتَ سقط العالم معك،
فالحكيم إذا تكلَّم كلمة ضلال واحدة سقطت معه الأمة، لأنَّ عامَّة الناس لا يُفَرِّقون بين الإسلام والمُسْلمين، ولا بين الحقِّ وأهل الحقِّ، ولا بين المبادئ وأصْحابها، فهذا التداخل يجْعلهم إنْ سقط أمامهم الحكيم سقط معه الدِّين،
فَلِذلك سيّدنا معاذ بن جبل أدْرك بِحاسَّتِه المُرْهفة أنَّ أكبر خطرٍ على الإسلام أنْ ينطق الحكيم بِكَلِمةِ ضلالٍ واحدة، لأنَّ هذه الكلمة الواحدة ربما أسْقطتْ كلّ كلامه الصحيح، فلو أنَّ أحداً أعْطاك مئات المعْلومات الصحيحة، ثمّ قال لك: اثْنين واثنين خمْسة، هنا يداخلك الشكّ، ليس في هذا الكلام، بل في كلّ ما قاله لك.
وقد يقول المنافق كلمة الحق، دقِّق في هذا، وقد يقول الحكيم كلمة ضلال، فما الأصل؟ المُتَكّلِّم أم الكلام؟ الكلام، وهذا ما قاله الإمام عليّ: نحن نعرف الرجال بِالحقّ ولا نعْرف الحق بالرجال
فالأصل هو الحق،
سيّدنا عمر رضي الله عنه كان يسْتعين بِرَأْيِ مُعاذ بن جبل، حتى إنه قال: لولا معاذ بن جبل لَهَلَكَ عُمر
وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: أَخَذَ بِيَدِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنِّي لَأُحِبُّكَ يَا مُعَاذُ، فَقُلْتُ: وَأَنَا أُحِبُّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَلَا تَدَعْ أَنْ تَقُولَ فِي كُلِّ صَلَاةٍ رَبِّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ
وكان هذا الصحابي، يقول:
يا بُني إذا صَلَّيْتَ فَصَلِّ صلاة مُوَدِّع، ويا بني إنَّ المؤمن يموت بين حَسَنَتَين: حسنةٍ قدَّمَها، وحسنةٍ أخَّرها
له أعمالٌ جليلة قبل موته، وترك خيراً كثيراً بعد موته.
ويقول هذا الصحابي الجليل: قد ابْتُليتُم بِفِتْنَة الضراء فَصَبَرْتُم وسَتُبْلَوْنَ بِفِتْنَةِ السراء وأَخْوَفُ ما أخاف عليكم فِتْنة النِّساء، إذا تسَوَّرْنَ الذهب، ولَبِسْنَ رباط الشام، وعَصْبَ اليَمَن، فأَتْعَبْنَ الغني، وكلَّفنَ الفقير ما لا يجد
لذلك كما قال عليه الصلاة والسلام: إنَ إبليس طلاعٌ رصاد وما هو من فُخوخه بِأَوثق في صَيْدِه في الأتْقِياء من النِّساء
فُخوخه - جمع فخّ –
إليكم العبرة من وفاته والمدة التي مكثها في الدنيا :
أيها الأخوة، فلما حضره الموت، قال:
أصْبَحْنا، فقِيل له: لم نُصْبِحْ؟ فقال رضي الله عنه: أعوذ بالله من ليلةٍ صباحُها النار، مرْحَبًا بالموت مرْحبًا بالموت، زائِرٌ مُغِبّ، حبيب جاء على فاقة، اللهم إني كنت أخافُك وأنا اليوم أرْجوك، إنك تعلم أني لم أكن أُحِبّ الدنيا وطول البقاء فيها لِكَرْي الأنهار، ولا لِغَرْس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر، ومُكابَدَة الساعات، ومُزاحَمَة العُلماء بِالرُّكَب عند حِلَق الذِّكر
وتُوُفِّيَ هذا الصحابي الجليل عن عُمُرٍ لا يزيد عن ثلاث وثلاثين سنة، فالعُمْرُ أَتْفَهُ ما فيه طولُهُ، وأعْظم ما فيه الأعمال الجليلة التي عمِلَها.
عن سعيد بن المُسَيِّب، قال: قُبِضَ مُعاذ بن جبل وهو ابنُ ثلاثٍ وثلاثين أو أرْبعٍ وثلاثين عاماً
العُمُر يُقاسُ بِوَزْن العمل الذي احْتواهُ لا بِمُدَّتِه.