الفضيلة وسط بين طرفين:
أيها الإخوة المؤمنون، مع سير التابعين رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، والتابعيّ الجليل اليوم هو محمد بن سيرين.
نقف وقفة متأنية عند من وصفه فقال: ما رأيت رجلاً أفقه في ورعه ولا أورع في فقهه من محمد بن سيرين.
معنى هذا القول أن هناك من الرجال من هو فقيه، لكنه ليس ورعاً، ومَن هو ورع، لكنه ليس فقيهًا، فأنْ تجمع بين الفقه والورع هذه صفة جليلة في الإنسان.
أيها الإخوة، التطرف سهل، لكن أن تجمع بين النقيضين فهذا يحتاج إلى بطولة، مثلاً أن تكون ليناً فالقضية سهلة، أنْ تكون قاسيًا أسهل، لكن أن تجمع بين القساوة واللين، هنا البطولة، أن تكون مرهوباً فقضية سهلة، أن تكون مرغوباً أسهل، أمّا أن تكون مرهوباً مرغوباً.. فهذا مِنَ البطولة بمكانٍ.
لذلك المربون دائماً لو أنهم تطرفوا إلى إحدى الصفتين لسقطوا، فلا تكن ليناً فتعصر، ولا قاسياً فتكسر.
إنّ الله عز وجل وصف الأنبياء بأنهم يعبدون الله رغباً ورهباً، خوفاً وطمعاً. فكما قلت قبل قليل الحالة المتطرفة سهلة، لكن أن تجمع بين اللين والقسوة، وبين الرهبة والرغبة، وأن يرجوك الإنسان، وأن يخافك في وقت واحد.
أنْ تكون فقيهاً فقضية سهلة، تحتاج إلى ذكاء، وإلى مطالعة، وإلى قراءة، وإلى حفظ، لكن أن تجمع بين الفقه والورع، أو أن تجمع بين الورع والفقه فهنا البطولة، لذلك قالوا: الفضيلة وسط بين طرفين.
ترك الدنيا سهل، وترك الآخرة سهل، ولكنَّ البطولة أن تجمع بينهما،
ليس بخيركم من ترك دنياه لآخرته، ولا آخرته لدنياه، حتى يصيب منهما جميعا، فإن الدنيا بلاغ إلى الآخرة، ولا تكونوا كلا على الناس *
أنْ توحِّد.. أيقنت أنه لا إله إلا الله، ربما حمَلك التوحيد على أن تكون قاسياً مع الناس، وأنْ تغرق في الحُبِّ على حساب التوحيد فهذا منزلق أيضاً، لكن أن تجمع بين التوحيد والحب.. فهذه بطولة الأبطال.
لا يوجد رجل على وجه الأرض أحبَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كالصِّدِّيق، لكن حينما مات النبي عليه الصلاة والسلام ما حمله حبه له أن يخرج عن قواعد التوحيد،
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَرَجَ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُكَلِّمُ النَّاسَ فَقَالَ اجْلِسْ فَأَبَى فَقَالَ اجْلِسْ فَأَبَى فَتَشَهَّدَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَمَالَ إِلَيْهِ النَّاسُ وَتَرَكُوا عُمَرَ فَقَالَ أَمَّا بَعْدُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ مَاتَ وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ إِلَى الشَّاكِرِينَ ) وَاللَّهِ لَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهَا حَتَّى تَلَاهَا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَتَلَقَّاهَا مِنْهُ النَّاسُ فَمَا يُسْمَعُ بَشَرٌ إِلَّا يَتْلُوهَا
أحياناً يوَحِّد الإنسان مع قسوة، أخي أنا رزقي على الله، ولستُ بحاجةٍ إليك،
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ لاَ يَشْكُرُ النَّاسَ لاَ يَشْكُرُ اللَّهَ
أحياناً التوحيد يحمل الإنسان على مواقف فظّة، غليظة، وأحياناً الحبّ الشديد يحمل الإنسان على الشرك، تحبُّه حتى تعبده من دون الله، فالبطولة أن تجمع بين التوحيد والحبّ، بين الدنيا والآخرة، بين الرجاء والخوف، بين الرهبة والرغبة، بين أن تكون ورعاً، وبين أن تكون فقيهاً.
هناك أشخاص عندهم ورع، كل شيء عندهم حرام، كلما سئل أحدُهم قال هذا حرام، حرام، حرام، حتى عطل بذلك الحياة، ليس هذا هو الفقه، أنْ تدرأ المسؤولية بالتحريم، هذا ليس فقهاً، يجب أنْ تعطي الفتوى التي أنت منها واثق مع الدليل، أنْ تعطي الرخصة، إذا كان هناك رخصة، فالفقهاء الكبار يفتون لأنفسهم بالعزائم، وللمسلمين بالرخص رحمةً بهم، خذ نفسك بالعزيمة، هذا فضيلة فيك، أما أنْ تحمل الناس على العزائم، وأن ترهقهم، وأن تهلكم، فليس هذا هو الورع.
والداه:
عزم سيرين ـ الحديث عن محمد بن سيرين، فإذا قلنا: عزم سيرين، فهو أبوه ـ عزم سيرين على أن يستكمل شطر دينه بعد أن حرّر أنسُ ابنُ مالكٍ رضي الله عنه رقبَتَه.
إذاً والد محمد بن سيرين كان مملوكاً لسيدنا أنس بن مالك، وبعد أن غَدَتْ حرفته تدرُّ عليه الربح الوفير، والخير الكثير، فقد كان نحّاساً ماهراً، يتقن صناعة القدور.
سيدنا عمر يقول: إني أرى الرجل لا عمل له فيسقط من عيني، وقيمة كل امرئ ما يحسنه.
أنا لا أنسى هذه القصة التي رواها أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ:
أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُهُ
فَقَالَ أَمَا فِي بَيْتِكَ شَيْءٌ
قَالَ بَلَى حِلْسٌ - بساط - نَلْبَسُ بَعْضَهُ وَنَبْسُطُ بَعْضَهُ وَقَعْبٌ - إناء - نَشْرَبُ فِيهِ مِنْ الْمَاءِ
قَالَ ائْتِنِي بِهِمَا قَالَ فَأَتَاهُ بِهِمَا فَأَخَذَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ وَقَالَ مَنْ يَشْتَرِي هَذَيْنِ
قَالَ رَجُلٌ أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمٍ
قَالَ مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا
قَالَ رَجُلٌ أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمَيْنِ
المزايدة واردة
فَأَعْطَاهُمَا إِيَّاهُ وَأَخَذَ الدِّرْهَمَيْنِ وَأَعْطَاهُمَا الْأَنْصَارِيَّ
وَقَالَ اشْتَرِ بِأَحَدِهِمَا طَعَامًا فَانْبِذْهُ إِلَى أَهْلِكَ وَاشْتَرِ بِالْآخَرِ قَدُومًا فَأْتِنِي بِهِ فَأَتَاهُ بِهِ فَشَدَّ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُودًا بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ لَهُ اذْهَبْ فَاحْتَطِبْ وَبِعْ وَلَا أَرَيَنَّكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا
فَذَهَبَ الرَّجُلُ يَحْتَطِبُ وَيَبِيعُ فَجَاءَ وَقَدْ أَصَابَ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ فَاشْتَرَى بِبَعْضِهَا ثَوْبًا وَبِبَعْضِهَا طَعَامًا
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَجِيءَ الْمَسْأَلَةُ نُكْتَةً فِي وَجْهِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَصْلُحُ إِلَّا لِثَلَاثَةٍ لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ أَوْ لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ أَوْ لِذِي دَمٍ مُوجِعٍ
فكل إنسان له حرفة، تجارة، صناعة، فهذا شرف، والإنسان يكتسب شرفه مِن عمله، ومِن حرفته، ومِن صنعته، وكان أصحاب رسول الله رهباناً في الليل، فرساناً في النهار.
أنا واللهِ أعجب لهذا المؤمن المتفوق في عمله، المتقن لعمله، الذي يكسب قوت يومه، ويده عليا، وهو في الصف الأول في مجالس العلم، وهو في مقدمة المؤمنين، والعار أنْ ترتكب العار، والعار ألاّ تعمل، فالعمل مقدس.
وسيدنا عمر يقول لأحد الولاة: إن هذه الأيدي خُلقت لتعمل، فإن لم تجد في الطاعة عملاً التمست في المعصية أعمالاً، فاشغلها بالطاعة قبل أن تشغلك بالمعصية.
إنّ العمل عبادة، وهذا يضطرني مرةً بعد مرة إلى أن أقول لكم: إن حرفة الإنسان إذا كانت في الأصل مشروعة، وتعامل معها الرجلُ بطريقة مشروعة ـ بلا كذب، ولا غش، ولا تدليس، ولا احتيال، ولا استغلال، ولا إيهام إلى آخره ـ إذا كانت مشروعة ومارسَتها بطريقة مشروعة، وابتغيتَ بها كفايَةَ نفسك وأهلك، وابتغيت بها كفاية نفسك وأهلك، وابتغيت بها خدمة الناس، ولم تشغلك عن فريضة ولا عن طلب علم، انقلبتْ هذه الفريضةُ إلى عبادة.
النبي رأى رجلاً يصلي في المسجد في غير أوقات الصلاة، قال: من يطعمك؟
قال: أخي،
قال: أخوك أعبد منك.
اليد العليا..
والمسلمون لا يتقدمون إلا بالعمل المخلص الجاد.
أكبر دولـة إسلامية الآن ما هي؟ إندونيسيا، بها مائة وخمسون مليون مسلم، هذه أكبر دولة إسلامية في العالم، إنما دخلها الإسلام عن طريق التعامل التجاري، لا عن طريق الجهاد، ولا عن طريق السيف، وهذا مصداق ما قاله النبي عليه الصلاة والسلام : التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الْأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ *
لا لأنه ربح المال الوفير، واستمتع به، بل لأنه أعطى نموذجاً كاملاً للمسلم.
رجل يبيع البيض، جاءه زبون، فقال له: عندك بيض، قال له: نعم، قال له: طازج، قال: لا والله، ليس طازجًا، الطازجُ عند جاري، هذا المسلم لا يكذب أبداً، والله يرزقه.
فعزم سيرين على أن يستكمل شطر دينه بعد أن حرَّر أنسُ ابنُ مالك رضي الله عنه رقبَتَه، وبعد أن غدَتْ حرفتُه تدُرُّ عليه الربحَ الوفير، والخير الكثير، فقد كان نحّاساً ماهراً، يتقن صناعة القدور.
لو لبس الإنسانُ لباساً متبذلاً في أثناء العمل (بذلة العمل)، ولو كان عمله مع الزيوت والشحوم، ومع الوحول، فهذا عمل نظيف، قال لي رجل مرةً يعمل عملاً أساسه إيقاع الأذى بالآخرين، ما رأيت مكتبًا أفخم من مكتبه، قال لي بالحرف الواحد: أنا عملي قذر،لحكمة بالغة في اليوم التالي ذهبت لأصلح مركبتي عند أخ كريم، أيام شتاء، والطريق وحل، وهو يلبس ثياب العمل، أزرق على أسود، كله شحم وزيت، واستلقى تحت المركبة وفكَّ الجهاز، واللهِ ما شعرتُ إلا وهو يقوم بأنظف عمل، في العين الظاهرة العمل فيه وحل وزيت وشحم، ولكنّه يقوم بأنظف عمل، لأنه عمل شريف، لقد قدّم خدمة، وأخذ أجرها بشكل معتدل.
كلمة نظيف عميقة جداً، لا تعني أن المكان نظيف، تعني طريقة الكسب نظيفة.
أكثر أماكن اللهو فيها أناقة ما بعدها أناقة، رخام على تزيينات، على... لكنها أماكن قذرة، مبنية على تحطيم الإنسان، وعلى إفساده، والمرأة هناك سلعةٌ محتقرة، أما محل متواضع في سوق شعبي، بيع وشراء، فهذا عمل شريف ونظيف، فابحثْ عن النظافة في التعامل.
وقد وقع اختياره على مولاة لأمير المؤمنين أبي بكر الصديق رضي الله عنه تُدعى صفية لتكون زوجة له.
والده مملوك عند سيدنا أنس ابن مالك، تزوج مولاة سيدنا الصديق اسمها صفية، كانت صفية جارية في بواكير الشباب، وضيئة الوجه، ذكية الفؤاد، كريمة الشمائل، نبيلة الخصائل، محبَّبة إلى كل من عرفها من نساء المدينة، وكانت أشدَّ النساء حباً لها زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا سيما السيدة عائشة.
تَقدَّم سيرين إلى أمير المؤمنين فخطب منه مولاته صفية،
فبادر الصديق رضي الله عنه إلى البحث عن دين الخاطب وخلقه، كما يبادر الأب الشفيق للبحث عن حال خاطب ابنته.
بالمناسبة، أنا الذي أراه أنه إذا كان لصحابي مولى، فهذا المولى لا يختلف إطلاقاً عن الابن، بل أن يكون الإنسان مولى لمؤمن القصدُ من ذلك أن يرى الإسلام عملياً، فهذا الذي أغلق عقله عن أن يفهم الإسلام، ربما فهِمَه بالتعامل الإنساني، هذا أصل أن يكون الإنسان مولى أو مولاة.
مضى يستقصي هذا الصحابي الجليل الصديق أحوال سيرين أشد الاستقصاء، ويتتبع سيرته أدق التتبع، وكان في طليعة من سألهم عنه أنس ابن مالك، فقال له أنس:
زوِّجها منه يا أمير المؤمنين، ولا تخش عليها بأساً، فما عرفته إلا صحيح الدين، رضي الخُلُق موفور المروءة، ولقد ارتبطت أسبابه بأسبابي منذ سباه خالد بن الوليد.
وافق الصديق على تزويج صفية من سيرين، وعزم على أن يبرهما كما يبرّ الأب الشفيق ابنتـه الأثيرة، فأقـام لإملاكهما حفلاً قلمـا ظفرت بمثله فتاة من فتيات المدينة، وقد شهد إملاكها طائفة كبيرة من كبار الصحابة، كان فيهم ثمانية عشر بدرياً.
أحياناً بعض الآباء يحب أن يوفِّر، هي فرحة في العمر، تبقى غصّة في قلب الفتاة طوال حياتها، ويبقى عدم الاحتفال غصّة في قلب العروس طوال حياته، يعني كلما قام يده عن رجله يقول: أهلك ما أقاموا لك حفلة كتاب، طول عمره، فيا أيها الأب، ويا أيها الأخ أقيموا حفلة.
فقد شهد إملاكها طائفة كبيرة من كرام الصحابة، فيهم ثمانية عشر بدرياً ودعا لها كاتب وحي رسول الله أبي بن كعب، وأمّن على دعائه الحاضرون، وطيَّبتها وزيَّنتها حين زُفت إلى زوجها ثلاثٌ من أمهات المؤمنين رضي الله تعالى عليهم أجمعين، والنكاح من سنة النبي عليه الصلاة والسلام.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ:
جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا فَقَالُوا وَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ
قَالَ أَحَدُهُمْ أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا
فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي *
وكلكم يعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمْ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الْأَدَاءَ وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ الْعَفَافَ
ما مِن شاب يغض بصره، ويحفظ فرجه، فهذا الإنسان حقٌّ على الله أنْ يعينه إذا طلب العفاف، وهناك آلاف القصص التي تؤكد هذه الحقيقة.
نشأته وطلبه للعلم:
ولد محمد بن سيرين لسنتين بقيتا من خلافة سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه، ورُبِّيَ في بيت يتبوَّأ الورع والتقى من كل ركن من أركانه، ولما أيفع الغلامُ الأريبُ اللبيبُ وجدَ مسجدَ رسول الله..
إنّ رواد المساجد مبارَكون، رواد المساجد وطلاب العلم تضَع الملائكة تضع أجنحتها لهم رضى بما يصنعون، رواد المساجد مؤمنون وربِّ الكعبة، قال تعالى: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ)
الأسبوع كم ساعة، أتعرفون؟ مائة وثمان وستون ساعة، فإذا خصّص الإنسان منها أربع ساعات لمعرفة الله ومعرفة الدار الآخرة، وأربع ساعات مواصلات، فهذه ثمان ساعات، فلا مانع من أجل أن تعرف الله، من أجل أن يرضى الله عنك، من أجل أن يُبنى الإيمان لبنة لبنة.
هذا التابعي تلقى العلم عن كبار الصحابة والتابعين، تلقى العلم عن زيد بن ثابت، وأنس ابن مالك، وعمران بن حصين، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وأبي هريرة.
الإنسان يفخر بأستاذه، فكيف بزيد بن ثابت، وأنس ابن مالك، وعمران بن حصين، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وأبي هريرة، هؤلاء أساتذة هذا التابعي الجليل، الذين أقبل عليهم إقبال الظامئ على المورد العذب، فنهل من علمهم بكتاب الله، وفقههم بدين الله، وروايتهم لحديث رسول الله، فما أفعم عقله حكمة وعلماً، وأترع نفسه صلاحاً وهداية،
تقسيم وقته:
ثم انتقلت الأسرةُ مع فتاها إلى البصرة واتّخذتْها لها موطناً.
أتلاحظون البصرة كيف جذبت لها طلاب العلم، كانت البصرة يومئذ مدينة بكراً، اختطَّها المسلمون في أواخر خلافة الفاروق عمر، وكانت تمثل جُلَّ خصائص الأمة الإسلامية، ومركزًا من مراكز التعليم والتوجيه للداخلين في دين الله، وصورة للمجتمع الإسلامي الجاد الذي يعمل لدنياه، كأنه يعيش أبداً، ويعمل لآخرته كأنه يموت غداً.
الآن اسمعوا.. محمد بن سيرين سلك في حياته الجديدة في البصرة طريقين متوازيين، فجعل شطراً من يومه للعلم والعبادة، وشطراً آخر للكسب والتجارة.
أحياناً ألتقي بأخ في عمله، في دكانه منتج، ومساءً في المسجد، واللِه شيء جميل أن تجمع بين الكسب الحلال، واليد العليا، وبين طلب العلم.
فهذا التابعي الجليل جعل شطراً من حياته من يومه للعلم والعبادة، وشطراً آخر للكسب والتجارة، فكان إذا انبلج الفجر، وأشرقت الدنيا غدَا إلى المسجد يعلِّم ويتعلَّم، حتى إذا ارتفع النهار مضى إلى السوق يبيع ويشتري، فإذا جاء الليل صفَّ في محراب بيته، وانحنى على أجزاء القرآن يبكي، ويتلو كتاب الله في صلاته، واللهِ شيء جميل.
من لم تكن له بداية محرقة، لم تكن له نهاية مشرقة
والبابُ مفتوح، وربنا هو هو، والعطاء مبذول لكل إنسان.
وكان يطوف في السوق في النهار للبيع والشراء، ومع ذلك لا يفتأ يذكِّر الناس بالآخرة.
وأنت تاجر، وأنت عامل، وأنت صانع،و أنت في عيادتك ذكِّر الناسَ بالله، كن داعية في أثناء العمل، هناك أشخاص ليس عندهم إمكانية.. تتداخل معه الأمور، هذا الزبون انصحه، فيه خير، سمته حسن، دُلَّه على الله، لعل هذا الزبون يصير من كبار المؤمنين عن طريقك، قمْ بتجارتين، تجارة مع الله، وتجارة مع البضاعة، فإذا دعوت إلى الله تاجرت مع الله، لقد سمَّاها الله تجارة، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)
التجارة المادية جمعت الأموال، وقد تنفقها، وقد تتحول إلى غيرك، لكن هذا الذي دلَلْته على الله من خلال التجارة أنت الآن تاجر حقاً، حتى انتهى بك السعي إلى هداية هذا الإنسان.
كان يطرفهم ويرشدهم إلى ما يقربهم إلى الله، ويفصل فيما يشجر بينهم من خلاف، وكان يطرفهم بين الحين والحين بالملحة التي تمسح الهمِّ عن نفوسهم المكدودة، من غير أن ينقص ذلك من هيبته، ووقاره عندهم شيئاً.
فإذا مع الإنسان شيء من الدعابة، لطيف، مرح، فهذا جاز وضروري، وقد كان النبي يمزح، فأحياناً المزاح اللطيف يجدد النشاط، والمعلمون الذين يتخيّرون بعض الطرف اللطيفة الأديبة، هؤلاء يجدِّدون نشاط طلابهم.
لا يكن الأب عبوسًا قمطريرًا، فلا بد أنْ يمزح الأب مع أولاده مزاحاً لطيفاً، فآنسهم وابتسم لهم،
كان عليه الصلاة والسلام إذا دخل بيته بساماً ضحاكاً، وكان يمزح، ولا يمزح إلا حقاً، وإنّ الدعابة من صفات المؤمنين.
كان الناسُ إذا رأوه في السوق، وهم غارقون غافلون انتبهوا، وذكروا الله عز وجل، وهلَّلوا وكبروا.
بالمناسبة، يقول عليه الصلاة والسلام: أولياء أمتي إذا رؤوا ذُكر الله بهم
وكان في سيرته العملية خير مرشد للناس، فما عرض له أمران في تجارته إلا أخذ بأوثقهما في دينه، ولو كانت فيها خسارة تصيب دنياه.
وإنْ كان فيها شبهة تركها، فهو دائماً مع الحلال، ترك شبهة الربا، بيع بسعرين تركه، بيع لأجل مع زيادة الثمن تركه، فأيّ قضية فيها شبهة تركها، واستوثق لدينه.
بعض مواقفه:
له مواقف غريبة، ولكنها ليست غريبة.
الموقف الأول:
لقد ادّعى رجل عليه كذباً أنّ له في ذمته درهمين،
فأبى أن يعطيه إياهما،
فقال له الرجل: أتحلف، وهو يظن أنه لا يحلف من أجل درهمين،
فقال: نعم، وحلف له،
فقال له الناس: يا أبا بكر أتحلف من أجل درهمين، وأنت الذي تركت أمسِ أربعين ألف درهم في شيء رابك مما لا يرتاب منه غيرك؟
فقال: نعم، أحلف.
فما التعليل؟
قال: نعم، أحلف، فإني لا أريد أن أطعمه حراماً، وأنا أعلم أنه حرام.
أنت مؤمن، ادّعى رجلٌ عليك زوراً وبهتاناً مبلغًا من المال، فقلت: لكن ليس لك عندي شيء، ولو تساهلتَ معه لأطعمته حرامًا، وكنتَ أنت السبب، لأنك أفسدته، وفتنته في دينه.
إنّ المسلم دقيق، العطاء عطاء، الحق حق، تريد مساعدة، فهذه مساعدة، أو صدقة فهي صدقة، لكن ليس لك عندي شيء، هذا موقف دقيق، تتساهل أنا لا أحلف، فتطعمه مالاً حرامًا، وأنت السبب، المؤمن أمره دقيق، مضبوط، عنده حسابات دقيقة، ليست أموره مسيّبة.
الموقف الثاني:
أجمل ما في هذا التابعي الجليل أنّ مجلسه كان مجلس خير وبرٍّ وموعظة، فإذا ذُكر عنده رجلٌ بسوء بادرَ فذَكَره بأحسن مما يعلم من أمره.
انظروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، حينما أسلم عكرمة بن أبي جهل لم يكن إنسان أعدى من أبيه، أبي جهل للإسلام، فالنبي عليه الصلاة والسلام حينما أسلم عكرمة قال لأصحابه: يأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمنا مهاجرا فلا تسبوا أباه، فإن سب الميت يؤذي الحي ولا يبلغ الميت
فأمام هذا التابعي الجليل رجلٌ سبَّ الحَجَّاج، فقال له:
صه يا ابن أخي إنَّ الحجاج مضى إلى ربه، وإنك حين تقدمُ على الله عز وجل ستجد أنّ أحقر ذنب ارتكبته في الدنيا أشدُّ على نفسك من أعظم ذنب اجترحه الحجاج
هذا من شأن الله عز وجل، فدعك من هذا كلِّه.
طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس،
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِي
فلكل منكما يومئذ شأن يغنيه، واعلم يا ابن أخي أن الله جل وعز سوف يقتص من الحجاج لمن ظلمهم، كما سيقتص لحجاج ممن يظلمونه.
فإذا ظلم اقتصّ الله منه، لكن إذا كنتَ أيضاً ظلمته فسوف يقتص الله منه، فلا تشغلن نفسك بعد اليوم بسبِّ أحد.
ورد في الأثر القدسي: أنا ملك الملوك، ومالك الملوك، قلوب الملوك بيدي، فإن أطاعني العبادُ حوَّلتُ قلوب ملوكهم عليهم بالرأفة والرحمة، وإن هم عصوني حولت قلوب ملوكهم عليهم بالسخط والنقمة، فلا تشغلوا أنفسكم بسب الملوك، وادعوا لهم بالصلاح، فإن صلاحهم من صلاحكم.
والإمام مالك إمام دار الهجرة يقول: لو أن لي دعوة مستجابة لادخرتها لأولي الأمر لأن في صلاحهم صلاح الأمة.
عود نفسك على الدعاء لا على السباب.
الموقف الثالث:
لهذا التابعي الجليل مواقف مِن ولاة بني أمية، مِن ذلك:
أن عمر بن هبيرة الفزاري رجل بني أمية الكبير، وواليهم على العراقين بعث إليه يدعوه إلى زيارته، فمضى إليه ومعه ابن أخيه، فلما قدِم عليه رحّب به الوالي، وأكرم وفادته، ورفع مجلسه، وسأله عن كثير من شؤون الدين والدنيا،
ثم قال له: كيف تركت أهل مصرك يا أبا بكر؟
قال: تركتهم والظلم فيهم فاش، وأنت عنهم لاه، فغمزه ابن أخيه بمنكبه، فالتفت إليه، وقال: إنك لستَ الذي تُسأل عنهم، وإنما أن الذي أسأل، ومن أمانة العلم تبيينه، وإنها لشهادة، ومن يكتمها فإنه آثم قلبه.
يعني إذا سُئلت فأجب، ولا تكتم الحقيقة.
لما انفض المجلس وَدَّعه عمر بن هبيرة بمثل ما استقبله به من حفاوة وإجلال، وبعث إليه بكيس فيه ثلاثة آلاف دينار فلم يأخذها، قال له ابن أخيه: ما يمنعك أن تقبل هبة الأمير؟
قال: إنما أعطاني لخير ظنه بي، فإن كنتُ من أهل الخير كما ظن، فما ينبغي لي أن أقبل، وإن لم أكن كما ظن فأحرى بي ألاّ أستبيح قبول ذلك.
الموقف الرابع:
له مشكلة صعبة، ولكن هكذا فعل.
اشترى مرةً زيتاً بأربعين ألفًا مؤجلة، فلما فتح أحد زقاق الزيت وجد فيها فأراً ميتةً متفسخة،
فقال في نفسه: إن الزيت كله كان في المعصرة في مكان واحد، وإن النجاسة ليست خاصة بهذا الزق دون سواه، وإني إن رددته للبائع بالعيب فربما باعه للناس، ثم أراقه كله، فأصبح عليه دين أربعين ألف دينار.
إنها محاكمة دقيقة..
وطالبه صاحب الزيت بما له، فلم يستطع سداده، رُفع أمره إلى الوالي فأمر بحبسه حتى يسدِّد ما عليه، فلما صار في السجن، وطال مكوثه فيه أشفق عليه السجّان لِمَا عَلِمَ من أمر دينه، وما رأى من شدة ورعه وطول عبادته.
واللهِ إنّه لموقف صعب، تشتري زيتًا نجسًا، إن رددته باعه صاحبُه للناس.
دخل السجن خوفاً من الله، وخوفاً من أن يُحرق في النار يوم القيامة، فصاحب السجن عرف قصته، إنه رجل ورع جداً، قال: أيها الشيخ إذا كان الليل فاذهب إلى أهلك وبت معهم، فإذا أصبحت فَعُدْ إلي.
أنت إنسان عظيم، دخلت هذا السجن من شدة ورعك، واستمرْ على ذلك حتى يُطلق سراحك، كل يوم نَمْ عند أهلك،
فقال: لا واللهِ، لا أفعل،
قال: ولِمَ، أنا أسمح لك؟
قال: حتى لا أعينك على خيانة ولي الأمر، أنت تخون ولي الأمر بهذا العرض، فإذا قبلتُ هذا العرض أعنتُك على خيانة ولي الأمر.
لما احتضر أنس ابن مالك أوصى بأن يغسله محمد بن سيرين، ويصلي عليه، وكان ما يزال سجيناً، فلما توفي جاء الناس إلى الوالي بوصية صاحب رسول الله وخادمه، واستأذنوه أن يخلي سبيل محمد بن سيرين لإنفاذ الوصية،
فقال لهم محمد بن سيرين: لا أخرج حتى تستأذنوا صاحب الدين، والإذن ليس من الوالي، بل من صاحب الدين.
إذا أراد الرجلُ أن يحج بمال، وعليه دين فلا يُقبل حجُّه إلا إذا استأذن صاحب الدين، والذي عليه دين يحرم عليه أن يأكل لونين من الطعام، ونوعين من الفاكهة.
فأذن له الدائن، عند ذلك خرج من سجنه، فغسل أنساً، وكفنه وصلى عليه، ثم رجع إلى السجن كما هو، ولم يذهب لرؤية أهله ؛ لأن الإجازة فقط لتغسيل الميت، لأهله لم يذهب.
وفاته:
عمّر محمد بن سيرين حتى بلغ السابعة والسبعين، فلما أتاه اليقين وجده خفيف الحمل من أعباء الدنيا، كثير الزاد لما بعد الموت.
إخواننا الكرام، من حاسب نفسه حساباً عسيراً في الدنيا، كان حسابه يوم القيامة يسيراً، ومن حاسب نفسه في الدنيا حساباً يسيراً، كان حسابه يوم القيامة عسيراً.
هذه حالة نادرة جداً، إنسان يدخل السجن وهو تابعي جليل ورعاً، أما عندما مات فلم يوجد عليه شيء.
كله بثمنه.. ورع، مجتهد، صائم، مُصَلٍّ، دخلُك حلال، إنفاقك حلال، بيتك إسلامي، عملك إسلامي، فأنت من المقربين. (فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ)