بحث

ربيعة الرأي

ربيعة الرأي

بسم الله الرحمن الرحيم

      أيها الإخوة المؤمنون، مع سيرة التابعين رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، والتابعيّ اليوم هو ربيعة الرأي.  

والده:  

      تبدأ قصة هذا التابعي في السنة الواحدة والخمسين للهجرة، وكتائبُ المسلمين تضرب فجاجَ الأرض مشرِّقةً مغرِّبةً، حينما نفَّذ المسلمون قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ)  

      إلى أن عمَّ الهدى بقاعَ الأرض، لقد كان المسلمون رعاةً للبقر، فأصبحوا قادةَ الأمم، وحينما انكمشوا وآثروا الراحة والسكون غُزُوا في عقر دارهم،   

      فكتائب المسلمين في السنة الواحدة والخمسين للهجرة كانت تغزو مشارق الأرض ومغاربها، وتحمل للإنسانية العقيدة البانية، وتمدّ إليها المصلحة الحانية، وتجعل الولاءَ وحده لله تعالى.  

      والصحابي الجليل الربيع بن زياد الحارثي أمير خراسان، وفاتح جسستان، والقائد المظفر، يمضي على رأسِ جيشه الغازي في سبيل الله، ومعه غلامه الشجاع فروخ.  

      هنا الشخصيـة الأولى في القصـة، الصحابي الجليل الربيـع بن زياد الحارثي، غلامه المخلص في فتوحاته وجهاده، غلامه الشجاع فروخ.   

      هذا الصحابي الجليل عزم بعد أن أكرمه الله بفتح جسستان وغيرها من الأصقاع أن يختم حياته الحافلة بعبور نهر سيحون، ورفع رايات التوحيد فوق ذرى تلك الأصقاع، والتي كانت تسمى وقتها بلاد ما وراء النهر.  

      فهل من عمل أعظم من أن تنشر الهدى في الأرض،   

      فهذا الصحابي الجليل أراد أن يفتح بلاد ما وراء النهر، فأعدّ للمعركة الموعودة عدتها، واتخذ لها أهبتها، وفرض على عدوه زمانها ومكانها فرضاً، ولما نشَبَ القتالُ أبلى هذا القائد الربيع وجنده بلاءً ما يزال يذكره التاريخ بلسان نديٍّ بالحمد، لطيف بالإكبار، وأظهر غلامه فروخ في ساحات الوغى من ضُروب البسالة، وصنوف الإقدام ما زاد الربيع إعجابًا به، وإكباراً له، وانجَلَت المعركة عن نصر مؤزَّرٍ للمسلمين، فزلزلوا أقدامَ عدوهم، ومزّقوا صفوفه، وفرّقوا جموعه.  

      إخواننا الكرام:   

      المعركة بين حق وباطل قصيرة جداً، لأن الله مع الحق،   

      والمعركة بين حقين لا تكون، بل هي مستحيلة، فالحَقّانِ لا يتصارعان،   

      والمعركة بين باطلين تدوم كثيراً،   

      فبين حقين مستحلية، وبين حق وباطل قصيرة، وبين باطل وباطل طويلة،   

      فهناك قوانين، إذا كنتَ مع الله كان الله معك، وإذا أردتَ نشر الهدى يعينُك الله يعينك، إذا أقمتَ شرعَ الله يحفظك الله.  

      ثم عبَروا النهر الذي كان يحول دونهم ودون الانسياح في بلاد الترك، ويمنعهم عن الاندفاع نحو أرض الصين، والإيغال في مملكة الصغد، فلما اجتازوا النهر وصلوا إلى معاقل الأتراك في أصل موطنهم، وإلى بلاد الصين، وامتدَّت الفتوحات إلى أقصى المشرق، وما إِنْ عبَر القائدُ العظيمُ النهرَ، واستقرَّتْ قدماه على ضفته الثانية حتى بادر وتوضأ هو وجنوده من مائه، فأحسنوا الوضوء، واستقبلوا القبلة، وصلوا ركعتين شكراً لله واهب النصر.  

      إخوانا الكرام: إذا حققتَ إنجازَ في الحياة، نجحتَ، وتزوجتَ زوجةً صالحةً، وتوظَّفتَ، أسَّستَ عملاً، فقد أُزِيلَتْ عقبة، وانحلتْ عقدة، وزال خطر، وتبدَّد شبح المرض، وأثبت التحليلُ أنَّ الجسمَ سليمٌ، والنبي علّمنا أن نصلي لله ركعتي الشكر، فطبِّقْ هذه السنة كلما حققت إنجازاً، أو ارتقيت مكانة، أو نلت مكسباً، أو وصلت إلى هدف، أو زال من أمامك عقبة، أو تبدّد شبح مصيبة، بادرْ إلى صلاة الشكر، فلها معانٍ كثيرة، أنت موحِّد، ولن تغفل عن فضل الله، ولن تعزو أمرًا إلى بَشَرٍ، ولن تشرك، فأنت وفيٌّ لمَن أنعم عليك. ( لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ)  

      فهذا القائد الربيع بعد أن عبر النهر، وفتح هذه البلاد توضأ من ماء النهر هو وجنوده، وصلَّوا لله ركعتان شكرًا على نعمة النصر، ثم كافأ هذا القائد غلامه فروخاً على حسن بلائه فأعتق رقبته، وأصبح حراً، وأعطاه نصيبَه من الغنائم الكثيرة الوفيرة، ثم زاده من ماله الخاص شيئاً كثيراً، ولم تَطُلْ حياةُ هذا الصحابي الجليل كثيرا، إذْ وافاه الأجلُ المحتومُ بعد سنتين اثنتين من تحقيق حلمه الكبير، فمضى إلى ربه راضياً مرضياً.  

      إخوانا الكرام: واللهِ إني لكم لناصح: إنّ الدنيا تافهة، ولا قيمة لها،   

       فقد أوحى ربك إلى الدنيا أنه مَن خدمك فاستخدميه، ومَن خدمني فاخدُميه،  

      المصيبة أن يُمْضِيَ الإنسانُ أيامَه بالمعاصي، ثم يأتيه مرض عضال، ماذا يفعل ؟ انتهى، المصير واضح، لكن هذا الإنسان أمضى حياته في طاعة الله، وفي الدعوة إليه، وفي خدمة الخلق، وطلب العلم وتعليمه، وفي الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وخدمة أهل الحق، هل هذا يعد خاسرًا ؟ الموت حق، ولا بد أن يأتي.  

      وصل إلى بلاد ما وراء النهر، ثم وافته المنية، فهنيئاً له، هذا ليس موتاً، هذا عرس، هذه تحفة،   

      أما الفتى الباسل الشجاع فروخ فقد عاد إلى المدينة المنورة، يحمل معه سهمه الكبير من الغنائم، والهبة السخية التي وهبها له القائد العظيم، ويحمل فوق ذلك حريَّته الغالية، لقد أصبح حراً، وذكرياته الغنية بروائع البطولات المكللة بغبار المعارك، أمّا هذا الغلام الحر الغني فعاد إلى المدينة دفّاق الحيوية، ممتلئاً فتوةً وفروسية، وكان يخطو نحو الثلاثين من عمره.  

والده يبني أسرة في المدينة:  

      وقد عزم فروخ أن يتخذ لنفسه منزلاً يستقر فيه، وزوجةً يسكن إليها، فاشترى داراً في أوسط دور المدينة، واختار امرأة راجحة العقل.  

      إخوانا الكرام: أول حق لأولادك عليك - هذا الكلام موجه للشباب بالدرجة الأولى - أول حق، وأقدس حق لأولادك عليك أن تحسن اختيار أمهم، فالمرأة العاقلة لا تقدَّر بثمن، إنك إن اخترتَ امرأة عاقلةً ضمنتَ أسرة ناجحة، وضمنتَ أولاداً مهذبين، يكونون أعلامَ المجتمع، فاختار فرُّوخ امرأة راجحة بالعقل، كاملة الفضل، صحيحة الدين، تقاربه في السن، واقترن بها.  

لقد نَعِمَ فروخ بهذه الزوجة، وبهذه السكينة، ورأى في صحبة امرأته هناءة العيش، وطيبة العشرة، ونضارة الحياة، وفوق ما كان يرجو ويأمل، إلا أنه هنا بدأت العقدة،   

      فالإنسان الذي يعرف لماذا خلق في الحياة، والذي يعرف قيمة الوقت، لا يركن للنعيم في الدنيا، خذوا هذا الكلام، التافهون وحدهم الذين يركنون إلى الدنيا، بيت واسع، مفروش بأحدث الأثاث، دخل كبير، شاب في رَيعان الشباب، زوجة شابة، مركبة فخمة، مكان آخر بالمصيف، ماذا فعلت؟ أقول لك: ما فعلت شيئاً، هذا وقت ثمين، هذا الوقت يجب أن ينفق إنفاقًا استثماريًّا، لا إنفاقًا استهلاكيًّا، أكلنا، وشربنا، ونمنا، وعملنا، واستمتعنا، وتنزهنا، هذا استهلاك لرأس مالك الثمين.  

      كنتُ مرة في مكان جميل، فرأيت بيتًا (فيلا) جميلاً جداً، والمهندس الذي صممها على مستوى عالٍ جداً من الذوق، والأناقة، والإبداع، قلت في نفسي: لو أن هذه الفيلا لكَ، وسكنتَ فيها، وتمَتَّعْتَ بهذه المناظر الجميلة يوم بعد يوم، بعد يوم، إلى أن يأتي الأجل، ثم تذهب إلى الله مفلساً، أمّا إذا جلست في المدينة، وعملت الأعمال الصالحة، وتأتي عند الله عز وجل لعله يرحمك بهذه الأعمال، فالإنسان لا يستمرئ النعيم في الدنيا إلاّ إذا كان ضيق الأفق، ضعيف العقل، فحينئذ يستمرئ نعيم الدنيا لأنه مؤقت،   

      دققوا في قول النبي عليه الصلاة والسلام:   

       يا أيها الناس إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، ودار ترح لا دار فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشدة، ألا وإن الله تعالى خلق الدنيا دار بلوى، والآخرة دار عقبى، فجعل بلـوى الدنيا لثواب الآخرة، وثواب الآخرة من بلوى الدنيا عوضا، فيأخذ ويبتلي ليجزي، فاحذروا حلاوة رضاعها لمرارة فطامها، واحذروا لذيذ عاجلها لكربة آجلها، ولا تسعَوْا في عمران دار قد قضى الله خرابها، ولا تواصلوها وقد أراد منكم اجتنابها، فتكونوا لسخطه متعرضين، ولعقوبته مستحقين   

      لأن الرخاء موقت، والشقاء موقت.  

      فهذا فروخ رغم أن البيت في المدينة، والزوجة كاملة، وصالحة، وحياة مريحة، ومعه ثروة طائلة، على الرغم من كل هذه الشروط الرائعة التي توافرت له، بعد أن أعتقه سيده، وبعد أن أبلى بلاءً حسناً في القتال، وتلك الزوجة الصالحة، على كل ما حباها الله من كل كريم الشمائل، وجليل الخصائل لم تستطِع أن تغلب فروخاً على حنينه إلى خوض المعارك، وإنّ خوض المعارك فيه رقيّ،   

      وأضرب مثلاً، لو جلس رجلٌ في حوض سباحة، حيث الماء دافئ، فارتاح بالجلوس في هذا الحوض، فهل يجعله عالماً ؟ لا ! تاجراً ؟ لا ‍‍‍! إنه استمتاع رخيص، واستهلاك للوقت، فلما يميل الإنسان إلى الراحة، والقعود للتمتع، واستهلاك جهود الآخرين، والأخذ من طيبات الحياة الدنيا، معنى ذلك أنه يستهلك رأس ماله، ألا وهو عمره الثمين، وهذا سيجعله يوم القيامة فقيراً، ضعيفاً،   

      قيل: الغنى غنى العمل الصالح، والفقر فقر العمل الصالح، والغنى والفقر بعد العرض على الله،   

والده يتركه وهو جنين:  

      فاشتاق فروخ إلى سماعِ وقعِ النصالِ على النصالِ، وولعَ لاستئناف الجهاد في سبيل الله، فكان كلما ترددتْ في المدينة أخبارُ انتصارات الجيوش الإسلامية الغازية في سبيل الله، تأجَّجت أشواقُه إلى الجهاد، واشتدّ حنينُه إلى الاستشهاد، وذات يوم من أيام الجمع سمع فروخ خطيبَ المسجد النبوي الشريف يزفّ للمسلمين بشرى انتصارات الجيوش الإسلامية في أكثر من ميدانٍ من ميادين الحرب، ويحضّ الناسَ على الجهاد في سبيل الله، ويرغِّبهم في الاستشهاد إعزازاً بدينه، وابتغاءً لمرضاته، فعاد إلى بيته، وقد عقَد العزمَ على الانضواء تحت راية من رايات المسلمين المنتشرة تحت كل نجم، وأعلن عزمه لزوجته،   

       فقالت: يا أبا عبد الرحمن لمَن تتركني ؟ وتترك هذا الجنين الذي أحمله بين جوانحي،  زوجته حامل،  فأنت هنا رجل غريب، ولا أهل لك فيها ولا عشيرة،   

       فقال: أتركك لله،   

      أمّا علّمنا النبي عليه الصلاة والسلام دعاء السفر ؟   

       اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ اللَّهُمَّ اصْحَبْنَا فِي سَفَرِنَا وَاخْلُفْنَا فِي أَهْلِنَا اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرَ وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ وَمِنْ الْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْنِ وَمِنْ دَعْوَةِ الْمَظْلُومِ وَمِنْ سُوءِ الْمَنْظَرِ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ   

      ثم إني خلفت لك ثلاثين ألف دينار، ثروة كبيرة جداً، فصونيها وثمّريها، وأنفقي منها على نفسك وولدك بالمعروف حتى أعود إليك سالماً غانماً، أو يرزقني الله الشهادة التي أتمنّاها، ثم ودّعها ومضى إلى غايته،  

ولادته وتربية أمه له وحضه على التعلم:  

      في آخر الدرس، حيث ستَرَوْن كيف أن أثمن شيء في الحياة أن ترزق غلاماً يصلحُ الناسَ من بعدك، إذاً أنت لم تَمُتْ وضعت السيدة الرزان حملّها بعد رحيل زوجها ببضعة أشهر، فإذا هو غلام مشرق الوجه، حلو القسمات، ففرحت به فرحاً عظيماً، كاد ينسيها فراق أبيه، وأطلقت عليه اسم ربيعة، وهذا الغلام الصغير موضوع درسنا اليوم.  

      والحقيقة مغزى القصة ، بدت على هذا الغلام الصغير علامات النجابة منذ نعومة أظفاره، وظهرت أمارات الذكاء في أفعاله وأقواله،   

      فأسلمته أمُّه إلى المعلِّمين، وأوصتهم بأن يحسنوا تعليمه، واستدعت له المؤدبين، وحضَّتهم على أن يحسنوا تأديبه،   

      فأنا لا أرى أعقل من أبٍ يعطي كل جهده لتربية أولاده، إنهم كسبه الحقيقي، إنهم استمراره من بعد موته، إنهم الصدقة الجارية التي لا تنقطع بعد الموت،   

      فما لبس هذا الغلامُ حتى أتقن الكتابة والقراءة، ثم حفظ كتاب الله عز وجل، وجعل يرتِّله ندياً طرياً كما أنزل على فؤاد محمد صلوات الله عليه، ووَعَى ما تيسّر من أحاديث رسول الله، واستظهر كلام العرب، وعرف من أمور الدين ما ينبغي أن يعرف، وقد أغدقت أمُّ ربيعة على معلمين ولدها ومؤدبيه المال والجوائز إغداقاً، فكانت كلما رأته يزداد علماً تزيده براً وإكراماً.  

أنا أقول لكم كلامًا دقيقًا، وهذا الكلام موجّه لمن عنده أولاد، شعور الأب حينما يرى ابنه في أعلى مرتبة أخلاقية، وعلمية، ودينية، شعور لا يوصف، بل يمتلئ قلبه سعادة، وقد قال الله عز وجل: ( وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً )

      يعني من سعادتك الكبرى العظيمة أن يكون ابنك صالحاً.  

      وكانت تترقب عودة أبيه، وتجتهد في أن تجعله قرّة عين لها وله، لكن فروخاً طالت غيبته، ثم تضاربت الأقوال فيه، قال بعضهم: إنه وقع أسيراً في أيدي الأعداء، وقال آخرون: إنه مازال طليقاً يواصل الجهاد، وقال فريق ثالث عائد من ساحة القتال: إنه نال الشهادة التي تمناها، فترجح هذا القول الأخير عند أم ربيعة لانقطاع أخبار زوجها، فحزنت عليه حزناً أمضى فؤادها، ثم احتسبته عند الله.  

      هناك قصص للتابعين فيها مواقـف، لو سألتني: هل هي وفق الشرع ؟ أقول لك هذه مواقف شخصية، وليست مواقف شرعية، يا ترى هل يجوز للإنسان أن يغيب عن زوجته عشرين عاماً ؟ هذا الموقف ليس موقفاً شرعياً، هذا موقف شخصي، ولكل مجتهد نصيبٌ من اجتهاده، والله تعالى رب النوايا، أنا لا أقر ما فعله فروخ حينما ترك امرأته وهي حامل، وغاب أمداً طويلاً، يا ترى هكذا الشرع يأمرنا ؟ نحن نقرأ قصة، نأخذ منها الإيجابيات، ونتغافل عن السلبيات.  

محبته للعلم:  

      أيفع ربيعة، ودخل مداخل الشباب، واستكمل ما ينبغي لفتًى مثله أن يستكمله من القراءة والكتابة، وزاد على أقرانه فحفظ القرآن وروى الحديث،   

      فاختار ربيعة أن يكون عالماً، وعزم على أن يعيش متعلماً ومعلماً ما امتدت به الحياة، وكلكم يعلم أنه يظل المرء عالماً ما طلب العلم، فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل،   

      لذلك أقبل ربيعة على حلقات العلم، كل إنسان له مسعى. 

      ( وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى)  

      أقبل على حلقات العلم التي كان يزخر بها مسجد المدينة، كما يقبل الظمآن على الموارد العذاب، ولزم البقية الباقية من الصحابة الكرام، وعلى رأسهم أنس بن مالك خادم رسول الله، هذا أكبر أستاذ له، وأخذ عن سعيد بن المسيب، ومكحول الشامي، وسلمة بن دينار، وواصلَ الليلَ بالنهار، إقبالاً على العلم، وطلباً له، واحتواءً له،   

      وإذا كلمه أحد ودعاه إلى الرفق بنفسه كان يقول: سمعنا أشياخنا يقولون:  العلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك، فإذا أعطيته بعضك لم يعطِك شيئاً،  

       ليس في العلم حل وسط، يمكن أنْ يكون في العمل حل وسط، بل في كل شيء حل وسط إلا في العلم، فالعلم يحتاج إلى إتقان، والعلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك، فإذا أعطيته بعضك لم يعطِك شيئاً، والشيء الغريب أنّه لا تحصل لذة العلم إلا بالتعمق فيه، فعدم تعمق العلم عبء ومللٌ.  

      ثم ما لبث كثيراً حتى ارتفع ذكره، وبزغ نجمه، وكثر إخوانه، وأولِع به تلاميذه، وسوّده قومه، وأقول لكم بصراحة: إذا حضر الرجلُ مجالس العلم، وطلب العلم بصدق وبإخلاص فهذا الإنسان من حقه على الله، ومن كرامته على الله أن ييَسِّر له سبيل نشر العلم، ويرزقه قدرة على ذلك،   

عودة والده:  

      سارت حياة هذا العالم الصغير فكان شطرٌ من يومه في داره لأهله وإخوانه، وشطر آخر لمسجد رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، للعلم وحلقاته، ولقد مضت حياته متشابهة حتى وقع فيها ما لم يكن في الحسبان، ولا زلنا في عقدة القصة.  

      في أحد الأيام، وفي عشية من عشيات الصيف، وصل إلى المدينة المنورة فارس في أواخر العقد السادس من عمره، ومضى في أزقتها راكباً جواده، قاصداً داره، وهو لا يدري إن كانتْ دارُه ما تزال قائمة على عهده بها، أم أنّ الأيام قد فعلت بها فعلها، فمضى على غيابه عنها ثلاثين عاماً.  

      فحينما عاد إلى المدينة سأل عن أخبار زوجته الشابة، هل وضعت حملها، وهل كان ذكراً أو أنثى، وإذا كان ذكراً فما حاله اليوم، أسئلة كثيرة تواردت على ذهنه، لكنْ في القصة موقف عجيب، وهو أن زوجته حينما رأته، وأبلغت ابنها فروخاً أنه أبوه، لأنه رأى الباب مفتوحًا فدخل، إنسان غاب عن بلده أمدًا طويلاً، فالتبس الأمر على فروخ أنه إنسان فارس، يدخل إلى بيت دون استئذان، وهو بيتـه،فحدثَتْ مشادة بينه وبين ابنه دون أن يعرف، استيقظت الزوجةُ على الضجيج، فأَطلَّت من النافذة فقالت: يا بني إنه أبوك، وحينما سمع ربيعةُ أنّ هذا أبوه طفق يعانقه ويقبِّل يديه، وعُنُقَه، ورأسَه، ونزلت أم ربيعة تسلم على زوجها الذي ما كانت تظن ظناً أنه حيٌّ على وجه الأرض، بعد أن انقطعت أخباره مدةً طويلة، جلس فروخ إلى زوجته وطفِق يحدِّثها عن أحواله، ويكشف لها عن أسباب انقطاع أخباره، ولكنها كانت في شغلٍ شاغل عن كثير مما يقول، لقد نغص فرحتها بعودته، واجتماع شملها به خوفُها من غضبه على إضاعة المال الكثير الذي أودعه عندها، فقد ترك ثروة طائلة، مثل الآن عشرة ملايين، كانت تقول في نفسها: ماذا لو سألني الآن عن ذلك المبلغ الكبير، وهي أنفقته كله على ابنها، حتى صار بهذا العلم، ماذا سيكون لو أخبرته أنه لم يبق منه شيء، أيقنعه قولي: إنني أنفقته على تربية ابنه وتعليمه، وهل تبلغ نفقة ابنه هذا المبلغ الضخم، أيصدِّق ذلك ! في داخله صراع مع نفسها، فرحت بلقاء زوجها، لكنها خافت من موضوع المبلغ الكبير، وفيما كانت أم ربيعة غارقة في هواجسها التفتَ إليها زوجُها، وقال: لقد جئتك يا أم ربيعة بأربعة آلاف دينار، فأخرجي المال الذي أودعته عندك وضمِّيه إليه، ونشتري بالمال كله بستاناً، أو عقاراً، نعيش من غلته ما امتدت بنا الحياة، فتشاغلتْ عنه ولم تجبه بشيء، أعاد عليها الطلب،   

وقال: أين المال حتى أضمّ إليه ما معي ؟   

      قالت: لقد وضعته حيث يجب أن يوضع، في المكان الصحيح، وسأخرجه لك بعد أيام قليلة إن شاء الله،  

      وقطع صوت المؤذن عليها الحديث، فهبَّ فروخ إلى إبريقه فتوضأ، ومضى نحو الباب يقول: أين ربيعة ؟ فقالوا: سبقك إلى المسجد، منذ النداء الأول، ولا نحسبك أن تدرك الجماعة، لم يعرف القصة، فبلغ فروخ المسجد ووجد أن الإمام قد فرغ من الصلاة، فأدّى المكتوبة، ثم مضى نحو الضريح الشريف فسلم على النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم انثنى نحو الروضة المطهرة، فقد كانت في فؤاده أشواق إليها، تخيَّر مكان في رحابها وجلس،   

ربيعة العالم:  

      ولما همّ بمغادرة المسجد وجد باحته قد غصّت على رحبها بمجلس من مجالس العلم، لم يشهد له نظيراً من قبل، ورأى الناس قد تحلَّقوا حول شيخ المجلس حلقة إثر حلقة، حتى لم يتركوا للساحة موطئًا لقدم، وأجال بصره في الناس، فإذا فيهم شيوخ معمّرون ومعمّمون، وذو أسنان، ورجال متوقرون، تدلّ هيأتهم على أنهم ذو أقدار، وشبان كثيرون قد جثّوا على ركبهم، وأخذوا أقلامهم بأيديهم، وجعلوا يلتقطون ما يقوله الشيخ كما تلتقط الدرر، ويحفظونه في دفاترهم، كما تحفظ الأعلاق النفيسة، وكان الناس متجهين بأبصارهم إلى حيث يجلس الشيخ منصتين إلى كل ما يلفظ من قول، حتى كأنَّ على رؤوسهم الطير، وكان المبلغون ينقلون ما يقوله الشيخ فقرة فقرة، فلا يفوت أحد منها شيء مهما كان، وحاول فروخ أن يتبيّن من هو الشيخ، ولا يعرف أنه ابنه، فلم يفلح في ذلك لموقعه منه، وبُعْدِه عنه، لقد راعه منه بيانه المشرق، وعلمه المتدفق، وحافظته العجيبة، وأدهشه خضوع الناس بين يديه، وما هو إلا قليل، حتى ختم الشيخ المجلس، ونهض وافقاً، فهبَّ الناس متجهين إليه، وتزاحموا عليه، وأحاطوا به، واندفعوا وراءه،   

      وهنا التفتَ فروخ إلى رجل كان يجلس في المجلس، قل لي بربك: من الشيخ ؟   

      قال باستغراب: ألا تعرفه ! ليس في المدينة كلها من لا يعرفه، هو أعلم علمائها.  

      قال اعذرني أنا لا أعرفه، أنا جئت حديثاً، مَن هو ؟ لقد أمضيت نحواً من ثلاثين عاماً بعيداً عن المدينة، ولم أَعُدْ إليها إلا أمس،   

      قال: لا بأس، اجلس إليَّ قليلاً لأحدِّثك عن هذا الشيخ، إنّ الشيخ الذي استمعتَ إليه سيِّدٌ من سادات التابعين، وعلَمٌ من أعلام المسلمين، وهو محدِّثُ المدينة وفقيهها، وإمامها، على الرغم من حداثة سنة،   

      قال فروخ: ما شاء الله، لا قوة إلا بالله، فأتبع الرجل، وإنّ مجلسه يضمّ كما رأيت مالك بن أنس، وأبا حنيفة النعمان، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وسفيان الثوري، وعبد الرحمن بن عمر الأوزاعي، والليث بن سعد   

      قال فروخ: غير أنك لم تخبرني مَن هو الشيخ، فلم يُتِحْ له الرجل الفرصة لإتمام كلامه، وأرى وهو فوق ذلك أنه سيدٌ كريمٌ الشمائل، موطأ الأكناف، سخي اليد، فما عرف أهل المدينة أحداً أوفر منه جوداً لصديق وابن صديق، ولا أزهد منه في متاع الدنيا، ولا أرغبَ بما عند الله،   

      قال فروخ: ولكنك لم تذكر لي اسمه، يا أخي مَن هو هذا الشيخ ؟ قل لي مَن ؟   

      قال: إنه ربيعة الرأي،   

      قال فروخ: ربيعة الرأي،   

      قال الرجل: نعم اسمه ربيعة، لكن علماء المدينة وشيوخها دعوه ربيعة الرأي، لأنهم إن كانوا لم يجدوا لقضية نصاً في كتاب الله، أو حديث رسول الله لجؤوا إليه فيجتهد بالأمر، ويقيس ما لم يرد فيه نص، على ما ورد فيه نص، ويأتيهم بالحكم فيما أشكل عليهم، على وجه ترتاح له النفوس،   

      قال فروخ: لكنك لم تنسبه لي، ابنُ من هو ؟   

      قال الرجل: إنه ربيعة بن فروخ، المكنى بأبي عبد الرحمن، لقد ولد بعد أن غادر أبوه المدينة مجاهداً في سبيل الله، فتولَّت أمُّه تربيته وتنشئته، ولقد سمعت الناس يقولون: إن أباه قد عاد الليلة الماضية، هكذا قال الناس، عند ذلك تحدَّرت من عين فروخ دمعتان كبيرتان، لم يعرف لهما سبباً، ومضى يحثُّ الخطى نحو بيته، فلمّا رأته أم ربيعة، والدموع تملأُ عينيه،   

      قالت: ما بك يا أبا ربيعة ؟ قال: ما بي إلا الخير، لقد رأيت ولدنا ربيعة في مقام من العلم والشرف والمجد، ما رأيته لأحد من قبل، فاغتنمت أم ربيعة الفرصة، وقالت: أيهما أحبُّ إليك ثلاثون ألف دينار، أم هذا الذي بلغك عن ولدك من العلم والشرف،   

      فقال بلى، والله، هذا أحبُّ إليَّ وآثرُ عندي من مال الدنيا كله،   

      فقالت: لقد أنفقت كل ما تركته لي على ولدك، حتى صار عالماً، فهل طابت نفسُك بما فعلت،   

      قال: نعم، وجُزِيتِ عني خيراً، وعن المسلمين.  

الخلاصة:  

      إخوانا الكرام: هذه قصة ملخصة بآخرها، إذا استطعتَ أنْ تجعل ابنك إنسانًا عظيمًا فأنت أسعدُ إنسان في العالم، إذا استطعتَ أنْ تربي ابنك تربية إسلامية صحيحة، فيطلب العلم، فأنت أسعد إنسان بالعالم، ولو أنفقت عليه ألوف مئات الألوف، فأنت الرابح، فلو أنفقت عليه كل شيء، وصار ابنك في هذا المستوى فأنت الرابح، ترك لها ثروة طائلة جداً، وهي خائفة أن يقول لها: أين المال ؟ فلما رأى ابنه بهذا المكان نَسِيَ المال، ما أردت من هذه القصة إلا أن أحثَّكُم على تربية أولادكم، لأن الآباء إذا رأوا أبنائهم منحرفين مع رفقاء السوء، في الضلالات، وفي دور اللهو، مع المنحرفين تُعصَر قلوبهم آلامًا، ويتقطع قلب الأب ألماً، ماذا يفعل.  

      فنحن أيها الإخوة، كل واحد له ابن يحتاج من وقتك الشيء الكثير، ومن مالك الشيء الكثير، وقدِّم له كل ما تملك، ليكون كما يريد الله عز وجل، فهذا زادُك عند الله، والذي عنده ابن صالح فليسمعْ هذا الكلام مرة ثانية، والذي عنده ابن صالح مقبل على الدين، مستقيم على أمر الله، يحب الله ورسوله، يجب أن يضع جبهته على الأرض، ويشكر الله عز وجل على هذه النعمة، لأنه ما مِن نعمة على الإطلاق تفوق هذه النعمة، فهذا مجاهد، وابنه عالم، فنال المجد من طرفيه، وقد فتح هو البلاد، وابنه فتح القلوب.  



المصدر: السيرة - سيرة التابعين الأجلاء - الدرس 14-20 : التابعي ربيعة الرأي