بحث

ذكوان بن كيسان

ذكوان بن كيسان

بسم الله الرحمن الرحيم

      أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس سير التابعين رضوانُ الله تعالى عليهم أجمعين، و تابعيُّ اليوم طاووس بن كيسان،   

      يقول عمرُو بن دينار:  ما رأيتُ أحدا قط مثلَ طاووس بن كيسان  

      طبعا نحن نؤرِّخ لكبار التابعين.  

      هذا التابعي الجليل علَّمته المدرسةُ المحمَّدية أن الدين هو النصيحة، وفي تعريف جامع مانعٍ للنبيِّ عليه الصلاة والسلام،   

      قَالَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدِّينُ النَّصِيحَةُ   

الإسلام وأركانه وما بُني عليها:  

      ولا تُؤخذ بعبادة الرجل، عليك أن تُقيِّمه بمدى نصحه للناس، العبادات الشعائرية أيها الإخوة لا قيمة لها من دون إحكام العبادات التعاملية، دائما وأبدا الإسلام مجموعة مبادئ، ومجموعة قيم، ومجموعة مثُل، ولا أدلَّ على ذلك من قول النبي عليه الصلاة و السلام،   

      قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَصَوْمِ رَمَضَانَ  

      فهل هذه هي الإسلام؟ الإسلام بُني على خمس، فهل هذه الخمس هي الإسلام؟ هذه الخمس بني عليها الإسلام، والإسلام شيء آخر، الإسلام قيم، ومبادئ، وصدق، وأمانة، وعفَّة، وجرأة، وصراحة، واستقامة، الإسلام ضبطُ الدخل، وضبط الإنفاق، وضبط الجوارح، وضبط البيوت، وضبط العمل،   

      في أيامِ تخلُّف المسلمين فَهِم المسلمون الإسلام الأركان الخمسة فقط، فإذا صلَّى و صام وحجَّ فهو مسلم، ولا عليه أن يغشَّ الناس بعد ذلك، ولا عليه أن يأكل أموالهم بالباطل، ولا عليه أن يكذب، ولا عليه أن ينافق، ولا عليه أن يدجِّل،   

      إذًا الإسلام بني على خمس، وأوضحُ شاهدٍ سمعتموه مني كثيرا:  

       عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ابْنَةِ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ لَمَّا نَزَلْنَا أَرْضَ الْحَبَشَةِ جَاوَرْنَا بِهَا خَيْرَ جَارٍ.... قَالَتْ فَكَانَ الَّذِي كَلَّمَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ لَهُ:  

       أَيُّهَا الْمَلِكُ كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ وَنُسِيئُ الْجِوَارَ يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ وَأَمَرَ بِصِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ وَالْكَفِّ عَنْ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاء....  

      هل هناك أوضح من هذا؟ واللهِ كلام كالشمس، إسلامنا قيم، إسلامنا مبادئ، وإسلامنا استقامة، وإسلامنا غضُّ بصر، وإسلامنا عفَّة، وإسلامنا حياء، وإسلامنا أنْ يأمنك أخوك على مليون، ويأمنك على أهله، وعلى ماله، وعلى دمه،   

التعريف به:  

      اسمُ هذا التابعي ذكوانُ بن كيسان، الملقَّب بطاووس، الطاووس طائر معروف، حسن الشكل، طويل العنق، جميل القنبرة، وقد سمِّي به كثير من العلماء، خُلع عليه لأنه كان طاووسَ الفقهاء، والمقدَّم عليهم في عصره، أي سيد الفقهاء،   

قصته مع والي اليمن:  

      هذا التابعي الجليل من أهل اليمن، وكان والي اليمن محمد بن يوسف الثقفي، أخو الحجاج بن يوسف، عيَّنه الحجاجُ واليًا على اليمن بعد أن عظُم أمرُه، وقويَتْ شوكتُه، واشتدَّت هيبتُه إثرَ قضائه على حركة عبد الله بن الزبير، وكان محمد بن يوسف يُجمع في ذاته كثيرا من سيئات أخيه الحجاج، ولكنه ما كان يتحلَّى بشيء من حسناته.  

      مرة دخل عليه طاووس في أيام الشتاء الباردة، ومعه وهبُ بن منبِّه، فلما أخذا مجلسيهما عنده طفق طاووسُ يعظه، ويرغِّبه، ويرهِّبه، والناسُ جلوسٌ بين يديه،   

      فقال الوالي لأحدِ حُجَّابه: يا غلام أحضِر طيلسانًا، ثوب ثمين جدًّا، وألقِه على كتفي أبي عبد الرحمن، طاووس، فعمد الحاجبُ إلى طيلسانٍ ثمين، وألقاه على كتفي طاووس، لكنَّ طاووس ظلَّ متدفِّقًا في موعظته، وجعل يحرِّك كتفيه في تُؤدة حتى ألقى الطيلسانَ عن عاتقه، حركتان أو ثلاث، دفع الطيلسان إلى خلف ظهره، وهبَّ واقفا وانصرف، أي ما قبِل هذا العطاء، ما تكلَّم، حّرك حركات خفيفة إلى أن ألقى الطيلسان من كتفه، ووقف، وانصرف، فغضب محمدّ بن يوسف غضبا ظهر في احمرار عينيـــه، واحتقان وجهه، فلما صار طاووس و صاحبه خارج المجلس،   

      قال وهبٌ لطاووس: واللهِ لقد كنا في غنًى عن إثارة غضبه علينا، فماذا كان يضيرُك لو أخذتَ الطيلسان ثم بِعته، وتصدَّقت بثمنـه على الفقراء والمساكين،   

       فقال طاووس: هو ما تقول   

      أي هكذا كان أفضل، أن آخذه، وأن أبيعه، وأن أتصدَّق بثمنه على الفقراء والمساكين،   

      قال: نعم،   

       قال: فإذا قال الناسُ أو العلماء من بعدي: نأخذ كما أخذ طاووس، صرتُ قدوةً لهم، ثم لا يصنعون فيما أخذوه ما تقول،   

      لكن محمد بن يوسف الثقفي أراد أن يردَّ لطاوس الحجرَ من حيث جاء، ولكن بذكاء وبحنكة، نصبَ له شَركا من شراكـه، حيث أعدَّ صُرَّةً فيها سبعمائة دينار، واختار رجلا حاذقا من رجال حاشيته،   

      وقال له: امضِ بهذه الصرة إلى طاووس بن كيسان، واحتلْ عليه في أخْذِها، فإن أخذَها منك أجزلتُ عطيَّتك، وكسوتك، وقرَّبتك،   

      أي تستطيع أنْ تعطيه إياها   

      فخرج الرجلُ بالصرة حتى أتى طاووسا في قرية كان يقيم بها بالقرب من صنعاء،يقال لها الجَنَد، فلما صار عنده حيَّاه، وآنسه،   

      وقال له: يا أبا عبد الرحمن هذه نفقة بعث بها الأمير إليك،   

       فقال أبو عبد الرحمن: مالي بها من حاجة،   

      فاحتال بكل طريق ليقبلها فأبى، وأدلى له بكل حجَّة فرفض، فما كان منه إلا أن اغتنم غفلةً من طاووس، ورمى بالصرة في كُوَّة كانت في جدار البيت، وجد كوة في حائط الغرفة وطاووس التفت إلى هذه الجهة فوضع الصرة في الكوة، وعاد راجعا إلى الأمير،   

      وقال: لقد أخذ طاووسُ الصرة أيها الأمير، فسُرَّ بذلك محمدُ بن يوسف، وسكت عليه، فلما مضت على ذلك أيامٌ عدّة أرسل اثنين من أعوانه، ومعهما الرجل الذي حل إليه بالصرة، و أمرهما أن يقولا له: إن رسول الأمير قد أخطأ فدفع إليك المال، وهو مرسلٌ لغيرك، و قد أتينا لنسترِدَّه منك، نحمله إلى صاحبه،   

      فقال طاووس: ما أخذتُ من مال الأمير شيئا حتى أردَّه إليك،   

      فقالا: بل أخذته، فالتفت إلى الرجل الذي حمل إليه الصرة،   

      وقال له: هل أخذتُ منك شيئا؟ كانت له هيبة، فأصاب الرجلَ الذُّعرُ، وقال: كلا، و إنما وضعتُ المال في هذه الكوة في غفلة منك،   

      فقال طاووس: دونك الكوة فانظر فيها، فنظرا في الكوة فوجد فيها الصرة كما هي، فأخذها، وعاد بها إلى الأمير،   

      الخطَّة لم تنجح، ما معنى: ( إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ )

      رسم له خطة خبيثة، دفع له هذا المبلغ، فإذا أنفقه بعد يومين، يقول: هات المبلغ، أنفقت منه، ضعه في السجن، هو ما أخذه، ولكن ربُّنا عزوجل ألبسه ثوبا من الهيبة، فلما توجَّه إلى الرجل الذي جاء بها إليه قال له: هل أخذت منك شيئا؟ هذه الهيب.  

       من هاب اللهَ هابه كلُّ شيء، و من لم يهب اللهَ أهابه اللهُ من كل شيء،  

      قَالَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ وَأُحِلَّتْ لِي الْمَغَانِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً   

      إذا كنتَ مع الله، ألقى الله عزوجل عليك الهيبة، في بيتك، في عملك، و الإنسان لما يعصي الله عـزوجـل تنخلع منه الهيبة، لا شأن له، و لا أحد يعبأ به، هناك من يتطاول عليه، لكن من حفر حفرةً لأخيه وقع فيها، قال: و كأنما أراد اللهُ عزوجل أن يقتصَّ من محمد بن يوسف على فعلته هذه، و أن يجعل قصاصه منه على مرآى من الناس، فكيف وقع ذلك؟.  

      حدَّث طاووسُ بن كيسان فقال: بينما أنا في مكة حاجًّا، بعث إليَّ الحجَّاجُ بن يوسف الثقفي، فلما دخلتُ عليه رحَّب بي، وأدنى مجلسي منه، وطرح إليَّ وسادةً، ودعاني لأن أتَّكئ عليها، ثم راح يسألني عما أشكل عليه من مناسك الحج، وفيما نحن كذلك سمع الحجَّاج ملبِّيا يلبِّي حول البيت، ويرفع صوته بالتلبية، و له نبرةٌ تهزُّ القلوبَ هزًّا، يبدو من الإنسان الصادق أحيانا أنه يلفت النظرَ بدعائـه، وتضرُّعه،   

      فقال الحجاجُ: عليَّ بهذا الملبِّي، عليَّ به، فأوتي له به،   

      فقال له: ممن الرجل؟   

      فقال: من المسلمين،   

      فقال: لم أسألك عن هذا، إنما سألتك عن البلد،   

      قال: من أهل اليمن،   

      قال: كيف تركتم أميركم، أي أخاه، قال: تركته عظيما، كبيرا، جسيما لبَّاسا ركَّابا، خرَّاجا ولاَّجا،   

      أي أكل، وشرب، وبيت، ومركب، ونزهات، ومداخلات، وصف فيه إيجاز، تركتـه عظيما، جسيما، لبَّاسا، ركَّابا، خرَّاجا، ولاَّجا،   

      فقال الحجاجُ: ليس عن هذا سألتك،   

      فقال: عما سألتني إذًا؟ قال: سألتك عن سيرته فيكم، عن أخلاقه،   

      قال: تركته ظلوما غشوما، مطيعا للمخلـوق، عاصيًا للخالق، ويأتيك بالأخبار مَن لم تزوِّد، هذا معنى قول الله عزوجل: ( إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ)  

      أحيانا الإنسان يظهر أحسن أعماله لمَن فوقه، واللهُ عزوجل بطريقة أو بأخرى تُنقَل الصورة السوداء للجهة الأعلى عن الأدنى، من دون قصد، تركته عظيما، جسيما، لبَّاسا، ركَّابا، درَّاجا، ولاَّجا، فقال: ليس عن هذا سألتك، عما سألتني إذًا؟ قال: سألتك عن سيرته فيكم، عن أخلاقه   

      قال: تركته ظلوما غشوما، مطيعا للمخلوق عاصيًا للخالق،   

      فاحمرَّ وجهُ الحجاج خجلا من جلسائه،   

      وقال: ما حملك على أن تقول فيه ما قلته، وتعلم أنت مكانه مني،   

      تعرف أنه أخي،   

      فقال: أتراه بمكانه منك أعزَّ منك بمكاني مِنَ الله، وأنا وافدٌ بيته، مصدِّقٌ نبيَّه، قاضي دينه، أكذب على الله في بيته،   

      معقول، أنت أغلى عليَّ مِن الله عزوجل؟ سألتني، فأجبتك،   

      فسكت الحجاج و لم يُحِر جوابا،   

      قال طاووس: ثم ما لبث الرجل أن قام، وانصرف مِن غير أن يستأذن، أو أن يؤذن له،   

      فقلت في إِثره في نفسي: إن هذا الرجل صالح، فأتبعه، وأظفر به قبل أن تغيِّبه عن عينيك جموعُ الناس، فتبعته فوجدته قد أتى البيتَ، وتعلَّق بأستاره، ووضع خدَّه على جداره، وجعل يقول:  اللهم بك أعوذ، وبجنابك ألوذ، اللهم اجعل لي في الاطمئنان إلى جودك، والرضا بضمانك مندوحة عن منع الباخلين، وغنى عما في أيدي المستأثرين،  

      والحديث القدسي أيها الإخوة:   

       ما من مخلوق يعتصم بمخلوق دوني أعرف ذلك من نيته، إلا جعلت الأرض هويا تحت قدميه، و قطَّعت أسباب السماء بين يديه، و ما من مخلوق يعتصم بي من دوني خلقي أعرف ذلك من نيته، فتكيده أهلُ السماوات و الأرض إلا جعلت له من بين ذلك مخرجا.  

      إخواننا الكرام ؛ الله هو هو، إلهُ صحابة رسول الله هو إلهنا، إله التابعين إلهنا، القرآن هو هو، فأنت إذا اعتصمت بالله، واستقمت على أمره لا يمكن إلا أن ترى من آياته الدالَّة على أنه هو الإله، ( وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ ) (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ)  (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ)  (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ)  (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى)  

      الله عزوجل يشعرك دائما أنه موجود، وأنه معك:   

كن مع الله ترَ الله معك     واترك الكلَّ وحاذِر طمعك  

و إذا أعطاك من يمنعه     ثم من يعطي إذا ما منــعك  

      المؤمن الصادق يشعر أن الله معه، يشعر بوجود الله، تجد أصعب إنسان يلين قلبُه معه، واللهُ عزوجل يسخِّر عدوَّك ليخدمك، ويسخر القويَ فيها لك، يقف أمامك في حيرة، وهو قادر على أن يسحقك، ما الذي ألجمه.  

      ذكرت لكم قبلاً، لما بلغ الحَجَّاجَ أن الحسن البصري ذكره بغير ما يريد، فمباشرة خاطب مَن حوله، قال: أنتم جبناء، واللهِ لأسقينكم من دمه، أعطى أمرا فوريا للسياف أن يهيِّئ نفسه لقطـع رأس الحسن البصري، مُدَّ النطعُ في بهو القصر، وجيء بالسياف، وقال لصاحب الشرطة: ائتني بالحسن البصري لقطع رأسه، وانتهى الأمر، دخل الحسن البصري على الحجاج، فوقف لـه، وقال: أهلا بأبي سعيد، ماذا حدث؟ شيء لا يُصَّدق، فما زال يدنيه منه حتى أجلسه في مجلسه، وسأله عن صحته، وتلطَّف معه، وعطَّره، وسأله بعض الأسئلة، وأجابه الحسنُ، وقام، وودَّعه، وقال: يا أبا سعيد أنت سيد العلماء، السياف نظر، لم يفهم الذي حدث، معه أمرٌ بقطع رأسه فورا، والنطع ممدود، فتبعه الحاجبُ، وقال له: يا أبا سعيد لقد جيء بك لغير ما فُعل بك، فما القصة؟ لما دخلتَ رأيناك تمتمت، فماذا قلت؟ قال الحسن البصري، قلت:  يا وليَ نعمتي، يا ملاذي عند كربتي اجعل نقمته عليَّ بردا وسلاما كما جعلت النارَ بردا وسلاما على إبراهيم،  

      أنا هناك كلمة أقولها كثيرا:  إذا كان اللهُ معك فمن عليك، وإذا كان اللهُ عليك فمن معك   

      واللهِ أيها الإخوة أعرف أناسا أقرب الناس إليهم زوجته أو ابنُه يتطاول عليه، وقد يضربه، وأعرف أناسا أعدى أعدائه يكرمه، إذا كان اللهُ معك فمن عليك، و إذا كان اللهُ عليك فمن معك، ليس معك أحد،   

      لذلك المؤمن موحِّد، دائما يقول: يا ربي ليس لي إلا أنت  

      تبرَّأ من حولك، ومن قوتك، ومن ذكائك، وأتباعك، ومن يحبك، ومن يدعمك، ومن يغطِّي أعمالك، تبرَّأ من هؤلاء جميعا، حتى يتولى اللهُ حفظك، وتأييدك، ونصرك، ورعايتك،   

      قال: اللهم بك أعوذ، و بجنابك ألوذ، اللهم اجعل في الاطمئنان إلى جودك، والرضا بضمانك مندوحة عن منع الباخلين، وغنًى عما في أيدي المستأثرين،  

       اللهم إني أسألك فرجك القريب، ومعروفك القديم، وعاداتك الحسنة، يا رب العالمين،  

       قال: ثم ذهبت موجةٌ من الناس، و أخْفَتْهُ عن عيني، فأيقنتُ أنه لا سبيل إلى لقائه بعد ذلك، فلما كانت عشيةُ عرفة رأيته، وقد أفاض مع الناس فدنوتُ منه،   

      فإذا هو يقول: اللهم إن كنتَ لم تقبل حجِّتي وتعبي ونصبي فلا تحرمني الأجرَ على مصيبتي لتركك القبولَ مني،   

      فلما يئس من لقائه قال:   

       اللهم اقبل دعائي، و دعائه، واستجِب لرجائي ورجائه، وثبِّت قدمي وقدمه يوم تزلُّ الأقدام، واجمعني معه على حوض الكوثر يا أكرم الأكرمين.  

قصته مع الخليفة سليمان بن عبد الملك:  

      جاء خليفةٌ ثانٍ اسمه سليمان بن عبد الملك يلقي رحاله في أكناف البيت العتيق، و يدلُّ أشواقه إلى الكعبة المعظَّمة، ثم التفت إلى حاجبه،   

      وقال: ابتغِ لنا عالما يفقِّهنا في الدين، ويذكِّرنا في هذا اليوم الأغرِّ من أيام الله عزوجل،   

      فمضى الحاجبُ إلى وجوه أهل الموسم، وطفق يسألهم عن بُغية أمير المؤمنين،   

      فقيل له: هذا طاووس بن كيسان سيد فقهاء عصره، وأصدقهم لهجة في الدعوة إلى الله، فعليك به،   

      فأقبل الحاجبُ إلى طاووس، وقال: أجِب دعوةَ أمير المؤمنين أيها الشيخ،   

      فاستجاب طاووسُ له من غير إبطاء، ذلك أنه كان يؤمن بأن على الداعية إلى الله تعالى ألاّ تعرض لهم فرصةٌ إلا اغتنموها، وألاّ تسمح لهم بادرةٌ إلا ابتدروها، وكان يوقن أنّ أفضل كلمة تُقال هي كلمة حقٍّ أُريد بها تقويم اعوجاج،   

      فلما دخل على أمير المؤمنين حيَّاه، فردَّ الخليفة التحيةَ بأحسنَ منها، وأكــرم استقبال زائره، وأدنى مجلسه، ثم أخذ يسائله عما أشكل عليه من مناسك الحج، وينصت إليه في توقير وإجلال،   

       قال طاووس: فلما شعرتُ أن أمير المؤمنين قد بلـغ بغيتـــه، ولم يبق ما يسأل عنه قلتُ في نفسي: إنّ هذا المجلس لمجلسٌ يسألك اللهُ عنه يا طاووس، ثم توَّجهت إليه،   

       وقلت: يا أمير المؤمنين إّن صخرة كانت على شفير بئر في قعر جهنم، وقد ظلتْ تهوي في هذه البئر سبعين خريفا، حتى بلغت قرارها، أتدري يا أمير المؤمنين لمن أعدَّ اللهُ هذه البئر من آبار جهنم؟   

      فقال من غير روِيَّة: لا، ثم عاد لنفسه، وقال: ويلك لمن أعدَّها؟   

      بئر في قعر جهنم يهوي فيها الإنسان سبعين خريفا، إلى أن يصل إلى قعرها،   

       فقال طاووس: يا أمير المؤمنين أعدّها الله عزوجل لمن أشركه في حكمه فجار   

      لمن يظلم،   

      فأخذت سليمانَ رِعدةٌ، ظننتُ معها أن روحه تصعد إلى باريها، وجعل يبكي، و لبكائه نشيج يقطِّع نياطَ القلوب، فتركته، وانصرفتُ، وهو يجزِّيني خيرا، ماذا يقول له الخليفةُ؟ جزاك الله خيرا،   

      أيقظه.  

قصته مع الخليفة عمرُ بن عبد العزيز:  

       ولما ولِيَ عمرُ بن عبد العزيز الخلافة بعث إلى طاووس، وقال له: أوصني يا أبا عبد الرحمن،   

       كتب إليه طاووسُ رسالةً في سطر واحد، قال فيها: إذا أردتَ أن يكون عملُك خيرا كلَّه فاستعمِل أهل الخير، والسلام  

      أي أكبر مهمة يفعلها وليُّ الأمر أن يستعمل الصالحين، الأمناء الأكفاء، قال تعالى: ( قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ)  

      سيدنا عمر قال لأحد الولاة أراد أن يمتحنه، قال له  

       إن وجدناك أمينا ضعيفا استبدلناك لضعفك، وسلَّمتك من معرَّتنا أمانتك، وإن وجدناك خائنا قويًّا استهلنا بقوَّتك، وأوجعنا ظهرك، وأحسنا أدبَك، وإن جمعت الجُرمين، جمعنا المضرتين، وإن وجدناك أمينا قويًّا زدناك في عملك.  

موقفه مع الخلافةُ هشام بن عبد الملك:  

      لما قدِم هشام البيت الحرام قال لخاصَّة أهله: التمسوا لنا صحابيا من أصحاب رسول الله،  

      قالوا له: إن الصحابة قد تلاحقوا بربهم واحدا إِثرَ آخر، حتى لم يبق منهم أحد، في عهد هشام بن عبد الملك لم يبقَ من أصحاب النبي أحدٌ،   

      قال: إذًا فمن التابعين،   

       أوتيَ له بطاووس، فلما دخل عليه خلع نعليه بحاشية بساطـه، وسلَّم عليه من غير أن يدعوَه بأمير المؤمنين، وخاطبه باسمه دون أن يكنيه، وجلس قبل أن يأذن له بالجلوس، فاستشاط هشامُ غضبا حتى بدا الغيظُ في عينيه،   

      قال: ويحك، ما حملك على ما صنعت؟   

       قال: وماذا صنعت،   

      فقال الخليفة: خلعت نعليك بحاشية بساطي، ولم تسلِّم عليَّ بإمرة المؤمنين، وسمَّيتني باسمي، ولم تكنِّني، ثم جلستَ من غير إذني،   

       فقال طاووس بهدوء: أما خلعُ نعليَّ بحاشية بساطك فأنا أخلعها بين يدي رب العزة كل يوم خمس مرات في المسجد، فلا يعاتبني ربي، ولا يغضب عليَّ، وأما قبولك: إني لم أسلِّم عليك بإمرة المؤمنين فلأن جميع المؤمنين ليسوا راضين بإمرتك، وقد خشيتُ أن أكون كاذبا إذا دعوتُك بأمير المؤمنين،   

       وأما ما أخذته عليَّ من أني ناديتك باسمك، ولم أُكنِّك، فإن الله عزوجل نادى أنبياءه بأسمائهم، يا داوود، يا يحيى يا عيسى، وكنى أعداءه بألقابهم، قال:  ( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ)  

       هل هناك أوضح من هذا، أما قولك: إني جلست قبل أن تأذن لي، فإني سمعت أمير المؤمنين عليَّ بن أبي طالب يقول:  إذا أردتَ أن تنظر لرجل من أهل النار فانظر إلى رجل وحوله قوم قيام بين يديه  

       فكرهتُ أن تكون أنت ذلك الرجل،   

      فأطرق هشامُ إلى الأرض خجلا، ثم رفع رأسه وقال: يا أبا عبد الرحمن عِظني،   

       قال: إني سمعتُ عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه يقول إن في جهنم حيَّاتٍ كالقلال، وعقارب كالبغال، تلدغ كلَّ راعٍ لا يعدل في رعيته، ثم قام وانصرف  

      سبحان الله لأنه مخلص، وصادق، ويبتغي وجهَ الله تقع هذه الكلمات موقعا حسنا في نفوس الخلفاء، الإنسان الصادق يجعل اللهُ عزوجل لكلامه تأثيرا.  

      هذا التابعي جعل همَّه أن يعظ أولي الأمر، انظُر كم خليفة، وكم والٍ، وكم مِن إنسان دخل عليه، إخلاصُه لله جعل له هيبة كبيرة، وصدقه في هداية الآخرين جعل لكلامه ذلك التأثير.   

الخلاصة:  

      نرجو اللهَ عزوجل أن نستفيد من هذه المواقف، أي الدين النصيحة، فملخَّص درسنا " الدين النصيحة " الآن هناك اتِّجاه آخر، يقال: يا أخي أعطه جَمَله، ولا توجع رأسك، أنت انصح أخاك، وانصح أجيرك، وانصح أقرباءك، وانصح شريكك، لا تسكت، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي الفريضة السادسة.   



المصدر: السيرة - سيرة التابعين الأجلاء - الدرس 17-20 : التابعي ذكوان بن كيسان