لمواقف المشرفة التي قدمها الصحابي الجليل طلحة بن عبيد الله في خدمة الإسلام وأهله:
أبو محمّد طلْحَةُ بن عُبَيْدِ الله، هذا صحابيٌّ جليل بعثه النبي صلى الله عليه وسلّم مع سعيد بن زيدٍ قبل خُروجِهِ إلى بدْرٍ، يتَجَسَّسان خبرَ العِير، فَمَرَّتْ بِهما، فَبَلَغَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلَّم الخَبَرُ، فَخَرَج ورجعا يُريدان المدينة، ولم يعْلما بِخُروج النبيّ صلى الله عليه وسلَّم فَقَدِما في اليوم الذي لاقى فيه النبي صلى الله عليه وسلّم المُشْركين، فَخَرَجا يعْتَرِضان رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، فَلَقِيَاهُ مُنْصَرِفاً من بدْرٍ، فَضَرَبَ لهُما بِسِهامِهِما وأَجْرِهِما، فَكانا كَمَن شَهِدَها.
فالنبيّ عليه الصلاة والسلام يقودُ أُمَّتَهُ قيادة فذة، فالمَعْلومات شيءٌ مُهِمٌّ، فقد بعثَ النبي صلى الله عليه وسلّم طلْحَة مع صحابِيٍّ آخر لِيَأْخُذا خبر العَدُوِّ، فالخبرُ في المعْرَكَة له قيمَةٌ كبيرة،
ولا تنْسَوا أيها الأخوة، أنَّ النبيّ عليه الصلاة والسلام أبْقى عَمَّهُ العباس في مكَّةَ يوْمَ كان المُشْركون يتولَّوْن أمْرهم، لِيَأتيهِ بالأَخْبار، فقد كتَمَ إسْلامه، وكتَمَ العَباسُ كذلك إسْلامه، ولم يُفاجأ النبي عليه الصلاة والسلام بِأَيِّ حدثٍ من قريْشٍ، لأنَّ المعْلومات كانت تأتيهِ تِباعاً من عمِّهِ العباس، لكن وقعتْ مُشْكِلةٌ في مَوْقِعَة بدْر حينما شارك العَباس المُشْركين في هذه المَوْقِعة، فلو لم يُشارِك لَكُشِفَ أمْرُهُ، ولو أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام، قال: لقد أسْلَمَ عمِّي لَكَشَفَهُ، وانْتَهتْ مُهِمَّتُهُ، ولكنَّهُ قال: لا تقْتُلوا عمِّي العَباس، ولو لم يقُل ذلك لَقَتَلَهُ أصْحاب النبي صلى الله عليه وسلَّم، إنْ تكلَّمَ العباسُ كَشَفَ أمْرهُ، وإنْ لم يُشارِك في المعْركة كُشِف، وإنْ قال النبي صلى الله عليه وسلَّم أسْلم كَشَفَهُ المشركون، وإنْ سكت صلى الله عليه وسلَّم قتلَهُ أصْحابُهُ، فلا بدّ من تنْبيه الصحابة ألاّ يقْتُلوا عمَّهُ العَباس، وكان من جراء ذلك أنَّ صحابِيًّا أساء الظنّ بِرَسول الله صلى الله عليه وسلّم، وقال: ينْهانا عن قَتْلِ عمِّهِ، وأحَدُنا يقْتُلُ أباهُ وأخْوانهُ! فلما كُشِفَ له الأمر بَقِيَ عشْرَ سِنين يتصَدَّقُ ويُعْتِقُ الرِّقاب، لعلَّ الله يغْفِرُ له سوءَ ظَنِّهِ بِرَسول الله صلى الله عليه وسلّم، فالمعْلومات ضروريَّةٌ في أيِّ قِيادة،
والنبي صلى الله عليه وسلَّم أرْسَلَ طلْحَةَ بن عُبيْدِ الله لِيأْتِيَهُ بالأخْبار، لأنَّ قرارَ المعْركة أساسه الخبرُ الصحيح، والحَرْبُ كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: الْحَرْبُ خَدْعَةٌ
شَهِدَ طلْحَةُ أُحُداً، وثبتَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم يومئِذٍ، ووقاهُ بِيَدِهِ فَشُلَّتْ إصْبعاهُ، وجُرِحَ يومئِذٍ أربعاً وعشرين جِراحَةً، ويُقال: كانت فيهِ خَمْسٌ وسبْعون بين طعْنَةٍ وضَرْبَةٍ ورَمْيَةٍ، وسَمَّاهُ رسول الله صلى الله عليه وسلّم يومَ أُحُدٍ طلْحَةَ الخَيْر وسمَّاه يومَ غزْوة ذات العُشَيْرة طلْحَةَ الفياض
وسمَّاه يوم حُنَيْنٍ طلْحَةَ الجود
فهذه مواقف مُشَرِّفَةٌ وقفها هذا الصحابِيُّ الجليل.
مناقب هذا الصحابي الجليل:
فعَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، قَالَ: كَانَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِرْعَانِ يَوْمَ أُحُدٍ فَنَهَضَ إِلَى الصَّخْرَةِ فَلَمْ يَسْتَطِعْ، فَأَقْعَدَ طَلْحَةَ تَحْتَهُ، فَصَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ حَتَّى اسْتَوَى عَلَى الصَّخْرَةِ، فَقَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: أَوْجَبَ طَلْحَةُ
أيْ وجَبَتْ له الجنَّة، لأنَّهُ ماذا فعَلَ؟ أظْهر من المواقفِ والتَّضْحِيات الشيءَ الذي لا يوصَفُ، فَطَلْحَةُ برَك على الأرض، وصعد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلَّم لِيَرى بعض ملامِحِ المعْركة، فجَعَلَ من نفْسِهِ كُرْسِياً للنبي عليه الصلاة والسلام.
وقالتْ عائِشَةُ رضي الله عنها: كان أبو بكرٍ رضي الله عنه إذا ذُكِر يومُ أُحُدٍ، قال: ذلك كُلُّهُ يوم طلْحة
وقال أبو بكرٍ رضي الله عنه: كُنْتُ أوَّلَ من جاءَ يومَ أُحُدٍ، فقال لي النبي عليه الصلاة والسلام ولِأبي عُبَيْدة بن الجراح: عَلَيْكما به يُريدُ طلْحة وقد نزفَ، فأصْلَحْنا من شأنِ النبي صلى الله عليه وسلَّم، ثمَّ أتَيْنا طلْحة في بعض تِلك الحِفار فإذا به بِضْعٌ وَسَبْعون أو أقَلَّ أو أكثر، بين طَعْنَةٍ وضَرْبَةٍ ورَمْيَة! وإذا قد قُطِعَتْ إصْبعُهُ، فأصْلَحْنا من شأنِهِ
فقد بذَل سيّدنا طلْحة في غزوة أُحد الشيء الكثير.
النبي عليه الصلاة والسلام دَمِيَتْ يدُهُ في الخَنْدَق،
فعَنْ جُنْدَبٍ الْبَجَلِيِّ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبـِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَارٍ فَدَمِيَتْ إصْبُعُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
هَلْ أَنْتِ إِلَّا إِصْبَعٌ دَمِيتِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ
قَالَ: وَأَبْطَأَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: قَدْ وُدِّعَ مُحَمَّدٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى
طلحة من أولئك الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه:
عن موسى بن طلْحة عن أبيه طلْحةَ بن عُبَيْد الله، قال:
لما رجَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم من أُحد صَعِدَ المِنْبر، فَحَمِدَ الله وأثْنى عليه، ثمّ قرأ هذه الآية قال تعالى: ( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً)
فقام إليه رجُلٌ، وقال: يا رسول الله! من هؤلاء؟ قال سيّدنا طلْحة: فأَقْبَلْتُ وعليَّ ثوْبان أخْضران، فقال عليه الصلاة والسلام: أيُّها السائل، هذا منهم وأشار إلى سيّدنا طلْحة
ألا تَكْفي هذه الشهادة من رسول الله، أحْياناً يقول لك شخْصٌ: معي شهادة موقَّعة من البروفِيسور الفُلاني، وهو أكبر جراح في العالم، يُمْكن أنْ يفْتَخر بِهذا افْتِخاراً لا حُدود له، فَكُلَّما ارْتفع مقامُ الذي يُثْني عليك يكون لِهذا الثناء قيمة، فكيف إذا أثْنى عليك النبـي عليه الصلاة والسلام؟.
لو أرَدْنا أنْ نسْتفيد من هذا المَوْقف، حينما يُشْعِرك الله عز وجل بِطَريقَةٍ أو بِأُخرى، بِرُؤْيا أو ثناءٍ صادِقٍ من أهل الحق أو بِسَعادةٍ يُلقيها في قلبك أنه راضٍ عنك، فهذه أسْعد لحظات المؤمن.
وبِالمُناسَبَة كلِمَةُ (رجُلٍ) في القرآن والسُّنَّة لا يعْني في الأعَمِّ الأغلب أنَّهُ ذكَرٌ، بل يعْني أنَّهُ بطلٌ، وفي أقْوال الصحابة الكِرام ما يدْعَمُ هذا المعْنى، فسيَّدنا سعدُ بن أبي وقاصٍ، قال:
ثلاثة أنا فيهِنَّ رجُلٌ (أيْ بطل) وما سِوى ذلك فأنا واحِدٌ من الناس، ما صَلَّيْتُ صلاةً فَشُغِلَتْ نفْسي بغيرها حتى أقْضِيَها، ولا سِرْتُ في جنازَةٍ فحَدَّثْتُ نفْسي بِغَيْر ما تقول حتى أنْصَرِفَ منها، ولا سَمِعْتُ حديثاً من رسول الله صلى الله عليه وسلَّم إلا عَلِمْتُ أنَّهُ حقٌّ من الله تعالى
فالرُّجولة أنْ تُصَدِّقَ أقْوال النبي عليه الصلاة والسلام، والرُّجولةُ أنْ تُصَلي صلاةً كما أرادها الله عز وجل، والرُّجولة أنْ تتَّعِظَ بِالمَوت، لأنَّ الموت كما قال عُمَر: كفى بالموت واعِظاً يا عُمر
ما قيمة المال عند هذا الصحابي الجليل؟
قال أحدُ الصحابة: دخَلْتُ على طلْحَةَ فرأيْتُهُ مغْموماً، فَقُلْتُ: ما شأنُك؟ قال: المال الذي عندي قد كثُر وكرَبَني -
ما هؤلاء الأشْخاص؟ إذا كثُر مالُهم أصابهم الكَرْب، لأنَّ المال عِبءٌ.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ جَسَدِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ؟ وَفِيمَا وَضَعَهُ؟ وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ؟
- فهذا الصحابي، قال: المال الذي عندي قد كثُر وكرَبَني، قُلْتُ: وما عليك، اِقْسِمْهُ، فَقَسَمَهُ حتى ما بَقِيَ منه دِرْهم
إنْفاق المال يُعْطي الإنسانَ سعادَةً كُبْرى، واللهُ يُعَوِّض،
قال تعالى: ( قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)
اشترى طلحة أرضاً له من عُثمان بِسَبْعمئة ألفٍ، فَحَمَلها إليه، ولما جاء بها، قال: إنَّ رجُلاً تبيتُ هذه عنده لا يدْري ما يطْرُقُه من أمر الله لَغَريرٌ بالله، لأنَّ الله عز وجل يقول: ( يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ)
من عَدَّ غداً من أجَلِهِ فقد أساء صُحْبة الموت، هناك رجُلان اخْتلفا على بيْعِ بيْتٍ، وكَلَّفاني أنْ أكون بيْنهما حَكَماً، جَلَسْتُ معهما وقْتاً طويلاً، أحدُ الطَّرَفَيْن لم ينْصَاعْ لِحُكْمِ المحكمين، واسْتَمَرَّ الخِلاف أربع أو خمسَ سنواتٍ أو أكثر وأنا أُتابِعُ هذا الخِلاف، كُلِّفَتْ لجْنَةٌ ولجْنةٌ ومُحَكَّمون، والأمر يزْدادُ تخاصُماً، فأُخْبِرْتُ الأمس أنَّ أحدَ الخصْمَينِ توفاهُ الله عز وجل، هذه هي الدنيا، كلّ هذه المتاعب، ثمّ يأتي مَلَك الموت، ويُنْهي هذه المتاعب، فالإنسانُ عُمُرُهُ ثمينٌ، فإذا أمْضاهُ في الخُصومات، واسْتَهْلك أعْصابه ووقْته وحواسَّهُ وقُدْراته، فقد قامَرَ بسعادته الأبدِيَّة، وغامر في شيء زائل، فأكثر الدعاوي تبقى في القضاء سنوات عديدة، عشرًا أو نحو ذلك، وفي الأعمِّ الأغْلب يموتُ أحدُ المُتَخاصِمَين قبل أنْ يُفْصَل بالدعوى، فمن عدَّ غداً من أجله فقد أساء صُحْبة الموت.
هذا الصحابي الجليل قُتِل يوم الجمل، عن عُمُرٍ لا يتجاوز الاثنين والسِّتين عاماً فيما تذْكُر الرِّوايات.