إن مفهومات العقيدة الصحيحة: أنه ما ينبغي أن تعتقد، وما ينبغي أن تقول، وليس علم العقيدة هو ما ينبغي أن تعتقد فحسب، فمن لوازم سلامة العقيدة: أن تكون تائباً إلى الله عز وجل. الحقيقة: أن التوبة حبل النجاة، التوبة صمام الأمان، التوبة سبيل الخلاص، التوبة هي علاج الضعف البشري، الإنسان ركب من شهوة وعقل، إن غلبت عليه شهوته, فالعلاج هو التوبة، تصوروا أن ديناً ليس فيه توبة, ما الذي يحصل؟ بأقل ذنب يفجر الإنسان، ما مادام باب التوبة مغلقاً, فلابد من متابعة المعصية . حينما يقول الله عز وجل: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً﴾ معنى ذلك: أن التوبة صمام الأمان، والتوبة حبل النجاة، أو قارب النجاة. الله عز وجل يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً﴾ أجمل ما في هذه الآية: أن التوبة النصوح تنصح بها نفسك، وأعظم نصيحة تقدمها إلى نفسك: أن تتوب من الذنوب قبل فوات الأوان. قالَ اللهُ عزّ وجل فيها: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ كأنَّ اللهَ سبحانهُ وتعالى جعلَ التوبةَ أساساً للفلاح، والفلاح مُطلق النجاح، أمرٌ صريحٌ واضحٌ للمؤمنين بأن يتوبوا جميعاً دونَ استثناء. وإذا تُبتم توبةً نصوحاً تشعرون براحةً لا توصف، كأنكَ اصطلحتَ معَ الله خالق الكون، كأنكَ في حرزِ حريز، في رحمةٍ غامرة، في توفيقٍ بالغ، في سعادةٍ طافحة، في بِشرٍ لا يُقدّرُ بثمن.
قال تعالى: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً * مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً﴾ كلما وقرت ربك أكثر, خفت أن تعصيه أكثر، وكأن هناك علاقة بين الخشية والتوبة، والله أعلم هناك مداخل للشيطان لا تعد ولا تحصى، الإنسان إذا استمر في الذنب, يستمرىء متابعة الذنب، وقعت، غداً تتوب، ومن يدري أنك تصل إلى الغد؟ معظم الناس يقول لك: أنا الآن شاب، غداً حينما أتقدم في السن, أتوب إلى الله، وأحج بيت الله الحرام، وأتوب، كم من إنسان لم يستطع أن يصل إلى ما يسمو إليه؟ الموت يأتي بغتةً، والقلب صندوق العمل، من أخطر المشاعر أو من أخطر الأوهام: أن تتوهم أن الوقت طويل، الوقت يمضي سريعاً. حينما تعلم أن الله سبحانه وتعالى يحب التائبين، حينما تعلم أن الله سبحانه وتعالى يريد أن يتوب علينا، حينما تعلم أن الله سبحانه وتعالى أشد فرحًا بتوبة عبده من الضال الواجد، والعقيم الوالد، والظمآن الوارد، لا شك أن التوبة تغدو إحدى أهم وسائل النجاة من عذاب الله عز وجل. إن الراحة التي يشعر بها التائبون من الصعب أن توصف، والله كأن جبالاً أزيحت عن صدره، كأن كابوساً تحرر منه، كأن ضيقاً خرج منه إلى فضاء الله عز وجل، فالتائب يكون الله معه.
مرة قال طبيب لمريض كلمة رائعة, قال له: معك مشكلة في القلب، إن تلافيتها فهي صغيرة، وإن أهملتها فهي كبيرة، كلام جميل، والذنب أحياناً: إن أردت أن تتوب منه, فالقضية سهلة جداً، وإن أهملته, فهذا الذنب قد ينقلب إلى عادة، ومن أصعب الأشياء: أن يتخلى الإنسان عن عاداته، أنت تبدأ بخاطرة، بفكرة، بهمٍّ، بإرادة، بفعل، بعادة، هذا الذي قاله الله عز وجل: ﴿فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ من هنا: أدق معنى نحتاجه في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾ لا تجعل مسافة طويلة بين ارتكاب الذنب -لا سمح الله- وبين التوبة منه، هذه المسافة الطويلة تجعلك تألف الذنب، وهذه المسافة الطويلة تجعلك تظن أنه ليس بذنب، لأنك ألفته. قال تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً﴾ فما من ذنب لا يغفر،إذا كان هناك ذنوب تعلق بها حقوق العباد, فهذه الذنوب لا تغفر إلا أن تؤدى الحقوق، أكبر وهمٍ يتوهمه أنهم إذا حجوا بيت الله الحرام، أو جاء رمضان وصاموه, وقاموا ليله إيماناً واحتساباً, تغفر لهم كل الذنوب، نقول: تغفر لهم كل الذنوب التي كانت بين العبد وربه، أما التي بين العباد: فهذه لا تغفر إلا بالأداء أو المسامحة .
عناصر التوبة: التوبة في الحقيقة: علم وحال وعمل، فيها جانب معرفي، وفيها جانب سلوكي، وفيها جانب نفسي.
- المرحلة الأولى: التوبة علم: فأنت مثلاً: لا يمكن أن تعالج نفسك من ضغط مرتفع, إلا إذا علمت أن معك ضغطًا مرتفعًا، لا يمكن أن تتوب من ذنب, لا تعرف أنه ذنب، ربما تتوهمه عملاً صالحاً، إذاً: تبدأ التوبة من طلب العلم، ما لم تطلب العلم فلن تتوب، لأن الغارق في المعاصي إن سألته: ما هذه المعاصي؟ يقول: أيّ معاص؟ فالتوبة لا تبدأ إلا من معرفة الله، ومعرفة منهج الله، فقبل أن تطلب العلم لا تطمع أن تتوب، لأن الأمور عندك مختلطة، القسم الحرام تظنه حلالاً، والفكرة التي تتناقض مع وحي الله, تظنها من الدين.
- المرحلة الثانية: التوبة حال: إذا: التوبة علم يتبعه حال، الندم. قال عليه الصلاة والسلام: ((التوبة الندم)) في هذا الحديث ملمحًا رائعًا، ذكر النبي عليه الصلاة والسلام أخطر مراحل التوبة، قال شارحو الحديث: الندم يستوجب علماً، ويعقبه عمل، التوبة ندم؛ يسبقه علم، ويتبعه عمل. تعرف أنك متلبس بمعصية، تعرف أن هذه المعصية حجاب بينك وبين الله، تعرف أن هذه المعصية قد تقودك إلى الهلاك، تندم أشد الندم، تتألم، تضطرب، تخاف، تعقد العزم على أن تقلع عن هذا الذنب، وألاّ تعود إليه أبداً، وأن تصلح ما مضى. الآن كي أوضح هذه الحقيقة: أنت أمام إنسان في بستان, رأى أفعى، ما الذي يحصل؟ أول شيء بحلق بها، فإذا هي أفعى، فاضطرب الحال، فولى هارباً، أو قتلها، وهذا قانون، علاقة الإنسان بالمحيط الخارجي؛ إدراك، انفعال، سلوك، ولا يمكن أن يكون الإدراك من دون انفعال، ولا يمكن أن يكون الانفعال من دون سلوك.
- المرحلة الثالثة التي هي عمل: فيها عزيمة، وفيها إقلاع، وفيها إصلاح، الإقلاع فورًا، والعزيمة مستقبلاً، والإصلاح إذا كان موضوع التوبة متعلقاً بحق من حقوق البشر.
الآن سأجيب عن أخطر سؤال يطرح، أنا هذا السؤال تواتر كثيراً علي، أنه يُقترف ذنب، ثم يتوب الإنسان منه، ثم يعود، ثم يتوب، ثم يعود، ثم يتوب، يقول لي: إلى متى؟ لأنك ما دمت تعيش في أجواء تدعوك إلى المعصية, فلا بد من أن تعصي، لأنك تغافلت عن قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ وتغافلت عن قوله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ . قل لي من تصاحب, أقل لك: من أنت؟ لذلك: موضوع الحمية الاجتماعية, الإسلام ركز عليه كثيراً، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾. أنت حينما -لا سمح الله ولا قدر- تقع في الذنب مرة ثانية, تشعر أن التوبة أصعب، لكن ما الذي يسهلها؟ أن تعمل عملاً صالحاً يرمم هذا الذنب، لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَا مُعَاذُ، أَتْبِعْ السَّيِّئَةَ بِالْحَسَنَةِ تَمْحُهَا، وَخَالِقْ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ)) ، فلذلك: إذا وقع الإنسان في الذنب مرة ثانية, فعليه أن يضيف إلى التوبة الصدقة، فإن كان لا يملك مالاً, فعليه أن يضيف إلى التوبة الصيام، لا بد من شيء يرمم هذه السقطة الثانية.
العزم على ترك الذنب له علامات، من هذه العلامات:
- الشيء الأول: أن يكون المرء بعد التوبة خيراً مما كان عليه قبلها، أي أن يجد هناك فرقًا واضحًا جداً بين حاله بعد التوبة وحاله قبل التوبة.
- الشيء الثاني: أن يبقى الخوف مصاحباً للإنسان، الخوف علامة تعظيم الله عز وجل. وقد قال عليه الصلاة والسلام: ((أشدكم لله خشية أنا)) وقال عليه الصلاة والسلام: ((رأس الحكمة مخافة الله)) فالخوف يصاحب التائب، لعل الله قبله، أو لعل في التوبة خللاً, يدعو إلى عدم قبوله، فهذا القلق قلق مقدس .
- الشيء الثالث: أن يظهر أثر هذا العزم بالتواضع بين المؤمنين والانكسار والخشوع.
نؤكد أن العقيدة الصحيحة ليست فيما ينبغي أن تعتقد، بل يضاف إلى ذلك فيما ينبغي أن تكون، فالذي لا يتوب, ففي عقيدته خلل، والذي لا يراقب نفسه, في عقيدته خلل.