سيّدنا عبد الله بن مسْعود كانَ ماهِراً في القرآن، هذا الصحابيُّ الجليل يُكْنى أبا عبد الرحمن، وأُمُّهُ أُمُّ عبْد، أسْلم قبل دُخول النبي عليه الصلاة والسلام دارَ الأرقم، أيْ أسْلم في وقْتٍ مُبَكِّر، وقال: كُنْتُ سادس المُسْلمين، أيْ سادِسَ من أسْلم من المُسلمين، وهاجر إلى الحبشة الهِجْرَتين، وشهِد بدْراً والمشاهد كُلَّها، وكان صاحب سرِّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وصاحِبَ وِسادته وسِواكِهِ وطُهوره في سفره، وكان يُشْبه النبي عليه الصلاة والسلام في هَدْيِه وسَمْتِه، وكان خفيف اللحم، قصيراً، شديدَ الأَدَمَة، وكان من أجْود الناس ثَوْباً، ومن أطْيَبِ الناس ريحاً، وُلِيَّ قضاء الكوفة وبَيْتَ المال لعُمَر، وصدْراً من خلافة عُثمان، ثمّ صار إلى المدينة فَماتَ بها سنة اثْنَتَيْن وثلاثين، ودُفِنَ بِالبقيع وهو ابنُ بِضْعٍ وسِتين .
عن عبد الله بن مسْعود صاحب الترجمة رضي الله عنه، قال: ((كُنْتُ غُلاماً يافِعاً أرْعى غَنَماً لِعُقْبَةَ بن أبي مُعيط، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكرٍ، وقد نفرَا من المُشْركين، فقال : يا غُلام هل عندك من لَبَنٍ فَتَسْقِيَنا؟ قُلتُ: إني مُؤْتَمَنٌ، ولَسْتُ أسْقيكُما ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هلعندك من جَذْعَةٍ لم ينْزُ عليها الفحل؟ (أيْ غَنَمة ليس فيها لبن) قلتُ: نعم فأتَيْتُهما بها، فاعْتَنَقَها النبي صلى الله عليه وسلم، ومسح الضرع، ودعا فَحَفَل الضَّرْعُ، - وهذا من مُعْجِزات النبي صلى الله عليه وسلم- ثمّ أتاهُ أبو بكرٍ بِإناءٍ فاحْتَلَبَ بها، فَشَرِبَ أبو بكْرٍ، ثمّ شَرِبْتُ)). هذا الصحابيّ الجليل وهو غُلامٌ يافِع أدْرك بِفِطْرَتِه أنّ هناك شيءٌ يجوز، وهناك شيءٌ لا يجوز، وهذا يُؤكِّدُ قوْل النبي صلى الله عليه وسلم : ((خِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقُهُوا)).
يقول أبو موسى الأشْعري: ((رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أرى إلا ابن مسْعودٍ من أهْله)).
أصْحاب النبي عليهم رضْوان الله أحَبُّوا النبي حُباً يفوقُ كُلَّ التَّصَوُّر، افْتَدَوْهُ بِأموالهم وأوْلادهم وأرْواحِهم، عن القاسم بن عبد الرحمن, قال : ((كانَ عبدُ الله يُلْبِسُ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم نَعْلَيْه, ثمّ يمْشي أمامه بِالعصا, حتى إذا أتى مجْلِسَهُ نزعَ نعْلَيْه, فأدْخَلَهما في ذِراعَيْه, وأعْطاه العصا, فإذا أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يقوم ألْبَسَهُ نعْلَيْه, ثمّ مشى بِالعَصا أمامه, حتى يدْخُل الحُجْرة قبل النبي)). إنَّ حُبَّ النبي صلى الله عليه وسلم هو عَيْنُ حُبِّ الله، وإنَّ حُبَّ الله عز وجل عَيْنُ حُبِّ النبي، وإنَّ طاعة النبي صلى الله عليه وسلم هي عَيْنُ طاعة الله، وإنَّ طاعة الله عز وجل هي عَيْنُ طاعة النبي، والدليل قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾. والإسْلام بلا حُبٍّ جسَدٌ بلا روحٍ، وهل للحُبِّ دليل؟ هناك مئة دليل، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾.
سيّدنا ابن مسْعود كان أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فكان يوقِظُهُ صلى الله عليه وسلّم إذا نام، ويسْتُرُهُ إذا اغْتَسَل، ويمْشي معه في الأرض وحْشاً, أيْ مُنْفَرِداً, وعن عبد الله بن زيدٍ, قال: ((أَتَيْنا حُذَيْفة, فقُلْنا له: حدِّثْنا بِأقْرب الناس لِرَسول الله هَدْياً وسَمْتاً؛ لِنَأخذ عنه ونسْتَمِعَ عنه، فقال عبد الله بن زيدٍ: كان أقرب الناس لِرسول الله صلى الله عليه وسلم هدْياً وسمْتاً عبد الله بن مسْعودٍ)).
ثناءَ النبي عليه الصلاة والسلام على عبْد الله بن مسْعود، لقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يسْتمع إلى قِراءَتِهِ، ويطْرب لها، مع أنَّ القرآن أُنْزِل عليه، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَطْبًا كَمَا أُنْزِلَ فَلْيَقْرَأْهُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْد ٍ.
فسيِّدُنا عمر كان جالِساً، فَجاء ابن مسْعود فقال رضي الله عنه : إنَّهُ رجُلٌ ملئ عِلْماً .
سئِلَ عليٌّ كرَّم الله وجْهه عن أصْحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم, فقال: ((عن أيِّهم تسْألون؟ فقالوا: أخْبِرنا عن سيّدنا عبد الله بن مسْعود, فقال سيّدنا عليّ: علم القرآن وعلم السنَّة ثم انتهى، وكفى به عِلْماً)).
فسيّدنا أبو موسى الأشْعري, قال : ((لا تسألوني عن شيءٍ مادام هذا الحَبر فيكم)).
وقال حُذَيْفَة عن ابن مسعود: ((إنَّ أشْبه الناسِ هَدْياً برسول الله صلى الله عليه وسلّم من حين يخْرجُ من بيْتِهِ إلى أنْ يرْجِع، ولا أدري ما يصْنع في أهْله لَهُوَ عبد الله بن مسْعودٍ؛ ووالله لقد عَلِمَ المَحْظوظون من أصْحاب مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلّم أنّ من أقْربهم إلى الله تعالى وسيلَةً يومَ القِيامة هو عبد الله بن مسْعودٍ)).
قال تميمُ بن حَذْلَم: ((جالَسْتُ أصْحاب النبي صلى الله عليه وسلَّم, وما رأيْتُ أحداً أزْهَدَ في الدنيا، ولا أرْغَبَ في الآخرة، ولا أحَبَّ إليَّ أنْ أكون فيه مِن والِهٍ منك يا عبد الله بن مسْعود ، جالَسْتُ أصْحاب رسول الله صلى الله عليه وسلَّم فَوَجَدْتُهُم كالإيخاذ, والإيخاذ يرْوي الرَّجُل والرَّجُلَيْن والإيخاذ يَرْوي المئة، والإيخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصْدرهم ؛ فَوَجَدْتُ عبد الله من ذلك الإيخاذ)).
يقول سيّدنا عبد الله بن مسْعودٍ عن نفْسه: ((والله الذي لا إله إلا هو، ما نزلَتْ آيَةٌ في كِتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلَتْ، وفيمَا نزَلَتْ، ولو أعلم أنَّ أحداً أعلم بِكِتاب الله منِّي تنالُهُ المَطِيُّ لأتَيْتُهُ)).