أيها الأخوة، كان عليه الصلاة والسلام ضعيفاً، ويعاني ما يعاني، ولكن عمه كان يحميه، بينما آحاد المسلمين كانوا معرضين للأذى والتنكيل، والتضييق، والضرب، والإيلام، والنبي عليه الصلاة والسلام كما وصفه الله: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ فرحمة النبي صلى الله عليه وسلم دعت أصحابه المضطهدين الذين ينكل بهم، الذين يُضربون، الذين تصادر أموالهم، إلى الهجرة إلى الحبشة، ظناً أن فيها ملكاً عادلاً.
كانت الهجرة الأولى إلى الحبشة في السنة الخامسة من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، والذين هاجروا هم أحد عشر رجلاً، وأربع نسوة، خرجوا متسللين سراً حتى انتهوا إلى الشعيبية، منهم الراكب، ومنهم الماشي، إنسان يسافر من مكة إلى الحبشة مشياً، الحياة شاقة جداً، والحر لا يحتمل، ووفق الله تعالى حينما وصلوا إلى الساحل سفينتين للتجار حملوا هؤلاء الصحابة إلى أرض الحبشة جميعاً بنصف دينار. ((عن أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها، وكانت ضمن من هاجر إلى الحبشة، في الهجرة الأولى، حيث قالت: لما ضاقت علينا مكة، وأوذي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفتنوا، ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يستطيع أن يدفع عنهم هذا الأذى، فقال لهم عليه الصلاة والسلام: إن بأرض الحبشة ملكاً لا يظلم أحد عنده، فالحقوا ببلاده، حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه، فخرجنا ـ كما تقول أم سلمة ـ فخرجنا إليها إرسالاً حتى اجتمعنا فيها فنزلنا بخير دار إلى خير جار آمنين على ديننا، ولم نخشَ من هذا الملك ظلماً)). سيدنا عثمان بن عفان كان أول من خرج مهاجراً، ومعه زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن أنس، قال: أبطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهما، يعني خبر وصولهما سالمين إلى الحبشة، فقدمت امرأة، فقالت له: لقد رأيتهما، وقد حمل عثمان امرأته على دابة، فقال عليه الصلاة والسلام: ((صحبهما الله، إن عثمان لأول من هاجر إلى الله بأهله بعد لوط)). الصحابة الكرام الذين هاجروا على رأسهم عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، وأبو حذيفة بن عتبة، ومصعب بن عمير، وأبو سلمة بن عبد الأسد، وعثمان بن مظعون، وغيرهم، وأما النسوة فهن رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وسهلة بنت سهل امرأة أبي حذيفة، وأم سلمة بنت أبي أمية امرأة أبي سلمة، وليلى امرأة عامر بن أبي ربيعة، وقد عرفت هذه الهجرة بالهجرة الأولى إلى الحبشة.
أيها الأخوة، وللصديق قصة، ذلك أن أبا بكر رضي الله عنه أراد أن يلتحق بالمهاجرين إلى الحبشة، في هذه الهجرة الأولى، بعد أن اشتد أذى المشركين على سيدنا الصديق سلك طريقاً آخر، تشير الأخبار أنه سار في طريق اليمن، حتى إذا ما بلغ برك الغماد، حتى لقيه ابن الدغنة، وهو سيد قبائل القارة حلفاء بني زهرة القرشية، قال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأنا أريد أن أسيح في الأرض، وأن أعبد ربي، فقال ابن الدغنة: إن مثلك لا يَخرج ولا يُخرج، فإنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، وكان الصديق رضي الله عنه أشبه الصحابة برسول الله، لذلك أجاره، معنى أجاره أي جعله في ذمته، أن إنساناً شريفاً وجيهاً إذا أجار إنساناً لا يستطيع أحد أن ينال منه، فوافقت قريش على ذلك، واشترطت عليه أن تكون عبادته في داره، وألا يستعلم بها، وأن يتعبد ربه في بيته، وبعد مدة أخذ أبو بكر يجتهد بالقراءة في فناء داره، وكان رجلاً بكاء لا يملك دمعه إذا قرأ القرآن، فيجتمع إليه أبناء ونساء المشركين يعجبون بقراءته، وينظرون إليه، ويستمعون القرآن مما أفزع قريشاً، ودفعها إلى مطالبة ابن الدغنة أن يكفه عن ذلك، فخيره ابن الدغنة بين الإسرار بعبادته، أو أن يرد عليه جواره، فرد أبو بكر عليه جواره، وقال: إني أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله، وهكذا بقي أبو بكر بمكة إلى جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجيراً بالله سبحانه وتعالى، يحتمل أذى المشركين بعد أن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أذن له بالهجرة.
أيها الأخوة، بعد هجرة الحبشة الأولى لفترة قليلة حدث أن صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الحرام، قرأ سورة النجم، وسجد في موضع السجود، فسجد معه كل من كان يسمعه من المسلمين ومن غير المسلمين، وشاع في مكة أن قريشاً قد أسلمت، وبلغ المسلمين الذين هم في أرض الحبشة أن مكة أسلمت فرجع ناس منهم، منهم عثمان بن مظعون، فلم يجدوا ما أخبروا به صحيحاً، فرجعوا، وسار معهم جماعة إلى الحبشة، وهي الهجرة الثانية، كانوا اثنين وثمانين رجلاً، سوى نسائهم وأبنائهم، وقيل: إن عدد النسوة في الهجرة الثانية كن ثماني عشرة امرأة.
أيها الأخوة، هذه الهجرة الأولى والثانية، قريش آلمها جداً أن يذهب المسلمون، ويتخلصوا من تعذيب قريش، ومن التنكيل بهم، ومن التضييق عليهم، ومن إيذائهم، وعاشوا في بلاد الحبشة في ظل ملك الحبشة النجاشي آمنين مطمئنين، فكادوا لهم. لذلك بادرت قريش بعد الهجرة الثانية، وبعد إخفاقها في منع المسلمين من الهجرة، ونتيجة تخوفها من انتشار الدعوة الإسلامية أرسلت وفداً مؤلفاً من عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة، هذا الوفد معه هدايا ثمينة إلى النجاشي، وإلى بطاركته بهدف أن يعيد لهم هؤلاء المهاجرين، لينكلوا بهم، ويعيدوهم إلى مكة، وحاول الوفد إقناع البطاركة عن طريق الهدايا، فتوسلوا إلى أن يجعلوا من البطاركة قوة ضاغطة على النجاشي كي يعيد إليهم هؤلاء، فأغروهم بهدايا ثمينة. صور هؤلاء المسلمون على أنهم غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دين النجاشي، وأنهم جاؤوا بدين مبتدع، لا نعرفه نحن ولا أنتم، وبيتوا الأمر مع البطاركة على أن يشيروا على النجاشي بأي يسلمهم إليهم، ولا يكلمهم، النجاشي رأى أن يتحرى الأمر بنفسه، فدعا المسلمين، وطلب منهم توضيح الحقيقة، فانبرى جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، وتكلم نيابة عن أخوانه المهاجرين كما أسلفنا، قائلاً: ((أيها الملك، كنا قوماً على الشرك نعبد الأوثان، ونأكل الميتة، ونسيء الجوار، ونستحل المحارم بعضنا من بعض، في سفك الدماء وغيرها، ولا نحل شيئاً ولا نحرمه، فبعث الله إلينا نبياً من أنفسنا، نعرف وفاءه، وصدقه، وأمانته، فدعانا إلى الله لنعبده ونوحده ونخلع ما كان يعبد آباؤنا من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء)) فالنجاشي طلب من جعفر أن يقرأ عليه شيئاً مما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فقرأ عليه أوائل سورة مريم، فبكى النجاشي، وبكى معه أساقفته، وقال: إن هذا الكلام ليخرج من المشكاة التي جاء بها موسى، انطلقوا راشدين آمنين في بلدي، وأقسم بألا أسلمكم لأحد. لكن هذه المحاولة أخفقت، لذلك في اليوم التالي جاء عمرو بن العاص، وقال للملك: إنهم يقولون في عيسى قولاً عظيماً، فاستدعاهم النجاشي، فسألهم، فقال جعفر: نقول فيه: هو عبد الله ورسوله، وكلمته، وروحه ألقاها إلى مريم العذراء البتول، واستقر رأي النجاشي على منح المسلمين الآمان، فأقاموا في خير دار مع خير جار، أما القسيسين والرهبان الذين سمعوا قول جعفر، واستمعوا إليه، وهو يرتل القرآن فقد ذرفوا الدموع مما عرفوا من الحق، فأنزل الله تعالى قوله الكريم: ﴿ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ .
أيها الأخوة، مكث أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الحبشة ما شاء لهم، ولقد توفي عبيد الله بن جحش زوج أم حبيبة بنت أبي سفيان، وليس لها أحد، فتكريماً لها خطبها النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه، وتزوجها، وهي بالحبشة، من الذي زوجه إياها؟ النجاشي، ومهرها 4000 دينار، ثم جهزها من عنده، ولم يرسل إليها النبي بشيء، وقد بعثها النجاشي مع شرحبيل بن حسنة.
أخوانا الكرام، مرة جاء وفد النجاشي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، من كرم أخلاق النبي أبى إلا أن يخدمهم بنفسه، وكان وفاؤه مضرب المثل.
أيها الأخوة، وردت العديد من الدلائل التي تفيد إسلام النجاشي، فقد ورد في الأخبار أنه أسلم، ولذلك خرج عليه قومه، ولكنه حرص قبل محاربتهم أن يؤمن للمسلمين سفناً ليغادروا عليها إذا ما تعرض للهزيمة، وأنه كتب كتاباً يشهد بإسلامه، وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى بنفسه النجاشي، في اليوم الذي مات فيه، في العام التاسع للهجرة، وأنه صلى بالمسلمين عليه صلاة الغائب.