أيها الأخوة الكرام، المقاطعة أسلوب من الأساليب التي تدخل بين معركة الحق والباطل، لماذا كانت المقاطعة؟ ذلك لأن قريشاً حينما أرسلت وفداً إلى النجاشي، يطلب من النجاشي أن يعيد هؤلاء المهاجرين إلى قريش لينكلوا بهم، منعهم النجاشي، وحماهم، وأمّنهم في بلده، فأخفقوا، وحينما أسلم سيدنا الحمزة خفت حدة الإيذاء للمسلمين، وحينما أسلم سيدنا عمر بن الخطاب استطاع المسلمون أن يصلُّوا في بيت الله الحرام، وهم آمنون مطمئنون، وأن الإسلام بدأ ينتشر في القبائل، هاجها الأمر، واشتد بلائها على المسلمين في مكة، وعزمت على قتل النبي صلى الله عليه وسلم، هذا قرارها، فأجمع بنو عبد المطلب أمرهم على أن يدخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شعبهم، وأن يحموه، فدخلوا الشعب جميعاً مسلمهم وكافرهم، ولم يشذ عن ذلك إلا أبو لهب بن عبد المطلب، فقد انحاز إلى كفار قريش وظاهرهم وأجمع مشركو قريش أمرهم، وائتمروا بينهم على ألا يجالسوا بني هاشم وبني عبد المطلب، وألا يخالطوهم، وألا يبيعوهم، وألا يدخلوا بيوتهم كي يضغطوا على محمد صلى الله عليه وسلم، فيعود عن هذه الدعوة، بل كان شرطهم قاسياً جداً، هذه المقاطعة لا تنتهي حتى يسلموا محمداً ليقتلوه، هذا الثمن، وكتبوا بهذه المقاطعة صحيفة علقوها في جوف الكعبة المشرفة، في السنة السابعة من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم تمت هذه المقاطعة.
لذلك قال النبي الكريم: (( لقد أوذيت في الله، وما يؤذى أحد، وأخفت في الله، وما يخاف أحد، ولقد أتت على ثلاث من بين يوم وليلة وما لي طعام إلا ما واراه إبط بلال )).
وقد يسأل أحدكم: ما ذنب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو المعصوم أن يذوق الخوف والأذى والجوع؟ الجواب: النبي قدوة لنا، قدوة لنا في السراء، وقدوة لنا في الضراء.
المقاطعة استمرت ثلاث سنين، صمد خلالها المسلمون، ومن شايعهم من بني هاشم، وبني عبد المطلب، واشتد عليهم البلاء والجهد والجوع، ولم يكن يأتيهم من الأقوات إلا خُفية، يعني تهريباً، وكان ممن يصلهم حكيم بن خزام، وهشام بن عمر العامري، وزهير ابن أبي أمية، والمطعم بن عدي، وزمعة بن الأسود، وأبو البحتري بن هشام، وكانت تربطهم ببني هاشم وبني عبد المطلب صِلات كثيرة، اشتد البلاء وبعد سنوات ثلاث من هذه المقاطعة تلاوم رجال من قريش، يعني لام بعضهم بعضاً على ما حدث، واجمعوا على نقل الصحيفة، وقد أعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لم يبقَ فيها سوى كلمات الشرك والظلم، وهكذا انتهت المقاطعة، وكان خروج المسلمين من الشعب السنة العاشرة من البعثة.
أيها الأخوة، وعلى الرغم من المقاطعة، وما أصاب المسلمين من جرائها من معاناة فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتوقف عن الدعوة، فقد كان يخرج في الموسم يلتقي من يقدم إلى مكة للحج، ويعرض عليهم الإسلام، كما كان يعرض ذلك على كل من يتصل به من مشركي قريش. فلإنسان المؤمن لا يغير ولا يبدل، هدفه ثابت، وقيمه ثابتة، وسلوكه ثابت، والله سبحانه وتعالى يقول:
﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾
أيها الأخوة، كل محنة وراءها منحة من الله، وكل شِدةٍ وراءها شَدةٌ إلى الله، ومن سياسة ربنا جل جلاله أنه إذا امتحن المؤمن، ونجح في الامتحان فله بعد الامتحان مكافئة كبيرة.
حينما كان النبي صلى الله عليه وسلم في الطائف، وحينما بالغ أهل الطائف في إيقاع الأذى به، بل ضربوه، وسخروا منه، وكذبوه، ورفع يديه إلى السماء، وقال: ((يا رب، إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا رب المستضعفين، إلى من تكلني؟ إلى صديق يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك غضب على فلا أبالي، ولك العتبى حتى ترضى، لكن عافيتك أوسع لي)) ما الذي حدث بعد الطائف؟ الذي حدث كان الإسراء والمعراج، وقد بلغ النبي سدرة المنتهى، وقد أعلمه الله عز وجل أنه سيد ولد آدم، وأنه سيد الأنبياء والمرسلين.