بحث

عام الحزن

عام الحزن

بسم الله الرحمن الرحيم

     أيها الأخوة الكرام، لا يخفى عن الأخوة الكرام أن العبرة من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن سيرته، ومن مواقفه أن نستنبط القواعد الصحيحة في التعامل، بل إن الأحداث التي وقعت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وقعت وهي مقصودة لذاتها، وقعت ليقف النبي صلى الله عليه وسلم منها موقفاً كاملاً يعبر به عن سلوك يرضي الله عز وجل. ذلك أن الحقيقة حينما يعبر عنها بالسلوك تكون أقوى في التأثير، وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم لها وجه آخر، وهو أن هناك مثالية حالمة، هناك من لا يلتفت إليها، يقول: ليست واقعية، فالنفس تبتعد عن المثالية الحالمة، وعن الواقعية المقيتة، ولكن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم تجمع بين المثالية والواقعية بحق يمكن أن نسميها واقعية مثالية، أو مثالية واقعية، والناس لا يتعلمون بآذانهم فحسب، بل يتعلمون بعيونهم، ولعل موقف النبي صلى الله عليه وسلم الموقف العملي أبلغ في الدلالة على فهم النبي في كتاب الله من كلامه، الموقف العملي حدي، بينما الكلام يحتمل التأويل. من هنا جاءت قيمة فقه السيرة النبوية، والنبي كما تعلمون صلى الله عليه وسلم مشرّع في أقواله، وفي أفعاله، وفي إقراره، وفي صفاته، وألصق شيء في حياتنا من هذا الدين العظيم سيرة النبي عليه الصلاة والسلام. ذلك أن الله سبحانه وتعالى قال: 

﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾

     أخوتنا الكرام، حقيقة دقيقة جداً، ليست بطولتك ألا تصاب بمصيبة، ولكن البطولة أنه إذا أصابتك مصيبة أن تقف الموقف الكامل منها، فالنبي عليه الصلاة والسلام علمنا كيف نقف من هذه المصائب الموقف الكامل. ننتقل في سيرته صلى الله عليه وسلم إلى حادثين مأساويين مؤلمين وقعا في السنة العاشرة، حتى سمى كتاب السيرة السنة العاشرة عام الحزن، لأن النبي صلى الله عليه وسلم فقد إنسانيين، الأول سنده من الداخل، والثاني سنده من الخارج، فَقَدَ خديجة زوجته الحبيبة، وفَقَدَ عمه أبا طالب الذي كان داعماً له في مكة. فكانت مصيبة النبي صلى الله عليه وسلم كبيرة في آخر السنة العاشرة من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، بعد أن غادر المسلمون، هذه بعد المقاطعة التي استمرت سنوات ثلاث، الحقيقة الناصعة أن الله وحده حي وباق على الدوام، وأن كل حال يزول، وأن كل مخلوق يموت، ولا يبقى إلا ذو العزة والجبروت. 

     أيها الأخوة الكرام، أنتم كمؤمنين حينما توطنون أنفسكم على أن هذه الدنيا دار ابتلاء، منزل ترح لا منزل فرح، إذا أيقنا أنها دار ابتلاء لا نفاجأ. فمصائب المؤمنين نوعان :   مصائب دفع أو مصائب رفع، أما الكفار والمشركون فمصائبهم نوعان:   مصائب ردع أو مصائب قصم   وأما  مصائب الأنبياء والمرسلين، هذه مصائب كشف، هؤلاء قمم البشر، ينطوون على كمال لا يظهر أبداً بالأحوال العادية. 

     إنسان يمشي على قدميه ليس في الشام، في الحجاز، درجة الحرارة 56، بلاد لا نبات فيها، جبال وصحاري، والحر لا يحتمل، في هذه البيئة القاسية الحارة مشى النبي على قدميه إلى الطائف، كم كيلو قطع؟ 80 كم، والجبال عالية، والطرق وعرة، وصل إليهم، ينتظر أن يؤمنوا به، ويدعموه، ويعززوا موقفه بعد موت عمه وزوجته، فما كان منهم إلا أن كفروا به، وسخروا منه، وأغروا صبيانهم كي يضربوه، وألجئوه إلى حائط، ودعا ربه الدعاء المشهور، فقال:  ((إن لم يكن بك غضب على فلا أبالي، ولك العتبى حتى ترضى، لكن عافيتك أوسع لي))  جاءه ملك الجبال، قال: يا محمد ـ الآن أعطي صلاحية الانتقام ـ لو شئت لأطبقت عليهم الجبلين. قال: لا، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون، لعل الله يخرج من أصلابهم من يوحده، ما تخلى عن قومه، ودعا لهم، واعتذر عنهم، ورجا لهم ذرية صالحة، هذا الموقف، هذه مصيبة أن تُكذب، وأن يُسخر منك، وتُضرب.  

     أيها الأخوة، ولكن الشيء الذي أتمنى ألا أذكره أن أبا طالب رغم كل جهده في صون النبي صلى الله عليه وسلم ، وما من إنسان في أول البعثة قدم خدمة لسيد الأنام كعمه أبي طالب، ومع ذلك لم يُسلِم، وكان أبو طالب يحوط النبي صلى الله عليه وسلم، ويغضب له، وكان ينصره، وكانت قريش تحترمه، وقد جاء زعمائها حين حضرته الوفاة، فحرضوه على التمسك باللات والعزى، وعدم الدخول في الإسلام، وعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام بإلحاح طالباً منه أن يتلفظ بالشهادتين ليشهد له بها يوم القيامة، وكان رد عمه عليه: لولا أن تعيرني بها قريش، يقولون: إنما حمله عليها الجزع، لأقررت بها عينك، رفض أن ينطق بالشهادة، وهذه حكمة بالغة أنه ما مِن عمل إن لم يُبْن على إيمان بالله فهذا العمل يكون هباءً منثورا. أيعقل أن يموت الإنسان من دون إيمان بالله، وهذا الكون كله ينطق بوجود الله، ووحدانيته، وكماله؟ أنزل الله عز وجل بعد هذه الحادثة: 

﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾

     الله عز وجل هو ربه، وهو يتولى أمره، ونحن نتألم ألماً شديداً، ونتمنى أن هذا الإنسان الذي أحاط الدعوة بكل طاقته، وأمدها بقوته، ودافع عن النبي صلى الله عليه وسلم لعل الله يقبل منه هذا العمل الطيب، وتقييم العباد من شأن الله وحده. 

     أيها الأخوة، فَقَدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بوفاة عمه سنداً كبيراً، إذ لم يعد بنو هاشم مستعدين لتقديم القدر نفسه من الحماية للنبي صلى الله عليه وسلم لما يصيبهم من أضرار مادية ونفسية، كما تبين من المقاطعة، أما خديجة بنت خويلد فإنها امرأة عملاقة، إنها امرأة تعلم النساء جميعاً، كيف تكون الزوجة؟ لا تنسوا أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما فتح مكة ركز لواء النصر أمام قبرها، ليعلم العالم كله أن هذه المرأة التي في القبر شريكته في النصر. 



المصدر: فقه السيرة النبوية - الدرس : 20 - عام الحزن .