بحث

دعوة النبي للأوس والخزرج

دعوة النبي للأوس والخزرج

بسم الله الرحمن الرحيم

     أيها الإخوة، من الثابت أن الإسراء والمعراج كانا بالروح وبالجسد، وبعد الإسراء والمعراج كانت هناك كفاية الله رسولَه صلى الله عليه وسلم أمر المستهزئين، فقد أقام النبي عليه الصلاة والسلام بعد الإسراء والمعراج على أمر الله تعالى صابراً محتسباً. صدقوا أيها الإخوة أن الإسراء والمعراج فرز، كيف؟ هناك من كفر بمحمد عليه الصلاة والسلام بعد الإسراء والمعراج، ما صدق به، وما قبِل منه هذا أن يذهب إلى القدس، وأن يعرج إلى السماء، وأن يبلغ سدرة المنتهى، وأن يعود، وفراشه لا يزال ساخناً، ففرز الله عز وجل المؤمنين في الإسراء والمعراج، وفرز المؤمنين في الهجرة،  لذلك :   ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴾  فنحن في دار ابتلاء، وطنوا أنفسكم لا بد من الابتلاء، وكان عظماء المستهزئين خمسة، خمسة نفر، وكانوا ذوي شرف في قومهم، فلما تمادوا في الشر، وأكثروا برسول الله صلى الله عليه وسلم الاستهزاء أنزل الله تعالى قوله:  ﴿ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ* إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آَخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ .

     حرص النبي عليه الصلاة والسلام على الاجتماع بالناس، النبي لم يكن في برج عاجي كان يمشي في الأسواق، بل من صفات الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين أنهم يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق، أي أنهم مفتقرون في وجودهم إلى تناولوا الطعام والشراب، وليسوا آلهة، بل هم يفتقرون ثانية لتأمين ثمن الطعام والشراب فيمشون في الأسواق، فالإنسان حينما يعرف أنه بشر، وأنه تجري عليه كل خصائص البشر، وحينما ينتصر على بشريته، ربما أعلى الله مقامه بين البشر، لا تصدق أن هناك عطاء إلهي إلا بعد ابتلاء.   ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ﴾. 

     أيها الإخوة الكرام، كان عليه الصلاة والسلام في موسم الحج، وفي فترات عقد أسواق العرب حيث كان يلتقي بذوي الشأن من رؤساء القبائل وغيرهم، وكانوا يطالبون الرؤساء بحمايته دون أن يُكرِه أحداً على قبول دعوته.   وقد نقل عن ربيعة بن عباد الدؤلي، وكان من شهود العيان الذين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواسم الأسواق، وهو يباشر الدعوة: قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم  (( يتبع الناس في منازلهم يدعوهم إلى الله، ووراءه رجل أحول تتقد وجنتاه، وهو يقول: أيها الناس، لا يغرنكم هذا عن دينكم ودين آبائكم، وأن تسلخوا اللات والعزى وحلفاءكم من بني مالك))   النبي ضعيف، يدعو إلى الله، وهناك من يقول له: تباً لك، ألهذا دعوتنا ؟ الوضع صعب جداً أن تعرض حقاً على من لا يريده، أن تعرض شيئاً ثميناً على من لا يعرف قيمته. فكان عليه الصلاة والسلام مما يقوله في المواسم:  (( هل من رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إِلَى قَوْمِهِ؟ فَإِنّ قُرَيْشاً قَدْ مَنَعُونِي أَن أُبَلّغَ كَلاَمَ رَبّي عز وجل )) تروي بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم في سوق ذي المجاز كان يخاطب الناس ويقول:   (( يا أيها الناس، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا ))    وكان الناس يزدحمون عليه، غير أنهم لم    يتجاوبوا مع دعوته، ومع ذلك كان عليه الصلاة والسلام يواصل الدعوة فلا يسكت، بل يكرر مقولته، وحينما يعرض النبي صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل كان يقول: يا بني فلان، إني رسول الله إليكم، يأمركم أن تعبدوه، ولا تشركوا به شيئاً، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه، وأن تؤمنوا بي، وتصدقوني، وتمنعوني، حتى أبين عن الله ما بعثني به.  

     والإنسان أحيانا يتكلم مع إنسان عشر دقائق، يقول لك: ما فيه خير، قطعه وارتاح، لكن النبي عليه الصلاة والسلام في أعلى درجات الحرص على هداية الخلق.   ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾  لذلك قالوا: أرحم الخلق بالخلق سيد الخلق، ومع ذلك قال تعالى: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ﴾    رحمة النبي أعلى رحمة بين بني البشر، ومع ذلك ليست بشيء أمام رحمة الله عز وجل. 

     ولا أحد يستجيب، لكن رحمة الله كانت من جهة الأوس والخزرج في المدينة، فمكث عليه الصلاة والسلام يتبع الناس في منازلهم، وأسواقهم بعكاظ ومجنة، وفي مواسم الحج في منى، حتى إن الرجل ليخرج من اليمن، أو من مضر فيأتيه قومه فيقولون: احذر غلام قريش لا يفتينك، ويمشي بين رجالهم، وهم يشيرون عليه بالأصابع، ماذا فعل؟ ماذا اقترف؟ ما الذي فعله حتى يحذر الناس منه؟ هذه معركة الحق والباطل،   لقد كان أهل يثرب من الأوس والخزرج أكثر الناس تجاوباً مع دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت الاتصالات الأولى بالأنصار قد تمت في مواسم الحج والعمرة، وقد عرض النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام على سويد بن الصامت، غير أنه لم يعلن إسلامه، كما أنه لم يبعد عنه، وقد استحسن ما سمع من القرآن، ثم انصرف عنه، فقدم المدينة على قومه فلم يلبث أن قتله الخزرج في حرب بعاث، وكان رجال من قومه يقولون: إنه مات مسلماً، ما أجاب النبي صلى الله عليه وسلم ،  ويذكر جابر بن عبد الله الأنصاري مجيء أعداد من الأوس والخزرج إلى الحج، وعلاقتهم بالرسول صلى الله عليه وسلم فيقول: فأوينا وصدقناه، فيخرج الرجل منا فيؤمن به، ويقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله، فيسلمون بإسلامه، حتى لم تبقَ دار من الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام، فجعل الله عز وجل نصرة هذا الدين في المدينة، فكان يأتي الرجل من المدينة إلى مكة يلتقي بالنبي صلى الله عليه وسلم، ويعلن إسلامه، والنبي يقرئه القرآن، ويعود إلى أهله، فيقنع أهله بالإسلام، فيسلموا، وهكذا. 

     وكانت الأوس قد سعوا بمحالفة قريش على الخزرج الذين كانوا أكثر منهم عدداً، فقدم أبو الخير أنس بن رافع في وفد من بني عبد الأشهل لهذا الغرض، فسمع بهم النبي عليه الصلاة والسلام، فجاء ودعاهم إلى الإسلام، وتلا عليهم القرآن، فقال أحدهم، وهو إياس بن معاذ: أيْ قوم هذا؟ والله خير ممن جئتم له، فانتهره أبو الحيسر فصمت، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم، ورجعوا المدينة، وجرت الحرب بين الأوس والخزرج يوم بعاث، ثم مات إياس بن معاذ، وكان قومه يسعونه يهلل الله، ويكبر، ويحمده، ويسبحه حتى مات، فما كانوا يشكون أنه مات مسلماً، فقد استشعر الإسلام في لقائه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك المجلس. 

     البداية المثمرة للأنصار حين الاتصال بهم كانت مع وفد الخزرج في موسم الحج عند عقبة منى، الذين لقيهم النبي صلى الله عليه وسلم، وجلس معه، وكلمهم، ودعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن، وإسلامهم وقيامهم بالدعوة إلى الله. 



المصدر: فقه السيرة النبوية - الدرس : 23 - دعوة النبي للأوس والخزرج