بحث

بيعة العقبة الأولى والدعوة إلى الله

بيعة العقبة الأولى والدعوة إلى الله

بسم الله الرحمن الرحيم

     البيعة مأخوذة من البيع، والبيع والشراء أوسع نشاط بشري على الإطلاق، بل إن الله جل جلاله جعل الإيمان به وطاعته، والعمل الصالح تجارة، والتجارة قوامها البيع  والشراء . قال تعالى:  ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾  ذلك لأن البيع والشراء أوسع نشاط بشري على الإطلاق، فأنت كإنسان لا بد من أن تشتري لتجلب مصالحك ومنافعك، وقد تمتهن البيع .    قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾    هناك مشترٍ، وهناك بائع، وهناك ثمن، المؤمنون باعوا أنفسهم وأموالهم في سبيل الله، والمشتري هو الله، والثمن هو الجنة، أحياناً يدخل في معنى البيع والشراء القرض، قال تعالى :﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَة ﴾  أيّ عمل صالح تفعله موجه إلى إنسان، أو إلى مخلوق كائنًا من كان فهو قرض حسن لله عز وجل، وسيعوضه عليك أضعافاً مضاعفة يوم القيامة، أحياناً يأتي البيان الإلهي متماشياً مع طبيعة الإنسان، فالإنسان يطمئن بالكتابة، ولا يطمئن بعقد شفهي، إذا كان العقد موثقاً مكتوباً، معه وصل، معه سند، العقد مسجل عند كاتب العدل، ترتاح نفسه، لذلك الله عز وجل يقول:  ﴿لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾ ربنا عز وجل كتب على نفسه الرحمة، كي نطمئن أن الوعد الإلهي وعد محقق، وكأنه عندكم أيها البشر مكتوب.  

     ورد في السيرة النبوية أن في السنة التالية للقاء النبي صلى الله عليه وسلم مع وفد الخزرج، جرت البيعة الأولى، ومن منا يتصور أن النبي صلى الله عليه وسلم كان وحده، أسلمت معه خديجة زوجته، وابن عمه علي بن أبي طالب، الذي كان طفلاً صغيراً، وصديقه الحميم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وعدد قليل يعدّ على أصابع اليد من أصحاب رسول الله، من منا يصدق أنه بعد 1400 عام وزيادة المسلمون يعدون مليار وثلاثمئة مليون.  ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾.  

     أيها الإخوة الكرام، مادام الحديث عن بيعة العقبة، وعن هذه الدعوة الفتية التي حمل لواءها النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أثنى الله عليه حينما قال:  ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً﴾ ولا تنسوا أن الله سبحانه وتعالى حينما قال:  ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ أي لم تجد على وجه الأرض إنساناً أفضل  ﴿ مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ وكل من اهتدى بدعوته، وكل من خشع قلبه لدعوته، وكل من تاب بسبب دعوته، وكل من اصطلح مع الله بسبب دعوته، كل أعماله، وأعمال ذريته وإلى يوم القيامة في صحيفته.   

     لذلك ما دمنا في الحديث عن بيعة العقبة، وما دمنا في الحديث عن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم التي طارت في الآفاق حتى وصلت إلى مشارف الصين شرقاً، وإلى مشارف باريس غرباً، ما دام الحديث عن هذه الدعوة فيجب أن أعلمكم، وهذه أمانة التبيين أن الدعوة إلى الله فرض عين على كل مسلم، الدليل أن الله سبحانه وتعالى حينما قال:  ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ التواصي بالحق ربع أركان النجاة، أي أن الإنسان لا ينجو إلا إذا آمن بالله ، وعمل صالحاً، وتواصى بالحق، وتواصى بالصبر، فلا ينجو الإنسان إلا إذا بحث عن الحق، ثم عمل به، ثم دعا إليه، ثم صبر على البحث عنه، ثم العمل به، والدعوة إليه. إذاً الدعوة إلى الله فرض عين على كل مسلم، ولكن دعوة فرض العين محدودة، أي في حدود ما تعلم، ومع من تعرف، حضرت درس علم، استوعبت منه شرح آية ينبغي أن تنقلها إلى الناس، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:  ((بلِّغوا عني ولو آية)).  

     أسوق لكم هذه الحقائق، لأن بيعة العقبة الأولى بيعة متواضعة جداً، وبيعة العقبة الثانية بيعة أوسع شمولاً، ومن خلال هاتين البيعتين انتقل المسلمون من بلد قمعوا فيه، واضطهدوا، وكذبوا، ونكل الكفار بهم إلى بلد آمن كان منطلقاً إلى بلد إسلامي نشر الحق في الآفاق، لذلك قالوا: كن لما لا ترجو أرجى منك لما ترجو.   

     في السنة الثانية من لقاء النبي مع وفد الخزرج جرت بيعة العقبة الأولى، فقد حضر 12 رجلاً، 10 منهم من الخزرج، واثنان من الأوس، مما يشير إلى أن نشاط الرجال الذين أسلموا من الرجال في السنة السابقة قد تركز ضمن قبيلتهم، ما معنى هذا الكلام؟ حينما يقول الله عز وجل: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ لماذا أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبدأ بعشيرته الأقربين؟ هل تعلمون لماذا؟ لأن الحواجز بين الإنسان وغيره ليست موجودة بين القريب والقريب. إذا نشاط الرجال الذين أسلموا من الخزرج من السنة السابقة قد تركز ضمن قبيلتهم بشكل رئيسي، وإن كانوا قد تمكنوا في اجتذاب رجال من الأوس، هذه البيعة كانت بداية ائتلاف القبيلتين المتنازعتين المخاصمتين قبيلة الأوس والخزرج، تحت راية الإسلام، الإسلام يجمع، وكان الصحابي الجليل عبادة بن الصامت قد شارك في بيعة العقبة الأولى، قال عبادة بن الصامت:  ((كنت فيمن حضر العقبة الأولى، فكنا اثني عشر رجلا، فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء، وذلك قبل أن يفترض الحرب على ألاّ نشرك بالله شيئا ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غششتم من ذلك شيئا فأمركم إلى الله، إن شاء عذبكم، وإن شاء غفر لكم ))  البيعة إذاً على:  ((ألا نشرك بالله شيئاً، ولا نسرق ولا نزني)) إن تسعة أعشار أحكام الفقه متعلقة بالمال والنساء، ولا شيء يردي الإنسان كالمال والنساء، وكل فضائح أهل الأرض إما فضيحة جنسية أو فضيحة مالية ،((ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا)) لأن الأبوة رسالة ،((ولا نأتي ببهتان)) بكذب وافتراء،  ((نفتريه بين أيدينا وأرجلنا)) إما عمل ندعيه ولم نفعله، أو شهوة نفعلها ولا نعترف بها،  ((ولا نعصيه في معروف)) والمعصية هنا مقيدة بالمعروف.  

     وبعد أن تمت البيعة، وأراد المبايعون العودة إلى يثرب بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم الصحابي الجليل مصعب بن عمير ليقرئهم القرآن، وليعلمهم الإسلام، وليفقههم في الدين. وقبل حلول موسم الحج للسنة 13 من البعثة عاد مصعب بن عمير إلى مكة ليطلع النبي صلى الله عليه وسلم على ما أصابه من نجاح وتوفيق من الله سبحانه وتعالى في مهمته.  

     الدعوة تحتاج إلى نفس طويل، لأن بناء النفوس ليس سهلاً، والحقائق مع أدلتها ليست سهلة، وإقناع الإنسان أن يستقيموا ليس أمرا سهلاً.  

     كتعليق اسمحوا لي به: أنت أيها الأخ الكريم هل يعقل أن تتلقى طوال عمرك؟ متى تنطق بالحق؟ ومتى تعلم بعد أن تعلمت، ومتى تشرح بعد أن شُرح لك؟ ألا تحب أن تلقى الله بعمل صالح، فلماذا لا توطن نفسك على أن تنطق بالحق؟ لماذا لا تحاول أن تنقل الهدى إلى إنسان، ألا يغريك عطاء الدعاة إلى الله؟ ألا تغريك هذه الآية؟  ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً))  الإلقاء بعد التلقي.  

     أيها الإخوة الكرام، أكثر مرض يشكَى إلي، يقول: معي كآبة، كلمة شائعة وذائعة، الحقيقة أن الإنسان إذا بقي في ذاته تأتيه الكآبة، أما إذا خرج عن ذاته ليقدم الخير للآخرين تذهب عنه الكآبة. أنت حينما تخرج من ذاتك لتقدم الخير للآخرين، كلمة طيبة، أو معروفاً، أو مالاً، أو حكمة، أو خبرة، أو خدمة، تشعر أن الله يحبك، وان الله قبل هذا العمل. حينما تخرج من ذاتك تعرف معنى السعادة الحقيقية.  



المصدر: فقه السيرة النبوية - الدرس : 24 - بيعة العقبة الأولى ـ الاعتناء بأولادنا