بحث

بيعة العقبة الثانية

بيعة العقبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

     أيها الإخوة، في العام التالي الذي تلا بيعة العقبة الأولى قدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم من مسلمي الأوس والخزرج 73 رجلاً وامرأتان، وترون أن النساء كن في البيعة الأولى وفي بيعة العقبة الثانية، فالمرأة كما هو ثابت مساوية للرجل في التكليف والتشريف والمسؤولية وهي شبه الرجل عند الله، لكن للمرأة خصائص، وللرجل خصائص، وخصائص كل منهما كمال مطلق للمهمة التي أنيطت بهما. فبايعوه بيعة العقبة الثانية، هذه البيعة التي بايع بها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نبيهم من نوع بيع  النفس ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾  بايعوه أن يمنعوه إذا قدم عليهم، وهاجر إليهم بايعوه، أي منعوه مما يمنعون منه نسائهم وأبناءهم وأنفسهم. 

     وهذه البيعة هي نقطة التحول الكبرى في تاريخ الدعوة، حيث أصبح للإسلام دار يمكن أن يتخذ قاعدة للانتشار، وهو ما حصل بالفعل، فأذن النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إلى المدينة. أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم في مكة المكرمة مُنعوا أن يجابهوا أحداً:  ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾  لم يكن هناك إذن في مكة المكرمة أن يجابه المسلمون أحداً، مع أن قريشاً بالغت في التنكيل بهم، وفي تعذيبهم، وفي مقاطعتهم، وبأعمال لا تحصَى، ومع ذلك التوجيه القرآني، وتوجيه النبي عليه الصلاة والسلام يمنع أن تكون هناك مواجهة بين المسلمين في مكة، وبين أعدائه، وقد يسأل أحدكم: لماذا؟ لأن البيت الواحد فيه مسلم، وفيه مشرك، فلو سُمح بالمواجهة لكانت حرباً أهلية، المسلمون في مكة ليس لهم كيان، مؤمنون متفرقون يجمعهم النبي عليه الصلاة والسلام، لكن ليس لهم كيان، لذلك كانت بيعة العقبة تحولاً كبيراً في الدعوة إلى الله، صار هناك مكان يضم المسلمين، ثم صار هناك كيان، ثم صار هناك مجتمع، وعلى رأس هذا المجتمع رسول الله، عندئذٍ لما كان هناك كيان مستقل له قيادة مؤمنة، قال تعالى:  ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾. 

     الآن يحدثنا الصحابي الجليل كعب بن مالك الأنصاري عن تفاصيل بيعة العقبة الثانية فيقول: خرجنا إلى الحج، وواعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ يعني تواعدنا معه ـ بالعقبة من أوسط أيام التشريق. اليوم الأول من أيام عيد الأضحى المبارك في يوم النحر، والأيام الثلاثة اسمها أيام التشريق، فهذه البيعة كانت في أوسط أيام التشريق، فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم نتسلل تسلل القطا مستخفين ـ الإسلام ضعيف، سيد الخلق لن يستطع أن يعدهم في وضح النهار، حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة ونحن 73 رجلاً، ومعنا امرأتان من نسائنا، فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم.  وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذٍ على دين قومه، إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه، وأن يتوثق له، فلما جلس كان أول المتكلمين العباس بن عبد المطلب، فقال: يا معشر الخزرج إن محمداً منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا، ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عز في قومه، ومنعة في بلاده، وإنه قد أبى إلا الانحياز لكم، واللحاق لكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه، ممن خالفه فأنتم، وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه، وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الآن فدعوه فإنه في عزة ومنعة من قومه وبلده.. فقلنا له: لقد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت. قال: فلتكلم النبي عليه الصلاة والسلام فتلا القرآن، ودعا إلى الله ، ورغب في الإسلام، ثم قال:  أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم ، فأخذ البراء بن معرور بيده، ثم قال: نعم والذي بعثك بالحق نبياً لنمنعك مما نمنع منه أزواجنا، فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحروب، وأهل الحلق، ورثناها كابراً عن كابر، قال: فاعترض القول، والبراء يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إننا بيننا وبين الرجال حبالاً، إن بيننا وبين الرجال ـ أي اليهود الذين كانوا في المدينة ـ حبالاً وإنا قاطعوها، ـ يعني اليهود ـ فهل عفيت إن نحن فعلنا ذلك، أيْ قطعنا علاقاتنا مع اليهود، وانضممنا إليك، فعل عفيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم إن أظهرك الله، ونصرك أن تدعنا، وأن تتركنا إليهم؟ فقال عليه الصلاة والسلام، وهو سيد الأوفياء، وسيد الأسخياء، وما عرف التاريخ أوفى من رسول الله، قال:  ((بل الدم الدّم، والهدم الهدم، أنتم مني، وأنا منكم، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم))   قال كعب، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  ((أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبا ليكونوا على قومهم بما فيهم، فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبا، منهم تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس))  هؤلاء النقباء هم نخبة، هؤلاء الذين بايعوا النبي عليه الصلاة والسلام، وبعد هذه البيعة قام العباس بن عبادة فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: والله الذي بعثك بالحق، إن شئت لنميلن على أهل مِنى غداً بأسيافنا، نحارب معك غداً، فقال عليه الصلاة والسلام:  لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم ، فرجعوا إلى رحالهم. 

     وفي صباح اليوم التالي ـ الآن دققوا ـ جاءهم جمع من كبار رجال قريش يسألونهم عما بلغهم من بيعتهم النبي صلى الله عليه وسلم ودعوتهم له بالهجرة، هم سألوا عامة أهل الخزرج، فقال المشركون: وحلفوا بالله بأنهم لم يفعلوا كذلك، هم سألوا أناساً ما حضروا بيعة العقبة، فأقسموا بالله أنهم ما فعلوا كذلك، أرأيت إلى قول الله عز وجل:  ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا﴾   فحلف المشركون من الخزرج والأوس بأنهم لم يفعلوا ذلك، والمسلمون ينظرون إلى بعضهم، وبذلك مرت هذه الأزمة بسلام، وعاد الأنصار إلى يثرب، وهم ينتظرون هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، والمسلمين بلهف كبير.  



المصدر: فقه السيرة النبوية - الدرس : 25 - بيعة العقبة الثانية