المفهوم الأول للهجرة: الحركة
بادئ ذي بدء، الهجرة حركة، وليست سكوناً، لذلك الإسلام حركي، وليس الإسلام سكونياً، أي أنك استمعت، وأعجبت، وأثنيت، ومدحت، وقدرت، وأكبرت، ولم تفعل شيئاً فأنت لست على شيء. ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ﴾ ويا أيها المسلمون، لستم على شيء حتى تقيموا أحكام القرآن في حياتكم، الإسلام حركة، سلوك، التزام، عطاء، صلة، مجاهدة، فإذا بقي الإنسان معجباً بالإسلام إعجاباً نظرياً، أو إعجاباً سكونياً، أو إعجاباً لا يثمر عملاً، هذا فالإنسان أبعد شيء عن حقيقة هذا الدين. كان من الممكن أن يستمر الإسلام في مكة المكرمة بترتيب إلهي، أن يخضع أهل مكة إلى النبي، ويبقى النبي في مكة، ولكن لماذا شاءت حكمة الله أن تشتد المعارضة في مكة، وأن يبالغ القرشيون في التنكيل بأصحاب النبي، وأن يبدو الطريق مسدوداً للدعوة في مكة، عندها كانت الهجرة. ﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾ . أوسع معنى للهجرة أنها حركة، والإسلام حركة. أنت مهاجر، بعد ما أغُلق باب الهجرة من مكة إلى المدينة هو في الحقيقة مفتوح بين كل مدينتين يشبهان مكة والمدينة، أما الهجرة بالذات من مكة إلى المدينة فأُغلق بابها، لقول النبي عليه الصلاة والسلام ((لا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ)) لكن بين أيّ مدينتين تشبهان مكة والمدينة الهجرة قائمة بينهما.
ولكن متى ينبغي أن تهاجر؟ ومتى ينبغي ألا تهاجر، أضرب مثلاً: أُرسلتَ ببعثة إلى بلد غربي لتنال الدكتوراه، من جامعة بالذات، إذا مُنعت من دخول هذه الجامعة، وقرار إيفادك ينص على هذه الجامعة، ولم يسمح لك بالانتساب إلى هذه الجامعة أيعقل أن تبقى في هذا البلد؟ الجواب: لا، علة وجودي الوحيدة في هذا البلد أن أنتسب لهذه الجامعة، وأن أنال الدكتوراه، فإذا مُنعت من أن أنتسب إليها فلا معنى للبقاء في هذا البلد، هذا المثل. التطبيق: هل يعلم الأخ المؤمن ما علة وجوده في الأرض؟ أن يعبد الله. ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ فإذا كنت في مكان، وحيل بينك وبين أن تعبد الله، وحيل بينك وبين أن تحقق علة وجودك في هذا المكان، هل تبقى في هذا المكان؟ إن كان في الإمكان أن تعبد الله في مكان فابقَ فيه، وإذا كان في الإمكان أن تصلح هذا المكان ليتاح أن تعبد الله فيه فابقَ في هذا المكان، أما إذا مُنعت أن تعبد الله، وأنت لا تستطيع أن تفعل شيئاً في هذا المكان فعليك أن تغادر هذا المكان إلى مكان تعبد الله فيه، هذا كلام، ما الدليل؟ لولا الدليل لقال من شاء ما شاء، الدليل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ﴾ و المعنى الأول ل ] مُسْتَضْعَفِينَ [ : لا نستطيع أن نؤدي شعائر الإسلام، لا نستطيع أن نصلي، لا نستطيع أن نحجب نساءنا، يعني كان الذي يتولى الأمر يمنع الناس أن يحققوا شعائر دينهم. المعنى الثاني ل ] مُسْتَضْعَفِينَ [ : الضعف أمام الشهوات، ضعفنا في مكان ما أمام الشهوات، فإذا كان الإنسان في بلد البلد المعاصي ترتكب على قارعة الطريق، وفي الحدائق، وأمام الناس، ترتكب الفاحشة العظمى في الطريق فليهاجر.
المفهوم الثاني: أن تترك ما نهى الله عنه
أيها الإخوة، وفي معنى واسع آخر ذكره النبي عليه الصلاة والسلام فقال: ((وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ)) المعنى الثاني الذي ذكره النبي عليه الصلاة والسلام الذي يوسع معنى الهجرة. تركت هذه الحرفة التي بُنيت على معصية، فأنت مهاجر تركت هذه السهرة التي فيها اختلاط فأنت مهاجر، تركت هذه العلاقة التجارية التي فيها شبهة فأنت مهاجر تركت إيداع المال في مؤسسة ربوية، وأخذت رأس مالك فأنت مهاجر. لما تنتقل فجأة في وضع فيه معصية إلى وضع في طاعة فأنت مهاجر عند الله، سهرة لا ترضي الله، فيها لعب نرد، وفيها غناء، فيها مقاهٍ، فيها نساء كاسيات عاريات، والسهرة عمرها عشر سنوات، بعد أن عرفت الله أنا أعتذر، أنا لا أجلس في مثل هذه الجلسات، أنت مهاجر. لك حرفة مبنية على معصية غيّرها. حدثني أخ قال لي: عندي مطعم، من خمس وعشرين سنة مسموح فيه الخمر، قال لي: والله أرباحي فلكية، أنا متعاقد مع 18 شركة أجنبية، لكن فيه خمر، تاب إلى الله، بعد أن تاب إلى الله هبط الدخل إلى واحد من عشرين، لأن 18 شركة ألغوا العقد معه باعتبار إلغاء الخمر، صاحب هذا المطعم ما تصنيفه عند الله؟ مهاجر، هذا هجر المنكر.
المفهوم الثالث: هجرة المعاصي
قال رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ)) أي في زمن الفتن، في زمن النساء الكاسيات العاريات، المائلات المميلات، في زمن الفضائيات، في زمن الإنترنت، في زمن أن يعم الفسق والفجور أهل الأرض، في زمن أن يصبح المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، في زمن لا يأمر الناس فيه بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر، في زمن أن يأمر الناس بالمنكر، وينهون عن المعروف، في زمن أن يصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً، في زمن أن تضيع الأمانة، وأن يكذب الصادق، وأن يصدق الكاذب، وأن: ((يكون الولد غيظا، والمطر قيظا، وتفيض اللئام فيضا، وتغيض الكرام غيضا)) في زمن يذوب قلب المؤمن في جوفه مما يرى ولا يستطيع أن يغيّر، إن تكلم قتلوه، وإن سكت استباحوه، في زمن موت كعقاص الغنم لا يدري القاتل لمَ يقتل؟ المقتول فيمَ قُتل، تطهير عرقي، في زمن التناقضات، في زمن أن تحتقر الأَمَة ربّتها التي ربّتها، تقول: أمي دقة قديمة، هي مثقفة، في زمن أن يوسد الأمر لغير أهله، في زمن أن ترتكب المعصية على قارعة الطريق، في زمن أن يكون الفجار هم علية القوم، في هذا الزمن: ((الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ)).
أيها الإخوة الكرام، قضية الهجرة تدخل في حياتنا اليومية، الهجرة حركة، الهجرة موقف، لكن أخطر شيء بالموضوع:
﴿وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾
والمستضعف ينبغي أن يهاجر، أي الذي مُنع من أداء شعائره الدينية، أو ضعفت نفسه أمام الشهوات المستعرة في تلك البلاد، والعقاب جهنم ، ﴿فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ الوعيد مخيف، لأنك حينما لا تستطيع تحقيق علة وجودك ببقائك في هذا البلد أو في بلد لا تستطيع أن تؤدي به شعائر الله، ولا أن تقيم أمره، أو أن تضعف أمام شهواتك هذا بلد يلغي آخرتك.